سِفْر التثنية
الدَّرْس تِسعة وأربعين – الإصْحاحان ثلاثة وثلاثين وأربعة وثلاثين (نِهاية السِفر)
نُكمِل هذا الأسْبوع رِحْلَتَنا التي تَسْتَغْرِق ما يَقرب من خمس سنوات في التَّوراة. بعد أن نَنْتهي من التَّوراة سنَبْدأ سِفْر يَشوع. جِزْء من السَّبَب في المَضي قُدُمًا بهذه الطريقة هو أن يَشوع غالبًا ما يُسَمّى الكِتاب السادِس من التَّوراة. يَروي يَشوع إتْمام التَّوراة بِمَعْنى أنه يُكْمِل رِحْلَة بني إسرائيل من مِصر إلى أرض الميعاد. لو تَوَقَّفْنا عند نِهاية سِفْر التثنية لكان بنو إسرائيل مُسْتَعدِّين للدُّخول، واقِفين على الحُدود يَنْتَظِرون إشارة الرَّب ليَدْخُلوا إلى مكان الرّاحة الذي أَعدّه لهم، ولكن الهَدَف من الخُروج لم يَكُن الرِّحلة بِحَدّ ذاتها، بل الهَدَف يَكْمُن في نِهاية الرِّحلة، أي امْتِلاك الأرض فِعْلِيًّا.
لقد تَوَقَّفْنا في المَرَّة السَّابِقة مع سِفْر التثنية ثلاثة وثلاثين على تسعة، مُبارَكَة موسى لقَبيلَة لاوي الكَهْنوتيَّة. انْتَهَيْت بِشَيْء أُريد أن أتَوَقَّف لَحْظةً لِمُراجَعَته والتَّعْليق عليه. إنها كَلِمات الآية التاسعة في ضَوْء نَظيرَتها في العهد الجديد، لوقا أربعة عشر على خمسة وعشرين.
يقول سِفْر التثنية ثلاثة وثلاثين على تِسعة ما يلي:
الكِتاب المُقَدَّس اليهودي الكامِل سِفر التثنية ثلاثة وثلاثين على تسعة: "الَّذِي قَالَ عَنْ أَبِيهِ وَأُمِّه: لَمْ أَرَهُما، وَبِإِخْوَتِه لَمْ يَعْتَرِف، وَأَوْلاَدَه لَمْ يَعْرِف، بَلْ حَفِظُوا كَلاَمَك وَصَانوا عَهْدَك".
كان هذا يُشير إلى مأساة سِفْر الخُروج إثنين وثلاثين عندما كان موسى عائدًا من قِمَّةِ جبل سيناء حامِلاً الوصايا العَشر بين يَدَيْه لِيَجِد كل بني إسرائيل يَمْرَحون ويَعْبَدون العِجْل الذَّهَبي الذي صَنَعَه هارون، الذي كان سَيُصْبِح رئيس كَهَنَة إسرائيل قَريبًا، للشَّعْب لأنَّهُم ضَغَطوا عليه للقِيام بذلك. أَعْلَنَ موسى أن الله سوف يُهْلِك كل مَن ظَلّوا مُخْلِصين لذلك الإلَه الكاذِب، ثم قال إن كل من وَقَف مع يَهْوَهْ يَجِبُ أن يأتي ويَقِف مَعه. هَرَع هارون وأبْناء هارون والجِزْء الأكبر من لاوي إلى جانب موسى على الأقل جِزْئيًا لأن موسى كان لاويًّا (لذلك كان هذا مُجَرَّد وَلاء قَبَلي بَسيط). ومن ناحية أخرى، فإن أولئك الَّذين هَرَعوا إلى موسى كانوا يؤمِنون بكَلِماته بأن هذه هي نِقْطة الحَسْم؛ كانت هذه هي اللّحْظة التي سَيَنْقَسِمْ فيها الشَّعْب إلى أولئك الَّذين كانوا مع الله ضدّ أولئك الَّذين اتَّحَدوا مع إلَه آخر ومُخْتَلِف.
ومن ثم أَصْبَحَت المُهِمَّة غير السَّارة لأولئك المُخْلِصين للرَّبِ القَدير أن يَقْتلوا بالسَّيْف الآلاف من العِبْرانيّين المُتَمَرِّدين الَّذين رَفَضوا الرُّجوع عن وَثَنِيَّتهم؛ ومن بين أولئك الَّذين رَفَضوا وأصْبَحوا بالتالي أهْدافًا هم اُمَّهات وآباء وأبناء بعض اللّاوِيِّين الَّذين اجْتَمَعوا مع موسى. هل يُمْكِنكم أن تَتَخَيَّلوا عَذاب أولئك الَّذين غَرَزوا سُيوفهم وخَناجِرهم في قُلوب آبائهم واُمَّهاتهم، وفي بعض الحالات أبْنائهم وبَناتهم؟ ولكن على الرَّغم من هذا الواجِب البائس والفَظيع الذي قام به أولئك الَّذين يُدينون بالوَلاء ليَهْوَهْ، لم يَكُن ذلك من تِلْقاء أنْفُسهم، بل بأمْرٍ من يَهْوَهْ. لم يَكونوا يُريدون أن يَفْعَلوا ذلك ولم يَشْعُروا بأي عَداء، ناهيكَ عن الكَراهية تِجاه عائلاتهم وأصْدِقائهم. لقد كانت مَسْألة طاعة. وكانت هذه هي طريقة الله النَّموذَجِيَّة، حقًا، في إقامة العَدْل على البَشَر؛ فهو يَسْتَخْدِم البَشَر بانْتِظام لِتَحقيق عَدْلِه.
في هذه الخَلَفِّيَّة لدينا كَلِمات يسوع المُقْلِقَة من لوقا أربعة عشر التي كثيرًا ما أُسيء فَهْمها من قبل تلاميذ المسيح نَفْسَه. هناك في الآية الخامسة والعشرين يقول يَسوع هذا لِبَعْض اليهود الَّذين كانوا يُفَكِّرون في إتْباعه:
الكِتاب المُقَدَّس اليهودي الكامِل لوقا أربعة عشر على خمسة وعشرين: "وَكَانَ جُمُوعٌ كَثِيرَة سَائِرِين مَعَه، فَالْتَفَتَ وَقَال لَهُمْ: «إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَأْتي إِلَيَّ وَلاَ يُبْغِض أَبَاه وَأُمَّه وَامْرَأَتَه وَأَوْلاَدَه وَإِخْوَتَه وَأَخَوَاتِه، حَتَّى نَفْسهُ أَيْضًا، فَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذًا."
على الرَّغم من أن يَسوع لم يَكُن يَقْتَرِح أن يَقْتُل التلاميذ الجُدَد أقارِبهم، أو ”يُبْغِضهم“ بالمعنى الشائع لكَلِمَة ”البُغْض“ اليوم، إلا أنه يَعني أن على هؤلاء التلاميذ المُحْتَمَلين أن ”يَتجاهَلوا“ هؤلاء الأقارِب إذا كانوا يَقِفون في طريق تَسليم حياتهم للمَسيح. الرِّسالة هي أنه إذا كانت عائلتك تَجْعَلك تَخْتار بين عِلاقة مع المسيح وعِلاقة معها، فَعَلَيْك أن تَقْبَله وتَرْفُضهم.
إن المَعْنى العِبْري لِما يُترجَم عادةً في اللّغة الإنجليزية بكَلِمَة ”الكَراهية“ هو الرَّفْض أو عَدَم الاكْتِراث، على عَكْس المعنى الحديث لكَلِمَة ”الكَراهية“، وهو أن يكون لَدَيْك أشدّ مُستوى مُمْكِن من الكَراهية والازْدِراء تِجاه شخص ما. إذًا يسوع لا يُخْبِر تلاميذه المُحْتَمَلين بأن عليهم أن يُنَمُّوا عَداءً يَكاد يكون اجْتِماعِيًا لأقارِبهم، بل يُخْبِرَهم أنه يَجِب ألا يُظْهِروا أي اعْتِبار لِرَغبات أفراد العائلة المُقَرَّبين هؤلاء إذا أصَرُّوا على أن التِّلميذ المُحْتمَلَ لا يُعْطي الولاء ليَسوع كَرَبّ ومُخَلِّص.
غالبًا ما يَتِمّ الاسْتِشْهاد بهذه الآية في لوقا (عن خطأ) ضدّ الوَصِيَّة "أكْرِم أباك وأمّك". أي أن يَسوع تكلَّمَ بِوَصِيَّة جديدة ألغت الوَصِيَّة السّابقة. أنا أعْرِف شَخْصِيًّا حالات، وحَدَّثَني آخَرون عن حالات، حيث قرَّر شاب أو شابَّة أنه يريد أن يَدْخُل في الخِدْمة المسيحيَّة وقد مَنَعَه والداه من ذلك. هو أو هي يَمضي قُدُماً ويَفْعل ذلك على أي حال، وهذا يُعْتَبَر تَعارُضاً بين وَصِيَّة التَّوراة ”أكْرِم أُمَّك وأباك“ ووَصِيَّة المسيح ”إكْرَهْ أُمَّك وأباك“ إذا لزم الأمر من أجل القيام بِعَمَل مُخَلِّصنا. في حين أن هذا لا يُجيب بالضَّرورة على السّؤال عمّا يَجِب أن يَفْعَله ذلك الشاب في هذا الظَّرف، ولكن المَقْصود هو أن قَوْل المسيح في لوقا ليس في مُقابِل وَصِيَّة التَّوراة ”أكْرِم أباك وأُمَّك“، بل هو في مقابل ما حَصَل في حادِثة العِجْل الذَّهَبي عند سَفْح جَبَل سيناء.
بالمُناسَبَة؛ لا تَظُنّ أبدًا أن ما كان مَطْلوبًا من أْوِلياء الله في البَرِّية هو شَيْء من الماضي قد لا نُواجِهه أنا وأنت، لأنه في مَعْركة هَرْمجدون سوف يَتِمّ رَسْم الخَطّ مَرَّة أخرى مع أولئك المُتَحالِفين مع يَهْوَهْ في جانب وأولئك المُعارِضين في الجانب الآخر من دون وُجود حَلّْ وَسَط مُمْكِن. وكما كان جميع بني إسرائيل في وقت من الأوقات هم الَّذين اشْتَرَكوا معًا في عِبادة العِجْل الذَّهَبي، ولكن عند دَعْوة الوَسيط أدْرَكَ البعض ما كانوا يَفْعَلونه وتابوا وَوَقفوا مَرَّة أخرى مع الله، هكذا هو الحال مع كل إنسان مؤمِن. لقد وُلد كل واحد منا مُعارِضًا لله، مِمّا يَضَعُنا في وَضْع مُماثِل لبني إسرائيل الَّذين عَبدوا العِجْل الذَّهَبي؛ وكان علينا في مَرْحْلَة ما أن نَتَّخِذ قَرارًا واعِيًا لِقُبول دَعْوة الله لتَرْك الطريق القديم بِوَلاءاته والوُقوف معه بَدَلاً من ذلك. كما يوضِح سِفْر الرؤيا بِشَكْلٍ قاسٍ، سيكون من واجِبْنا المأساوي (كأولَئك الَّذين يَخْتارون الوُقوف مع يسوع المسيح) أن نَتْبَع أوامِره بالانْضِمام إليه في حَرْبٍ مُقَدَّسة، وكمُحارِبين مُقَدَّسين أن نَذْهَب ضدّ كل أولَئك الَّذين ما زالوا يُعارِضون الله ونَقْتُلَهم؛ وسَيَشْمُل ذلك في بعض الحالات أفْراد عائلتنا تَمامًا كما حَدَث للّاوِيّين. لذلك إن لم تَجِد في نَفْسك إلْحاحًا من قَبْل لِتَبْشير أفْراد عائلتك بالبِشارة السَّارّة، فَرُبَّما عليك أن تُفَكِّر في أنَّك في المُسْتَقْبَل غير البعيد قد تَقِف أمامهم والسَّيْف في يَدِك ولا خيار أمامك سوى أن تكون الشَّخص الذي يَعْمَل كَوَكيل الله لإنْهاء وُجودهم وإرْسال أرْواحهم المُظْلِمة إلى النّار الأبَدِيَّة. هذه هي الحالةُ البَشَرية التي يُخَلِّصنا الله مِنها؛ هذه هي النَّتيجة المُدَمِّرَة للخطيئة.
لذلك ونتيجة لما فَعَله اللّاوِيّون في الآية التاسعة، فقد كوفِئوا بالامْتِيازات الوارِدة في الآية العاشرة؛ سيَكونون مُعضلِّمين لِشَعْب إسرائيل في البِرّ والقداسة، وسيَخْدُمون الرَّبَ مُباشرةً بالطُّقوس المُخْتَلِفة المَنْصوص عليها في النَّاموس.
دعونا نُعيد قِراءة جِزْء من سِفْر التثنية ثلاثة وثلاثين:
أعِد قراءة سِفْر التثنية الإصْحاح ثلاثة وثلاثين على تسعة حتى النِّهاية
كانت القَبيلَة التالية التي نالَت بَرَكَةَ موسى هي بِنْيامين. ستَحْتَلّ قبيلة بِنْيامين منْطَقة صغيرة كنَوْع من المنْطَقة العازِلة بين أقوى قَبيلَتَيْن: أفرايم ويَهُوَّذا. في الواقع ستُبنى أورَشليم والهَيْكَل المُقَدَّس على الحُدود الجَنوبِيَّة للمنْطَقة المُخَصَّصة لبِنْيامين. أرى في بولس الرَّسول نَوْعاً من التَّوْضيح الرّوحي النَبَوي لِمَكانة بِنْيامين الجُغْرافيَّة والسِّياسِيَّة؛ لأن القِدّيس بولُس كان من بِنْيامين، وكان مُكَلَّفاً بالاخْتِلاط مع الأُمَمِيِّين (كان عليه أن يكون عازِلاً بين يهود يَهُوَّذا والأممِيِّين).
تقول الآية الثانية عشرة أن بِنْيامين هو ”حَبيب أدوناي“؛ وبِعِبارة أخرى كان يُنظر إلى بِنْيامين بِنِعْمة خاصَّة وأن الرَّب سيَسْتَريح بِجانِب بِنْيامين. أَعْتَقِد أن هذه إشارة مُباشرة إلى خَيْمَة الإجْتماع التي سَتَسْتَقِرّ لِفترة طويلة في أرض بِنْيامين ثم فيما بعد سيُبْنى الهَيْكَل في أورَشليم التابِعة لبِنيامين.
الآية الثالثة عشرة تَتَناوَل يوسِف أو بِعِبارةٍ أَفْضَل، أسْباط يوسف. والسِّمات الأساسِيَّة لأسْباط يوسف (الَّذين يُمَثِّلهم أفرايم زمَنَسَّى) هي الإخْصاب والزِّيادة. حتى أن هذا الإخْصاب يَتِمّ التَّعْبير عنه في مَعاني إسْمَيْ يوسف (لِيَزيد) وإفْرايم (جَعَلَني الله مُخْصِبًا). وفي ذلك العَصْر كان الشَّرْط الأوَّل للخَصْب هو المَطَر والماء؛ فعَدَم المَطَر يَعني عدم وُجود مَحاصيل ولا مَرْعى، وهذا هو معنى العِبارة عن نَدى السَّماء.
في الكِتاب المُقَدَّس اليهودي الكامِل نرى الاسْتِخْدام السُّداسي لكَلِمَة ”أَفْضَل“ لما سيأتي لأسْباط يوسف. ولكن الكَلِمَة العبريَّة هي "ميجيد" ورُبَّما الكَلِمَة الأَفْضَل لِتَرْجمَتِها هي الخَيْرات أو الوَفْرة. الخَيْرات من الأعْماق تُشير إلى اليَنابيع العُيون من مَصادر المياه الجَوْفية. وَفْرة الشمس ضروريَّة للمَحاصيل، وفي إسرائيل هناك الكثير من الشمس لِدَرجة أنهم يَسْتَطيعون بِشَكْلٍ عام إنتاج أربعة مَحاصيل في السنة. وبما أن الأشْهُر والفُصول كانت تُقاس بالأقمار وأطْوارِها فإن هذا الذِّكْر لخَيْرات القَمَر هو (كما كل الإشارات السَّابِقة) زِراعي. كانت خَيْرات الجِبال والتِّلال هي الأشجار والخَشَب والحَجَر الجيري والمعادن الثَّمينة وأنواع مُخْتَلِفة من الطَّعام. ثم يقال إن كل هذه الخَيْرات تكون على رأس يوسف الذي هو الأمير بين إخْوَته.
اسْمَحوا لي أن أُذَكِّركم لأنه ما لم نَفْهَم مَوْقِف يوسف ومُمَثِّليه من أسْباط أفرايم ومَنَسَّى، ومَوْقف يَهُوَّذا، فإننا يُمْكِن أن نُسيء فَهْم الكثير من النّبوات والكثير من مَقاطِع العهد الجديد. لقد حَصَل يوسف على نِصْف بَرَكَة البِكْر من أبيه يعقوب وذَهَب النِصْف الآخر من بَرَكَة البِكْر إلى يَهُوَّذا. تتألَّف بَرَكَة البِكْر التَّقْليديَّة عند العِبْرانيّين من جِزْأين: الجِزْء الأول هو انْتِقال السُّلْطة والسُّلْطان على القَبيلَة أو الأُمَّة إلى الابْن البِكْر، والجِزْء الآخر هو إعطاء ثَرْوة مادِّية أكثر من بَقِيَّة الوَرَثَة. وهذا الجِزْء الأخير كان يُسَمَّى نِعْمَة ”النَّصيب المُضاعَف“ لأن البِكْر كان يَحْصَل بِشَكْلٍ عام على ضُعْف ما يَحْصَل عليه أي من إخْوَته. في تَصَرُّف غير مألوف لِلْغاية يُخالِف العِرْف الشرق أَوْسَطي، قام يعقوب بِتَقْسيم بَرَكَة البِكْر وأعْطى السُّلطة على الأُمَّة ليَهُوَّذا، والنَّصيب المُضاعَف من الثَّرْوة ليوسف. أو من الأَفْضَل أن تكون البَرَكَة ذات النَّصيب المُضاعَف قد خُصِّصَت لإبْنَي يوسف، أفرايم ومَنَسّى، اللّذَيْن رُفِعا إلى مكانة مُساوية لأبناء يعقوب بدلاً من مَكانتهما الطَّبيعية كأحْفاد يعقوب.
ولكن بعد ذلك نَحصل على هذا الوَصْف الغريب عن أسْباط يوسف في الآية السابعة عشرة التي تقول إنه يُشْبِه الثَّوْر البِكْر في الجَلالة، وأن له قُرونًا كالثَّوْر البَرّي. الثَّوْر البِكْر هو من أَسْمى الذَّبائح التي يُمْكِن أن تُقدَّم في خَيْمة الاجْتماع، ويأتي في المَرْتَبَة الثانية بعد الثَّوْر البالِغ من العُمْر ثلاث سنوات وهو يَدلّ على قُوَّة عظيمة. إن نَطْح الثوْر البَرّي لأعْدائه يَرْمُز إلى المُحارب القَوي الجَبّار في المَعْرَكة. إذًا نَنْتَقِل من كَوْن أسْباط يوسف مُثْمِرين إلى كَوْنِهم أيضًا عُظَماء في العَدَد، ويَمْتَلِكون جَيْشًا عَظيمًا، ومُحارِبين جَيِّدين. ثم يَتِمُّ التَّحَدُّث عن النِّسَب النِّسْبِيَّة لأسْباط يوسف، إفرايم ومَنَسَّى، بِعِبارات نَبَوِيَّة: سَيَتألَّف أفرايم من عدد لا يُحصى (عشرات الآلاف)، وسيَتألَّف مَنَسّى من آلاف. وقد ثَبَتَت صِحَّة ذلك؛ فقد سَيْطَرَ أفرايم في نِهاية المَطاف على المناطِق الشَّمالية من إسرائيل مع تسع قبائل شماليّة أخرى (بما في ذلك قَبيلَة شقيقِه مَنَسّى) تحت هَيْمَنَتها. وفي النِهاية امْتَدَّ نُفوذَهم إلى أقاصي الأرض، ولكن جاء ذلك بِطَريقة ساخِرة؛ فقد غَزاهُم الآشوريُّون وتشتَّتوا قَسْراً في جميع أنحاء القارَّة الآسْيَوِيَّة الشَّاسِعة. وسُرْعانَ ما أصْبَح الجِزْء الأكبر من شعب الأسْباط العشرة الَّذين تَشَتَّتوا أُمَمًا حيث اخْتَلَطوا تَمامًا بالأعْراق الوَثَنِيَّة الكثيرة في آسيا لِدَرَجة أنهم فَقَدوا هَوِيَّتهم العِبرانيَّة (وهذا ما تَنَبَّأَ به هوشع وإشعياء، وفي سِفْر هوشَع قال الله أن هؤلاء الأسْباط العَشَرة سَيُصْبِحون لو-أمي أي غير شعب بالنِّسبة له). ومع ذلك، وكما اكْتَشَفْنا مُؤَخَّرًا فقط، تم العُثور على بقايا تَمْثيليَّة لكل واحدة من تلك الأسْباط العشرة التي يُفترَض أنها مَفْقودة ومُنْقَرِضة سليمة، وكل منها بِهَوِيَّة قَوِيَّة لإسْمها وتُراثها القَبَلي الإسرائيلي القديم. ليس من المُسْتَغْرَب أن تكون إحْدى أكبر تلك القبائل ”المَفْقودة“ المُكْتَشَفة هي قَبيلَة مَنَسّى، والعديد منهم الآن يُهاجِرون إلى إسرائيل.
زبولون هي القَبيلَة التالية التي تَمَّت مُناقَشتها. تُخبر الآية الثامنة عشرة شعب زبولون أن يَفْرَحوا في رِحْلاتهم؛ لطالما ارْتَبَط إسم زبولون بِكَوْنهم تُجّارًا. وبالمِثْل يُقال لإسْحاق أن يَفْرَحوا بِخِيامهم؛ كانت الخيام هي المنازل الدائمة للرُّعاة لأنَّهُم كانوا مُتَنَقِّلين. لطالما ارْتَبَط إيساشار دائمًا بالرَّعي وتَرْبية المواشي. وهناك تقليد قَوي عن إيساشار وزبولون يتردَّد صَداه أيضًا في الآية التاسعة عشرة؛ لقد شَكَّلوا شراكةً قَوِيَّة وَوَلاءً مع بَعْضِهم البعض ممَّا جَلَبَ الازْدِهار لِكِلَيْهِما.
ينال جاد بَرَكَته في الآية عشرين. تَكْبير جاد يعني زِيادة عدد السُّكان. كان جاد أحد الأسْباط الثلاثة التي قرَّرت، كُلِّيًا أو جِزْئيًا، قُبول أرضٍ خارِج أرض الميعاد كنَصيبٍ لها. رُبَّما حَصَل جاد على أراضي المراعي والمحاصيل الأكثر تَمَيُّزًا من أي من القبائل. كان جاد مَعْروفًا أيضًا بامْتِلاكه قُوّات مُدَرَّبة تدريبًا عالِيًا، وإن لم يَكُن بالضَّرورة أكبر جَيْش، ولذلك يَسْتَخْدِم رَمْز المُحاربين الأشِدّاء حيث تقول الآية أن جاد راقِد هناك كالأسَد المُسْتَعِد للهُجوم. تُذَكِّر الآية واحد وعشرين مَسْألة اخْتِيار جاد البقاء خارِج أرض الميعاد عندما تقول إنه اخْتار لِنَفْسه الأَفْضَل. ”الأَفْضَل“ تعني الأرض الخَصبة والمُمْتازة.
ويقال إن دان، مثل جاد، لدَيْه قُوَّة تُشْبِه قُوَّة الأسد وقِدْرة على القِتال. كانت قَبيلَة دان في الأصْل قد خُصِّصَت لها الأراضي المُنْخَفِضة المُتاخِمة لأراضي الفِلَسْطينِيّين سَيِّئي السّمعة، ثم هاجَرَت فيما بعد (نتيجة لِمُضايقات هؤلاء الفِلَسْطينِيّين) إلى أقْصى شمال كنعان. وهناك اسْتَوْلوا على مدينة لايش المُقَدَّسة، وغَيَّروا إسْمَها إلى دان، وسَقَطوا بعيدًا عن الله وفي عِبادة الأوثان الرَّهيبة.
كان نفتالي مباركاً بأرض خَصبة جداً تقع على الشاطئ الغربي لبحر الجليل. كانت تُسقى بِشَكْلٍ جميل؛ كانت الأرض غَنِيَّةً والمناخ مُعْتَدِل. إن الإسْتِفادة من خَيْرات البحر بالإضافة إلى الأرض الخَصْبة أعْطَت نفتالي مَوْقعًا مِثاليًا تقريبًا كما يَعْرِف كل من سافَرَ إلى تلك المنْطَقة. وقد مُنِحَت أيضًا امْتِياز كَوْنها المِنْطَقة التي سيَتَرَبّى فيها المسيح في مدينة الناصرة.
بُورِك آشِر أيضًا بالخُصوبة لأنه اسْتَقَرَّ في الجليل الأعلى بين نفتالي والبحر الأبيض المتوسط. إن العِبارة التي تقول إن آشِر كان ”مُفَضَّل الإخْوة“ تَرْجَمَتُها ضعيفة؛ فهي تعني ”الأكثر حِظْوة“ بين الإخْوة بِمَعْنى أن آشِر كان مُبارَكًا بِشَكْلٍ كبير. إن القَوْل بأن آشر ”كان يَغْمِس رِجْله في الزَّيت“ لا يُشير إلى البِترول، بل يعني زَيْت الزَّيْتون. وبالفِعْل كانت تلك المِنْطَقة مَعْروفة بِجودة زَيْت الزَّيْتون الذي كانت تُنْتِجه. ويُعتقَد أن غَمْس رِجْله في الزَّيت يعني أنه كان هناك وَفْرة كبيرة من زَيْت الزَّيْتون في مِنْطقته.
وبما أن آشِر كانت تَحْتَلُّ المنْطَقة التي كان يَعْبرها طريق تِجاري رئيسي وطريقٌ عَسْكَري سريع، فقد كانت لهم الفائدة والخَطَر في آنٍ واحد. لذلك يُبارِك موسى آشِر بالحِكْمة والقُوَّة للاسْتِفادة من الوَضْع الاقْتِصادي والحِماية من الجُيوش الأجْنَبِيَّة بِبِناء دِفاعات قَوِيَّة من أجل الأمْن.
ابْتِداءً من الآية سِتة وعشرين، وبعد أن بارَك موسى كل سِبْط على حِدَة، يَخْتَتِمُ موسى بالاحْتِفال بِحِسْن حَظ بني إسرائيل كجَماعة كامِلة لتكون تحت عَيْن يَهْوَهْ السَّاهِرة. ولكن قَبْل أن نَذْهب إلى هناك، أتَساءل إن كان أحَدُكم قد لاحَظَ أنه لم يَتِمّ ذِكْر كل قَبيلَة في هذه البَرَكَة؟ لقد تمَّ تَخَطّي واحدة: سِمْعان. لِنَتَحَدَّث عن ذلك لِلَحْظة.
سمعان ولاوي هما ابْنا يعقوب اللَّذان حَصلا على ما يَرْقى أساسًا إلى اللَّعَنات بَدَلًا من البَرَكات في مُبارَكَة يعقوب لأبنائه على فِراش المَوْت. بعد بضْع سَنَوات أظْهَر لاوي جَدارة كبيرة في حادِثة العِجْل الذَّهَبي، وهكذا انْتَهى به الأمْر إلى اخْتِياره ككَهَنَة مُعَيَّنين من الرَّب على الرَّغم من لَعْنة يعقوب التي ستَظْهَر بِطُرق أخرى. ولكن ماذا عن سِمْعان؟ لقد تمَ لَعن سمعان مع لاوي لأنَّهُما تآمَرا معًا لمُهاجمة سكَّان شَكيم العاجِزين في العُصور الماضِيَة لانْتِقامٍ عائلي. يُثْبِت التاريخ أن سمعان انْتَهى به الأمْر كَقَبيلَة صغيرة جِدًّا وغير مُؤَثِّرة وَوَجَدَت نَفْسها مُحاطَة تَمامًا بأراضي يَهُوَّذا، لذا فقد كان مَحْكومًا عليها بالفَشل منذ البِداية. لم يَمْضِ وَقْت طويل بعد اسْتِقْرار أسْباط إسرائيل في كنعان اسْتُوعِبَت قَبيلَة سمعان من قِبَل يَهُوَّذا واخْتَفَت كَمنْطَقة مُنْفَصِلة وبِصَفة عامة كقَبيلَة مُنْفَصِلة تَتَمتَّع بالحِكم الذاتي. إلَّا أنه، وكما جَرَت العادة في المُجْتمعات القَبَليَّة، اسْتَمَرَّت ذِكْرى عائلة سمعان في الذّاكِرة حتى أن العديد من العِبْرانيّين عَرَّفوا أنْفُسهم على أنَّهم يَنْتَمون إلى ذلك التُّراث القَبَلي على الرَّغم من أنهم لم يَعودوا يَعْملون كقَبيلَة.
وإليك ما أجِدْه مُثيرًا للاهْتِمام: لدينا كَلِمات موسى الأخيرة في سِفْر التثنية ثلاثة وثلاثين كما وَرَدَت إلى الأسْباط الاثني عشر، ولكن إحدى القبائل (سمعان) قد لُعِنت، ولذلك تم اسْتِبْعادها، ولم يتبق سوى إحدى عَشَر قَبيلَة. لقد لوحِظ دائمًا أنه مِثْلما كان هناك إثنا عشر سِبْطا أصليًا من أسْباط إسرائيل الأصْليِّين، كان هناك أيضًا لإنثا عشر تِلميذًا أصليًا ليسوع. أحد هؤلاء التلاميذ كان رَجُلاً سَيِّئ السِّمعة اسْمُه يَهُوَّذا الإسْخَرْيوطي. هناك بعض الجَدل حول معنى كَلِمَة ”الإسْخَرْيوطي“؛ يقول البعض أنها تُشير إلى منْطَقة جُغْرافية تُسمَّى كاريوت. ويقول آخرون إنها تلاعُب على كَلِمَة ”سيكاريوت“. تَذكَّروا أن يَهُوَّذا كان مُتَشَدِّدًا أُصولِيًّا يُحاول إثارة تَمَرُّدٍ يهودي آخَر ضِدّ مُضْطهِدة اليهود، روما. تُظهر تَصَرُّفات يَهُوَّذا مدى تَطَرّفه في تسليم يَسوع إلى السُّلطات عندما قرَّر أن يَسوع لن يكون مُخَلِّص بني إسرائيل كما كان يأمَل يَهُوَّذا، لأن يسوع بِبَساطة لم يَكُن قائدًا عَسْكَريًّا يَحْمِل تَمَرُّدًا في ذِهْنه.
كان يَهُوَّذا غَيورًا؛ كان الغَيوريّون إسْم حزب سياسي يهودي. يُمْكِن مُقارَنَتَهم بالصُّهْيونيّين اليوم؛ الأشخاص الَّذين يَشْعرون أن اليهود وَحْدهم يَجِب أن يَحْتَلّوا و/أو يَحْكموا الأراضي المُقَدَّسة. كان يُطلق على أحد فَصائل حزب الغَيورين اسم ”السيكاري“؛ كان هؤلاء الرِّجال قَتَلة علنيّين حاولوا فَرْض علامتهم اليهوديّة والوطنيّة على الجميع عن طريق التَّرْهيب. بعد أخْذ كل شَيْء في الاعْتِبار، أَميل إلى أن الإسْخريوطي هو بالفِعل تلاعُب بالألفاظ لمُصْطَلَح سيكاري، وأنَّ يَهُوَّذا على الأرجَح كان مُتَطرِّفًا سيكاريًا مَعْروفًا، لأنه بِبَساطة يُناسب الظُّروف بشكلٍ تام.
من أين جاء يَهُوَّذا ومن كانت عائلته؟ كان التلاميذ الآخرون من الجَليليّين، ولكن لا يُعرَف الكثير عن يَهُوَّذا؛ ومع ذلك نَجِد مَعْلومة مُحَيِّرة للغاية في الكِتاب المُقَدَّس اليهودي الكامِل يوحنا ثلاثة عشر على سِتة وعشرين أجاب يَسوع قائلاً: "هُوَ ذَاكَ الَّذي أَغْمِس أَنَا اللُّقْمَةَ وَأُعْطِيه!» فَغَمَس اللُّقْمَةَ وَأَعْطَاها لِيَهُوذا سِمْعَان الإِسْخَرْيُوطِيِّ. فَبَعْدَ اللُّقْمَةِ دَخَلَه الشَّيْطَان. فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «مَا أَنْتَ تَعْمَلُه فَاعْمَلْه بِأَكْثَر سُرْعَة".
ما يَجْعل هذا الأمر مُحَيِّرًا هو أننا نَجِد هنا أنَّ يَهُوَّذا يُدْعى ابن سمعان، أو كما هنا في الكِتاب المُقَدَّس اليهودي الكامِل، شمعون. إليك الأمر: سيمون وشمعون وسيميون (كما في سِبْط سمعان) كلّها نفس الإسْم العبري، ولكن تمّ تحويلها إلى تَهْجِئات إنجليزية مُخْتَلِفة. كان من المُتَعاَرف عليه في عَصر الكِتاب المُقَدَّس أن يُعرَف الشخص بِقَبيلته، لذا فإن العبراني الذي يَحْمل اسم عائلة شمعون عادةً ما يُتَوقَّع أن يكون مُرْتَبطًا بالوِراثة بسِبْط شمعون. على سبيل المثال، لن تُسَمِي شخصًا بإسم لاوي إذا كان من سِبْط أفرايم، أو مَنَسّى إذا كان من دان.
لذلك من شِبْه المؤكَّد أن يَهُوَّذا كان من قَبيلَة سمعان، التي انْدَمَجت منذ زمن بعيد في قَبيلَة يَهُوَّذا، لكنَّها لا تزال تتذكَّر تُراثها العائلي من خلال الاحْتِفاظ بإسم العائلة سمعان.
حَسَنًا مع هذه الخَلْفِيَّة، شاهِد هذا: كان موسى يُعطي كَلِماته الأخيرة للأسْباط الاثني عشر قبل ساعات فقط من وفاته. وفي كَلِماته الأخيرة (الكَلِمات التي تَرْقى إلى سِلْسِلَةٍ من البَرَكات النَبَوية الفَرْدِيَّة على الأسْباط) تَرَك موسى بِشَكْلٍ غامِض سمعان الذي كان قد أُعْطِيَ مُسْتَقْبلاً نَبَويًا مَلْعونًا من قِبَل يعقوب. لذلك كانت بَرَكَة موسى على إحدى عشر سِبْطا فقط من الأسْباط الإثنَي عشر. نتقدَّم بسرعة ثلاث عشرة قرنًا إلى زمن يَسوع. في الليلة التي سَبَقَت مَوْته كان يسوع يُعطي كَلِماته الأخيرة لِتَلاميذه عن طريق تقديم البَرَكَة على مائدة الفُصْح. كان التلاميذ الاثْنا عشر جَميعهم هناك، لكن واحدًا منهم، يَهُوَّذا، يَخْتَفي ويَجْلُب حَرَس الهَيْكَل الَّذين أَلْقوا القَبْض على يَسوع وسلَّموه إلى الرّومان ليُحاكِموه ويَعْدموه. يَهُوَّذا الذي هو من سِبْط سمعان (كما يَدلّ اسم عائلته) يُلعَن بِفِعْلته ثم يَنْتَحِر، والآن لم يَعُد هناك سوى إحدى عشر تلميذًا فقط.
مع إدْراكي لِقُوَّة أنْماط الله، من الصَّعب عليَّ ألّا أرى النَّمَط النَبَوي الذي تأسَّس في بَرَكَة موسى على الأسْباط الاثني عشر وكيف أن هذا النَّمَط قد اسْتَمَرَّ وتحقَّق في البَرَكات التي مَنَحَها يسوع المسيح للتلاميذ الإثْنَي عَشر. إن الظُّروف مُشابهة بِشَكلٍ غريب، فحَقيقةَ أن موسى ويسوع كانا يُباركان الإثْنَي عَشر هي نفسها، وأن هذا حدث مباشرة قبل موتهما هو نفسه، وأن أحد الإثْنَي عَشر تمّ استبعاده هو نفسه، وأن الشخص الذي تم اسْتِبْعاده مُرْتَبِط بسِبط شمعون، السِبط المَلْعون، هو نفسه.
نعود إلى مُبارَكَة موسى في سِفْر التثنية ثلاثة وثلاثين؛ يُخاطِب موسى الآن كل الأسْباط كمَجْموعة، وكما بدأ كَلِماته الأخيرة بالاعْتِراف بعَظَمة إلَه إسرائيل، فإنه يُنْهي تلك الكَلِمات بِنَفْس الرسالة التي بدأ بها. إنه يُناشِد إسرائيل (المُشار إليه مَرَّة أخرى باسم يشورون، الصادِق) أن يفهموا أنه لا جدوى من الوقوع في عبادة آلِهة أخرى لأنه لا شَيْء يُوازي يَهْوَهْ. من بين الأشْياء التي يَفْعَلها يَهْوَهْ لبني إسرائيل من عَرْشه السَّماوي هو مُساعدتهم في وقت الحاجة، وأن يَكون ملجأً لهم، وأن يَدعمهم ….. ليكون أساسًا ودعامة لبني إسرائيل. وبما أن الله من الأزَل إلى الأبَد، فسيَكون دائمًا موجودًا من أجلهم.
يُذَكِّر موسى بني إسرائيل أن الرَّب هو الذي يَطْرُد العَدو أمامَهم.
الرَّب هو الذي يَجْعل بني إسرائيل يَسْكنوا في أمْنٍ وأمان.
إنه الرَّب هو الذي يعطي بني إسرائيل أمطارًا غزيرة تَجْلب الحُبوب والخَمْر بِوَفْرة.
إنه الرَّب الذي خلَّص بني إسرائيل من مِصر.
إنه الرَّب الذي يَحْرس بني إسرائيل باسْتِمرار ويَحميهم من الأخْطار المَعْروفة وغير المَعْروفة.
وإذا كانوا مُخْلِصين للرَّب، فإن الرَّب سَيْجَعل أعداء بني إسرائيل يَنْهَزِمون ويَسْقُطون على وُجوهِهم أمام بني إسرائيل، ويَضَع بنو إسرائيل أقْدامهم على ظَهْر عَدُوِّهم. هذه صورة مُعْتادة إلى حدٍّ ما في ذلك الوقت؛ يَدْفَع المُنْتَصِر المَهزوم إلى الأرض ويَضَع قَدَمَه على أعلى ظَهْره من جهة رَقْبَته كدَلالة على أن العدو السَّابِق أصبح الآن تحت سَيْطَرة المُنْتَصِر بالكامِل.
لِنَنْتَقِل إلى سِفْر التثنية أربعة وثلاثين.
اقرأ سِفْر التثنية أربعة وثلاثين بكامله.
جَدُّنا موسى، بعد أن بارَك أولئك الَّذين كان يَرْعاهم ليلاً ونهاراً طوال الأربعين سنة الماضية باعْتِبارِه اليَد اليُمْنى لله؛؛ وبعد أن قَضى بِضْع ساعات أو رُبَّما يوماً أو يَوْمين لِيَنْعم بِوَهْج ما وَصَل إليه بنو إسرائيل والفِرْصة الهائلة التي كانت أمامَهم، يَصْعَد الآن جبل نيبو لِيَموت. تقول الآية الأولى أن جبل نيبو يقع في سِلْسِلَة جبال فِسْجة ومقابل أريحا (نيبو على الضِّفة الشَّرْقية وأريحا على الضِّفة الغربية لنهر الأردن). بالمُناسبة، أريحا مُعْتَرَفْ بها على نِطاق واسِع حتى من قِبَل عُلَماء الآثار العِلْمانِيِّين على أنَّها أقْدَم مدينة مَعْروفة في العالَم.
من جبل نيبو أَظْهَرَ الله لِموسى أرض الميعاد التي سيَرِثها شعب موسى. يبدو تَرْتيب أراضي القبائل التي دُعِيَت هنا في سِفْر التثنية أربعة وثلاثين كما لو أن موسى أدار رأسه إلى اليَمين ثم أدارَه بِبُطْء نحو اليَسار في بانوراما. كما لو أن عَيْنَيْه كانتا تَجولان من أقْصى شمال الأرض باتجاه الغرب، ثم إلى الجنوب. ويقول الرَّب، هذه هي الأرض التي أقْسَمْت بها لأسْلافِك.
لقد أَشَرْتُ إلى هذه النّقطة من قَبْل، ولكن دَعوني أُعيدها مَرَّة أخرى بأكْبَر قَدَرٍ من التَّأكيد كما أعْرف؛ كانت أرض كنعان هي أرض الميعاد لبني إسرائيل، وليس غيرهم. لا يوجد مكان بَديل أعَدَّه الرَّب لبني إسرائيل، ولا يوجد شعب بَديل له الحق في احْتِلال تلك الأرض. لا يوجد خِيار ألِف أو باء. على مَرّ القرون، وحتى خلال المائة عام الأخيرة، كانت هناك جُهود جادّة من قبل رِجال أقْوِياء وقادة وَطَنِيِّين لتأسيس وَطَن يهودي جديد في أوروبا، في أفريقيا، في أي مكان إلّا في المكان الذي أعَدَّه الرَّب للعِبْرانيّين. منذ اليوم الذي صَوَّتَت فيه الأمم المُتَّحِدة قبل أكثر من سِتّين عامًا بقليل على السَّماح للشَّعْب اليهودي بأن تكون له أُمَّةٌ يهوديَّة في وَطَنِه القديم، نَدِمَ قادة العالم عَلانِيَّة على ذلك ولم يَتَوَقَّفوا أبدًا عن مُحاولة قَلْب هذا الواقع.
ليس لدي أي نِيَّة للإدلاء بِبَيان سِياسي، ولكن من الواضِح أن إدارة أوباما الحاليَّة، وإدارة بوش التي حَلَّت مَحَلّها وإدارة كلينتون قَبْلها، لم يَكُن ولا يزال ليس لَدَيْهم أي اهْتِمامٍ بتَكْريم الأراضي المُقَدَّسة التَّوْراتيَّة على حقيقتها؛ مكان مُقَدَّس (ليس مِثْله مكان آخر على الأرض) يَخِصّ الله وَحْده، ومُخَصَّص لِشَعْبٍ مُعَيَّن. لا يَهُمّ كم عدد الصُّوَر التي يَظْهَر فيها هؤلاء الرؤساء وهم يَحْنون رؤوسَهم وهم يُصَلّون، أو يَدْعون بإسْم يسوع عَلَنًا أو يَقِفون ويَتَحَدَّثون عن الدِّفاع عن إسرائيل وحق إسرائيل في الوجود؛ فإسرائيل التي يَرْغبون في الدِّفاع عنها هي إسرائيل التي يَرْغبون في اخْتِراعها وتَعْريفها وفقًا لِشُروطهم الخاصّة. هذا مُسيء جدًا للرَّب وسنَدْفع جميعًا ثمنًا باهِظًا، عاجِلاً وليس آجِلاً، لِمِثْل هذه الغَطْرَسَة من قِبَل قادَتنا المُنْتَخَبين في الدَّفْع باتِّجاه إقامة دولة فِلَسْطينيَّة في أرض الميعاد، وإعْلان أن الإسْلام يَجِب أن يكون له الحق الشَّرْعي في الحِفاظ على مَقامٍ وَثَني لإلَه مُزَيَّف في جبل الهَيْكَل، ولِعَدَم اكْتِراثنا بِقَراراتهم. لقد قامَت أُمَمْ وإمْبْراطوريَّات وسَقَطَت لاسْتِخْفافها بالرَّب أو تَجاهُلها ومُحاولة أخْذ ما يَخِصَّه وَحْدَه من يَدِه.
هل كان يُمْكِن لموسى أن يَرى بعَيْنَيْه البَشَرِيَّتَيْن كل الطريق من دان في الشِّمال إلى زبولون في الغرب ويَهُوَّذا في الجنوب؟ بالطبع لا. لم تَكُن أي قِمَّة جبل ذات ارْتِفاع كافٍ لتَسْمح بذلك. ولكن بما أن الكِتاب المُقَدَّس يقول أن "الرَّب أراه الأرض كلّها“ أظنّ أن يَهُوَهْ مَكّن موسى من أن ”يرى“ بطريقة خارِقة للطَّبيعة أرْضًا لا يُمْكِن رؤيَتها إلا من الفَضاء الخارِجي أو من قمر اصْطِناعي يَدور في مدار.
يقول التَّقْليد أن موسى تُوُفِّي بعد ستة أشهر من وفاة أخيه هارون، رئيس الكَهَنَة، بِسِتَّة أشهر.
كان ذلك في الشهر الذي سيُسَمّى فيما بعد ”أدار“، والذي يتوافق مع أواخِر فبراير أو أوائل مارس. دَفَن الرَّب موسى بِنَفْسه، ولذلك ظَلَّ مكان دَفْنه الفِعْلي سِرًّا. ماذا يُمْكِن أن يكون غَرَض الرَّب من فِعْل ذلك؟ بلا شَكّ حتى لا يَتِمّ بناء ضَريح يُعَظِّم موسى، وحتى لا يُصْبِح المكانْ مَكانًا تَتَقاتل فيه الجُيوش بإسْم هذه الدِّيانة أو تلك (كما اعْتاد البَشَر أن يَفْعَلوا منذ أن وُجِدَت الجُيوش) على ما سَتُعْلِنه السُّلطات الدِّينِيَّة أنه مكان مُقَدَّس. أعْتَقِد أنه من المُهِمّ أنه على الرَّغم من السِّجِلّ المُدْهِش لِخِدْمة يسوع وآلامِه على الصَّليب أنه لا توجد خَريطة مُحَدَّدَة لِمكان دَفْن جَسَده (مَدْفونًا في الواقع) حتى في تلك الفترة القصيرة التي اسْتَمَرَّت ثلاثة أيام.
إن قَبْر البُسْتان الذي يَزوره المَرْء اليوم في أورَشليم ما هو إلا تَخْمين، ولا يوجد أي دَليل على الإطْلاق على أن هذا هو قبر يَسوع، على الرَّغم من أنه يُشْبِه إلى حَدٍّ كبير القَبْر الذي دُفِن فيه بالفِعْل. كيف يُمْكِن لِمِثْل هذا الحَدَث المَشْهود والمُوَثَّق على نِطاقٍ واسِع أن لا يكون المَوْقع الدَّقيق لهذا القبر مُحَدَّدًا؟ لأنه لو كان مُحَدَّدًا، لكان هناك مَزارًا ولَعَبَد الناس المكان بَدَلاً من الله. كل ما على المَرْء أن يَفعله هو أن يَزور فيا ديلاروسا، الطريق التَّقْليدي الذي سار فيه يسوع وهو مُتَّجِه نحو الجُلْجُلَة، ليرى الكنائس والمَزارات المُبَهْرَجة والمُبالَغ فيها والمُرَصَّعة بالذَّهَب وتَماثيلها وأرْضِيّاتها الرُّخاميَّة التي تَحْمل علامات على الأماكِن التي يُفترَض أن يسوع وَقَف فيها أو رَكَع أو نَزَف دَمُه.
تُخْبِرنا الآية السابعة أن موسى كان عمره مئة وعشرين سنة عندما مات، وأنه كان في صِحَّة جَيِّدة وبَصَره سليم. عندما نَعود إلى سِفْر التكوين نَجِدْ أن الرَّب قد أعلن أن مئة وعشرين سنة قد أُعْطِيَت كَفَتْرَة حياة لِلْبَشَر؛ ومع ذلك نَجِد أيضًا أن كثيرين عاشوا حياةً تَتجاوز هذا العُمْر بكثير، وآخَرين عاشوا حياةً أقْصَر من ذلك العُمْر بكثير. إن مئة وعشرين سنة هي نَوْع من العُمْرِ المثالي في ذِهْن الرَّب، لذلك ليس من قبيل المُصادَفة أن موسى عاش تلك المُدَّة بالتَّحْديد.
سيَتِمُّ الحِداد على موسى لِفَتْرة الحِداد المُعْتادة، ثلاثين يومًا. خلال الثلاثين يومًا تلك، أقام بنو إسرائيل في مخَيّمهم في مُوآب، اسْتِعْدادًا لدُخول أرض الميعاد، لِيَقودَهم قائدَهم العَسْكَري والمَدَني الجديد يَشوع. قيل لنا أن يَشوع بن نون امْتَلأ بِروح الحِكْمة ”لأن موسى وَضَع يَدَيْه عليه“. هذه آية أُسيءَ فَهْمها على نِطاق واسِع. إنها تبدو في اللُّغة الإنجليزية البَسيطة كما لو أن موسى بِطَريقة ما، بِشَكْلٍ خارِق للطّبيعة، وَضَع روحَ الحِكْمة في يَشوع عن طريق وضع يديه عليه بِشَكْلٍ طَقْسي. في الواقِع هذا تعبير اصْطِلاحي يَصِف عَمَلاً شائعًا يَشْمُل القادة الجُدُد والسّابِقين للأُمَّة.
يَضَع القائد المُنْتهية وِلايَته يَدَيْه على القائد القادِم في احْتِفال عام كبادِرَة وتأكيد مادّي لِنَقْل السُّلْطة على الأُمَّة. لم يَتِمّ التَّلْميح إلى أي شَيْء خارِق للطَّبيعة في تلك العَمَلِيَّة. بل يوضِح الكِتاب المُقَدَّس أن الله يُعْطي روح الحِكْمة لجميع قادة بني إسرائيل. إذًا لأن يَشوع أصْبَحَ قائدًا لبني إسرائيل (كما يُشير إلى ذلك وَضِع موسى يَدَيْه على يَشوع) ، فقد أعطى الله يَشوع روح الحِكْمة لكي يقود شَعْبه بِشَكْلٍ صحيح.
لم يُساوِ موسى نَبيّ آخر……. حتى يَسوع الناصري بعد ألف وثلاثمئة سنة.
اليهود، بِخِلاف المِسْيانيِّين، سيَخْتَلِفون بِشِدَّةٍ مع هذا القَوْل بالطَّبع. والسَّبَب في هذه العِبارة في الآية العاشرة هو تَوْضيح أن الأنْبِياء القادِمين مثل أشِعياء وحَزْقيال وإرميا وغيرهم لم يَكونوا مثل موسى في المَكانة كما كان الأنْبِياء الَّذين جاؤوا بَعْدَه، على الرَّغم من عَظَمَتهم وتَبْجيلهم وصَلاحِيَّتهم. لا شَيْء ممّا سيَقولونَه يُمْكِن أن يَتجاوَز ما قالَه موسى. لن يُضاف أي شَيْء إلى الكِتاب المُقَدَّس في المُسْتَقْبَل عن طريق تلك الكَلِمات التي سيَنْطق بها أنْبِياء الله يُمْكِن أن يُلْغي المبادئ والشرائع الوارِدة في كلام موسى. ودَعوني أقول لكم في الكنيسة، إذا كان أنْبِياء الله لا يَسْتطيعون أن يَنْقُضوا كلام موسى، فلا يُمْكِن لِقَسّ أو كاهِن أو بابا أو أسْقُف أو حاخام أو حتى مُبَشِّر تِليفزيوني شهير أن يَنْقضه. دَعوني أُخْبِرْكم أيضًا بِثِقة تامّة أن كلام يَسوع لم يَسْتَطِع أيضًا أن يُبْطِل كلام موسى. لَسْتُ بحاجة إلى التَّكَهُّن بهذا لأن هذا بالضَّبْط ما قالَه المسيح. أُحيلُكم (هذه المَرَّة الأخيرة قبل أن نُكْمِل دِراستنا للتَّوْراة) إلى كَلِمات يَسوع نفسه التي لا جِدال فيها في إنجيل مَتّى خمسة على سبعة عشرة الى تسعة عشرة.
الكِتاب المُقَدَّس اليهودي الكامِل مَتّى خمسة على سبعة عشرة : "لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُض النَّاموس أَوِ الأَنْبِيَاء. مَا جِئْتُ لأَنْقُض بَلْ لأُكَمِّلَ". ثمانية عشرة: "فَإِنِّي الْحَقّ أَقُولُ لَكُم: إِلَى أَنْ تَزُول السَّمَاء وَالأَرْض لاَ يَزُول حَرْف وَاحِد أَوْ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ النَّامُوس حَتَّى يَكُونَ الْكُلّ". تسعة عشرة: "فَمَن نَقَضَ إِحْدَى هذِه الْوَصَايا الصُّغْرَى وَعَلَّمَ النَّاسَ هكَذا، يُدْعَى أَصْغَر فِي مَلَكُوت السَّمَاوَات. وَأَمَّا مَنْ عَمِلَ وَعَلَّم، فَهذا يُدْعَى عَظيمًا في مَلَكُوت السَّمَاوَات."
يُحَدِّد يسوع مَوْضوع ما إذا كان قد جاء ليقوم بِشَيء ما أو بأي شيء مُتَعَلِّق بأسْفار التَّوْراة والأنْبِياء بهذه الطريقة: فهو يقول في هذه الآيات من إنْجيل متّى أنَّه من جِهَة لم يأتِ ليَنْقِضها كُلَّها، ومن جِهة أخرى أنه لم يأتِ ليُغَيِّر ولَوْ حَرْفاً واحِداً صَغيراً منها. هذا بيان شامِل وجامِع يُمْكِن أن يُدْلي به يهودي في هذا المَوْضوع.
الآن كان المسيح بالفِعْل نَبِيًّا أعْظَم وَوَسيطًا أعْظَم من موسى. كان يَسوع ولا يزال وسيَظَلّ دائمًا النَّبي والوَسيط الأعْظَم لأنه هو أيضًا فادينا. لكن حتى هو، بِسُلْطةٍ مُطْلَقة من يَهْوَهْ لدَرَجة أنه قال: ”إن رَأَيْتُموني فقد رأيَتُم الآب“، قال صَراحَةً إنه لم يأتِ ليُبْطِل كلام موسى أو يُغَيِّره أو يُنَقِّص منه أو يُضيف إليه أو حتى يَعْتَرِض عليه.
لذلك في الأسابيع والأشهر ورُبَّما السَّنَوات القادِمة (كما يَشاء الرَّب)، بينما نَدْرُس معًا المزيد من العهد القديم ونَدْمج في دِراستنا كَلِمات العهد الجديد، احْتَفِظوا بما قُلْتُه لكم للتَّوْ كمِحَكّ. لأن التَّمَسُّك بالتَّوراة هو الحياة، والانْحِراف عنها هو المَوْت.
وبهذا نُنْهي دِراستنا لأسْفار موسى الخَمْسة، التَّوراة.