سِفْر التَّكوين
الدرس العاشر – الإصْحاحان عشرة وإحدى عشر
تَكْمُن أهَمِّية الإصْحاحين عشرة وإحدى عشر من سِفْر التَّكوين في كونِهما الجِسْر الذي يَرْبُط بين بِداية العالَم الجديد، بعد الطَّوفان، وأعظم بطارِكة الكِتاب المُقَدَّس، إبراهيم. على الرَّغم من إيجاز هذين الإصْحاحين إلا أننا نحْصل على ربْط الأنْساب بين سام وإبراهيم…..، بالإضافة إلى كل أنسال النسَب المُهِمَّة التي تم فصْلها الآن وتقسيمها إلى ثلاث مجموعات متميّزة، لكل منها مَصيرها الخاص، وكان هذا المصير متضَمِّناً في البَركات، وبالنِّسبة لأحد الأبناء، لعْنة أعلنها نوح على أولاده الثلاثة.
دعوني أوضِح أمراً: لم يكن سام وحام ويافث هم الأبناء الوحيدين الذين أنْجَبَهم نوح. لم يكونوا سوى الأبناء الذين اخْتيروا لأسباب غير معروفة ليُضَموا إلى مجموعة التزاديك….. الأبرار…… هؤلاء الثمانية أشخاص الذين سُمح لهم بالعيش خلال الطَّوفان لغرض إعادة تعمير الأرض. كان لنوح العديد من البَنين والبنات على مدى ستمئة سنة من عمره الذي بلَغه لحظة بدء الطَّوفان وأظن أنه أنجَبَ المزيد بعد الطَّوفان. يبدو أنهم لم يكونوا مُهمّين بالنسبة لغرض القصة، لذلك لم يُكتب عنهم. بالطبع، كان سام وحام ويافث هم أبناء نوح الوحيدين الباقين على قيد الحياة. جميع الباقين…. البنات والحفيدات والأحفاد وأحفاد الأحفاد والكثير من "أجداد الأجداد" الذين لا يُمكن الحديث عنهم، اعْتَبَرَهم الرَّب جميعاً أشراراً وأهْلَكَهُم جميعاً مع الجميع في الطَّوفان.
في الآية السادسة، نتبع سُلالة حام….. سُلالة حام الملعون. وعلينا أن نَنَتَبِه جيِّداً لهذه الأسماء، لأنها ستلْعب دوراً بارزاً في الكِتاب المُقَدَّس. كوش هي إثيوبيا. مصرايم هي مصر وبوت هي ليبيا، وكنعان هو مؤسِّس أرض كنعان التي غزاها يوشع والتي أصْبَحَت إسرائيل؛ هؤلاء المُنْحَدِرون من سُلالة كنعان يُشَكِّلون الكثير من شعوب الشرق الأوسط والمشرِق، وغالباً ما يُطلق على بعضهم، خطأً، إسم العرب. العرب من سُلالة سام، وليسوا من سُلالة حام.
قيل لنا أن كوش هو والد نَمْرود سيِّئ السُّمعة. الآن، قد يُفاجِئكم أن نَمْرود كان رجلاً أسْوَد. هذا ليس تخميناً على الإطلاق؛ فقد عُثر على العديد من التَّماثيل والنقوش لنَمْرود تعود لآلاف السنين، وكلها تؤكد ملامحه الزنجية؛ ومن المَنْطقي تماماً أن يكون نَمْرود رجُلًا أسود، لأنَّه في الكِتاب المُقَدَّس عندما ترى أناساً يُطلق عليهم إسْم الكوشيّين، أي أناس يَنَحَدِرون من كوش، يُمكنك أن تُسَمِّيهم في إطارِك الخاص بالإشارة إلى الإثيوبيين….. بِشكل عام، الجِّنس السود. علاوة على ذلك، من التقاليد اليهودية القديمة أن حام كان رجلاً أسوَد.
لا ينبغي أن نَكْتفي بِذِكر إسم نَمْرود ثم نَنْتَقِل بِسُرعة. سنتحدَّث أكثر عنه بعد أن نقرأ الإصْحاح التالي. يكفي أن نقول الآن أنّ الألواح الآشوريّة القديمة التي وُجدت بكميّات كبيرة، لا تذْكُر نَمْرود وحسب، بل تؤكّد اللّقب الذي نراه في عشرة على تسعة….. "الصيّاد الجبّار". ولكن، كما تشرح الألواح الآشورية، هذا ليس لأنه كان بارعاً في قتل الغزلان والطيور والأرانب والخنازير البرِّية، هذا التعبير يعني "صيّاد الرجال" ….. مُحارِب"؛ ولِكَوْنه محارباً شرِساً، أصبح أول باني إمبراطورية وطاغِية عالمي. كانت تلك الإمبراطورية الأولى هي بابل…… بابل القديمة، وليس بابل نبوخذ نصّر التي جاءت بعد ذلك بقرون عديدة. في أيام نَمْرود، كانت بابل، "بابيلون"، تقع في أرض شنعار، وهي منطقة تقع إلى الغرب قليلاً من المكان الذي سيأتي منه إبراهيم، وتقع في العراق الحالي. يُنسَب إلى نَمْرود أنه باني بافيل، إلى جانب ثلاث مُدُن رئيسيّة أخرى في تلك المنطقة.
بعد ذلك يقال لنا أن "آشور" انْطلَق وبنى نينوى، المدينة الرائعة في قلب آشور. وكما هو الحال في بابل، بنى "آشور" هذا ثلاث مدن عظيمة أخرى في آشور. من هو آشور؟ آشور هو بِبَساطة الإسم الآشوري لنَمْرود (نَمْرود إسم بابلي). لذا، فإن الآية الحادية عشرة لا تزال تتحدَّث عن نفْس الرجل…. فقط باسْتخدام لغة مُخْتَلِفة…… وهذا الرجل هو نَمْرود.
دعني أبوح لك بِسِرّ صغير عن الأسماء التَّوْراتيّة: في كثير من الأحيان، ترى نفس الشخص، مع ما يصِل إلى ثلاث أو أربع أسماء مُخْتَلِفة، اعْتِماداً على الأُمَّة التي كان يقيم فيها ذلك الشّخص والعصْر الذي كُتبت فيه الرواية التَّوْراتيّة بالفِعْل مقابل العصر الذي حدث فيه الحدَث المُسَجَّل بالفِعْل والثقافة التي كانت تتحدَّث عنه. لأنه، تماماً كما هو الحال اليوم حيث ريك أو ريكي هو لقب أمريكي، وريتشارد هو لقب إنجليزي أكثر رسميّة، وريكاردو هو لقب إسباني، وهيكاردو هو برازيلي….. ولكن جميعها تتحدَّث عن نفس الإسم. يحدُث الشيء نفسه فيما يتعلّق بالاُمَم والمناطق والمدن…… تتغيَّر الأسماء على مرّ السنين مع تغيّر الثقافات واللغات، لكنها لا تزال تُشير إلى نفس الشخص أو المكان.
في الآية الثالثة عشرة، يُقال لنا شيء له تأثير كبير على أحْداثنا الحالية. مصرايم، ابن حام….. خط الشَّر، لَعْنه الله….. أصبح مصرايم أباً لشعب يُدعى كسلوخيم. من الكسلوخيم انحدر الفلسطينيّون المُخيفون. علينا أن نتذكّر أن الكَلِمة الحديثة للفلسطينيين، هي فلسطين. يدّعي الفلسطينيون اليوم أنهم من نَسْل الفلسطينيّين الذين ينحَدِرون من نَسْل حام. في الواقع، هذا غير صحيح. إن الجزء الأكبر من الفلسطينيّين الذين نراهم يُقاتِلون اليهود الإسرائيليين كل ليلة على شاشات التلفزيون، هم عرب من مناطق مُخْتَلِفة من الشرق الأوسط، الذين جاؤوا كمُهاجرين إلى منطقة الأرض المُقَدَّسة على مدى خمسة وسبعين الى مئة عام الماضية بحثاً عن العمل في المزارع اليهودية وفي المصانع اليهودية؛ والعرب ليسوا من سُلالة حام، بل هم من سُلالة سام، إلا أن الحقيقة هي أن العديد من هؤلاء الناس قد اتَّخذوا قراراً واعياً، بدافع كراهيَّتهم لبني إسرائيل، بالتَّماهي مع الفلسطينيّين لأن الفلسطينيّين كانوا العدو اللّدود لبني اسرائيل؛ ولكنهم خلقوا عن غير قصد مشكلة كبيرة لأنفسهم. فكما يمكن لأي شخص من أي أصل أن يصبح إسرائيلياً من خلال التّماهي رسمياًّ مع إسرائيل (على المستوى المادي، من خلال التحوُّل إلى اليهودية)، فهل يمكن أن يصبح الشخص فلسطينيّاً من خلال التَّماهي مع الفلسطينيّين؟ العديد من العرب الفلسطينيّين قد تخلوا عن تراثهم من سُلالة الخير…..سام….. ليَنْضمّوا إلى سُلالة الشّر…..حام. هم، كما فعل مُعظم العرب، تخلّوا أيضاً عن الإله السّامي، يهوه، من أجل إله زائف، الله وسوف يُحاسَبون على ذلك، وعلينا أن نصلّي من أجل أن يسْتيْقظوا على هذه الحقيقة قبل فوات الأوان.
على أي حال، نرى قائمة بالقبائل التي أنتَجَها كنعان في الآيات من خمسة عشرة الى ثمانية عشرة. في وقت لاحق، خلال الخروج من مصر، سترى العديد من هذه الأسماء تظهر مرّة أخرى كأعداء لبني إسرائيل الذين سَيُحاولون إبْعادهم عن أرض الميعاد.
في الآية الواحدة والعشرين، نأتي الآن إلى سُلالة سام المباركة… سُلالة الخير. لاحِِظ أننا نُصادِف إسم "آشور" كإبْن لسام. تَذَكَّروا أن هذا ليس "أشور" الذي بنى نينْوى… أن "آشور" كان بِبَساطة الإسم الآشوري لنَمْرود. هذا شخص آخر إسمه آشور.
دعوني أُلَخِّص لكم الجانب الأهمّ في الآيات التي توضِح سُلالة سام: سَتُلاحِظون أنه يشار الى "سام" على أنه "الأب" أو "الجدّ" لأبناء أو نَسْل "عابر" أو "إيبر". هذا أمر أساسي في التاريخ العبري لأنه من سُلالة إيبر سيأتي قسم آخر من أقسام الله: فالخ وقحطان. تقسيم واخْتِيار وانْتِخاب. انْتَبِهوا لهذا، لأن هذا موضوع رئيسي يشير إلى الطريقة التي يَعْمَل بها الله مَشيئته في الكِتاب المُقَدَّس وفي حياتنا الخاصة. كان فالخ وقحطان أخوين، ابني إيفر. من المُثير للإهْتِمام أن كَلِمة فالخ تعني "الإنقسام" لأنه من سُلالة فالخ جاء إبراهيم، الذي ستأتي منه خطّة الله لخلاص البَشَريّة جَمْعاء، لإعادة الإنسان السّاقِط إلى نفسه.
اقرأ الآية الحادية عشرة بكامِلها
في الإصْحاح العاشر، كان لدينا ملخَّص موسّع لتاريخ أنساب اُمَم الأرض. في الإصْحاح الحادي عشر، نرجع خطوة إلى الوراء، ونبدأ بفحْص نَمْرود، ولماذا انتشَرَت شعوب الأرض بسرعة وشُمولية.
قيل لنا أنه حتى زمن نَمْرود، كان كل شخص في العالم أجمع يَتَكَلَّم نفس اللغة. على ما يبدو، كان الناس ينْتَشِرون بمُعدل محسوب جداً، وظلّوا مُرْتبطين تماماً باللغة المُشتركة لأنهم لم ينْفَصِلوا عن بعضهم البعض، بل توَسّعوا فقط….. مثل الكثير من الإمتداد العُمراني.
لاحظ أيضاً، في أي اتِّجاه توَسّعوا…… شرقاً! ها هي كَلِمة "الشرق" مرّة أخرى، وهي كَلِمة ذات أهَمِّية بالنسبة لنا؛ وهنا لها أكبر معنى. لاحِظوا أن الصِّياغة تقول أنهم (أي الجزء الأكبر من نَسْل نوح) جاؤوا "من" الشرق إلى شنعار، بدلاً من أن تقول أنهم انْتَقلوا إلى الشرق. هذا مُرْبِك بعض الشيء، لأن شنعار تقع جنوباً وشرقاً من حيث أتوا. تقع شنعار في العراق الحديث، بالقرب من الخليج الفارسي، في منطقة تُهَيْمِن عليها مدينة البَصْرة. إن شنعار وسومر هما نفس المكان، ولكن فيهما لُغَتان مُخْتَلِفتان. إليكم سبب الإشارة إلى الإنْتِقال من الشّرق: بِذِهابهم إلى الشّرق من المكان الذي وضَعَهُم الله فيه، فإنهم في جَوْهَرهم ابتَعَدوا عن الله. الآن، لا ينْبَغي بالضّرورة أن نفكِّر في ما فعَلوه، من خلال الإنْتقال، على أنه شرّ في حدّ ذاته…..ففي النهاية، كانوا إلى حدّ كبير يُحقِّقون ما أمر به الله، إعادة إسْكان الكوكب. بدلاً من ذلك، من خلال التَّسْمية التَّوْراتيّة بأنهم كانوا ذاهبين "بعيداً عن الشرق"، كان ذلك رمزاً لرَغْبتهم في الحصول على الإسْتقلال عن الله. يُشبِه إلى حدّ كبير بعضنا الذين لم يَطيقوا صبْراً حتى يبْلغوا سنّ الرشد لكي يتمكَّنوا من الإبْتعاد عن سُلْطة آبائهم!
الآن، هل أسّس نَمْرود مدينة بافيل، التي نُسَمِّيها الآن بابل، بمعنى أنه هو الذي غرَسَ وتداً في الأرض وقال: ابْنوا هنا"؟ على الأرْجح لا. على الأرْجح أنه اسْتَوْلى على سفينة الحاكِم في مرحلة ما من تطوُّر المدينة في وقت مُبْكر….. وهي مُمارسة شائعة؛ وبِمرور الوقت أصْبَحَت بافيل مدينة ضخمة، حيث تُشير أصغر التقديرات إلى أن مساحتها تبلغ ميلاً مربعاً داخل أسْوارها، والتَّقديرات الأكْبَر تصِل إلى خمس أضعاف هذا الحجم! بالطبع، هناك ذلك البرج… برج بابل. من الناحية الفَنِّية، كان البرج عبارة عن زقورة، وهو نوع من الأهْرام المُدرّجة. تم اكْتِشاف العديد من الزقورات القديمة في العراق وإيران في العَصْر الحديث وقد بُنِيَت هذه الزقورة بالذات لغرَضَيْن مُعْلنَيْن: أ) الوصول إلى السّماء، حتى يتمَكَّنوا من صُنع إسم لأنْفُسهم و ب) التأكُّد من عدم تشتُّتهم. الخُلاصة: تمرُّد على نِطاق هائل.
كما رأينا في الأسبوعين الماضِيَيْن، كَلِمة "سام" تعني الإسم؛ وكَلِمة "سام" مُسْتَخْدَمة هنا عندما تُشير إلى أتباع نَمْرود الذين أرادوا أن يصْنعوا إسما لأنْفُسهم؛ ولكن، تَذَكَّروا أن كَلِمة "إسم" لا تُشير إلى بوب أو إليزابيث أو فريد؛ من الأفضل ترجمة كَلِمة سام العبرية هذه إلى "سِمْعة" لأنها تحمُل في طيّاتها معنى القوّة والسُّلطة. على سبيل المثال، كَلِمة نَمْرود تعني "الصيّاد الجبّار"؛ تلك كانت سِمْعته. لذا، بنوا برجاً يصِل إلى السّماء لِيَصْنعوا سمعة بأن لهم قوة وسُلْطة في أنفسهم، والسَّبَب في أنهم أرادوا السُّمعة هو أن يُظهِروا لله أنهم لن يكونوا مُطيعين له ويتفرّقوا كما فَهِموا تماماً أنهم يجب أن يفعلوا. بالإضافة الى ذلك، فإن أي شخص يُخطِّط لأن يكون ديكتاتوراً (كما كان نَمْرود) عليه أن يُظهر أنه قادر على كل شيء، حتى يخضَع له الشعب. كان هذا جزءاً كبيراً مما كان يفعَله نَمْرود.
يتَّضِح من الصّياغة أنه حتى من أيام نوح، كان على الإنسان أن يُبَعْثِر، أن يشتِّت الناس ويُعيد إسكان العالم كله…… كانت تلك أوامر الله. هذه الأوامر لم تُفقد أو تُنسى، بل تم تَجاهلها بِبَساطة. ولكن، الآن، تحت قيادة نَمْرود شرَعوا في تحدّي أمر الله بالتّفريق علانيّة. كما جاء في الآية الرابعة "…… أَنْ لاَ نتفرّق فِي كُلِّ الأَرْضِ".
كانت الفِكرة في أدْمِغة هؤلاء البابليّين الأوائل هي هذه: الله يسكن في السّماء؟ ليس بالأمر المُهِمّ، نحن البشر، بِذَكائنا العجيب، يُمْكِنُنا أن نَخْتَرِع طريقة لبِناء بُرج يصِل إلى السّماء… لذا، يُمْكِنُنا أن نعيش هناك أيضاً، إذا أرَدْنا؛ وعندما نصِل إلى هناك، سنُخبِر الله أننا قرّرنا أننا نحب كل القوّة والمعْرِفة والثروة والراحة التي حَصَلْنا عليها من خلال البقاء معاً…… بعدم التشتُّت….. وهذه هي الطريقة التي نبقى عليها فقط، ولا يوجد شيء يُمْكنك القيام به لإيقاف ذلك! بالمناسبة، عندما يسمع الجميع عن هذا الأمر، سنصْنع لأنفسنا سمْعة طيبة ولن يرغب أحد في أن يقِف ضدّنا أبداً.
هل هذا بعيد عن موْقِفنا اليوم كبَشَر؟ ألا يقول الإنسان حاليّاً "يا الله، طُرُقُك قديمة وعفا عليها الزّمن. لقد جمَعْنا مَعْرِفة متفوِّقة لِدَرجة أننا لا نستطيع حلّ مشاكلنا فحسب، بل يُمْكِنُنا أن نفعل ذلك أفضل مما تستطيع أنت. في الواقع، أنت وهؤلاء المُتَخَلِّفون الذّين لا يزالون مُتمسِّكين بك وبطُرُقك مجرّد عائق أمام ما نريد نحن البشَر أن نذهب إليه ويُمْكِنُنا الذهاب إليه……. بدون أي مُساعدة منكم، شكراً جزيلاً لك. نحن لسنا بحاجة إلى توْجيهاتك الأخلاقيّة السخيفة….. يُمْكِنُنا أن نصْنع توْجيهاتنا الخاصة بنا، حسب حاجَتنا لها، وذات صِلة بكل موْقف. الحياة؟ يُمْكِنُنا إنتاج الحياة وتصْنيعها حسب مُواصفاتنا. الزواج؟ فقط بين الذّكَر والأنثى؟ عظيم بالنِّسبة للأزْمنة الماضية البعيدة، وليس ضروريّاً في يومنا هذا". ما فعله نَمْرود لا يَخْتَلِف في شيء عما تقودُنا إليه ثقافتنا العِلْمانيّة الإنسانيّة اليوم، التمرُّد، بكل بساطة ووُضوح.
في الآية الخامسة نصِل إلى أحدى تلك التَّعبيرات "المَجازية"، في أنه "نزِل الله لينظُر إلى البرج". بالتأكيد لم يكًن على الله أن "يتحرَّك" ليَعْرِف ما كان يحدث. ولكن، وأنا أحِبّ هذا حقاً، لقد أخمد الله هذا التمرُّد بضرْبة رائعة للغاية: لقد أعطى الجميع لغات مُخْتَلِفة. حاول تكوين فريق، بناء أي شيء، عندما لا يتحدّث أحد لغة أي شخص آخر.
بالمناسبة، توصَّل علماء اللغة القديمة، أي العلماء الذين يبْحثون في تاريخ اللغة، مؤخراًإلى اسْتِنْتاج أن كل اللغات نشأت من مَصْدَر واحد وهم يَعْمَلون جاهِدين لاكْتِشاف أي مَصْدَر ومن أيْن. إن كنا نتحدّث عن مَضْيَعَة للوقت….. كل ما عليهم فِعْله هو قراءة هذا الإصْحاح.
في الآية السادِسة، عندما ننْظُر إلى العبرانيين، تُعْطينا هذه الآية بعض البصيرة المُثيرة للإهتمام. تقول أن ما رآه الله عندما نظر إلى هؤلاء الناس، كان الوِحْدة. كانوا متَّحِدين، وكان لديهم لغة واحدة…..كانوا جميعاً يَتَكَلَّمون لغة واحدة. في العبرية، تقول أنهم كانوا "إيشاد" (واحداً)……وهي صِفة مُرْتبطة بالله نفسه. أي أن الشَّعب كان مُتَرابطاً عُضْويّاً وغير مُنْفصِل والله لم يُعْجبه ذلك. ولكن، ما هو السَّيّء في كونهم متَّحدين؟ الكل لواحد، وواحد للكلّ؟ أليست هذه هي الصَّرخة من كل مَنْبَر، في كل كنيسة، في أرضنا؟ الوحدة، الوحدة!
كما ترون، الوِحدة بالمعنى الذي يَعْرفها الإنسان…. بما في ذلك الكنيسة…..، هي عقيدة خاطِئة. هنا في بافيل كان للشعب قائد، وكان لديهم رؤية وهدف يعْتقدون أنه جيد؛ وهكذا، بما أنهم جميعاً كانوا يعْتقدون ذلك، وجميعهم أرادوا ذلك، كان لديهم وحدة. مع ذلك، عندما نتفحَّص الكِتاب المُقَدَّس، لا نرى الله يوحِّد؛ بل نرى الله يقسّم ويختار ويفصُل. في الواقع، عندما نرى لاحقاً بني إسرائيل ينْتهي بهم المطاف في مصر، ثم عندما ندْرُس شرائع سِفْر اللاويين، سنرى الرَّب يطلُب من الشعب باسْتِمْرار أن يفصِلوا أنفسهم عن الأنجاس والشِّريرين؛ أن يفْصِلوا بين الأشياء الطّاهرة والنَجِسة مثل الطَّعام والحيوانات والسُّلوك؛ كان الإصْحاح هو قصده بالنسبة لنَمْرود وأتباعه. إن الوِحدة في حدّ ذاتها ليست أمراً سيئاً؛ المُفْتاح هو ما أو من هو العامل المُوَحِّد. التوافق والتَّسْوية هو نوع الوِحدة الخاص بالإنسان. إنه النوع الذي نراه في جميع أنحاء العالم المسيحي والعالم بشكل عام. إنه الإنسان يَمْسِك بِيَد إنسان آخر ويقول نحن واحد.
نوع وِحْدة الله هو الوِحْدة في الله، كل فرْد يَمْسِك بِيَد المسيح. ومثل مِحْوَر العجلة المُسَنَّنة، المسيح هو نقطة الوِحدة. لا علاقة لها بالإجماع أو التّسوية أو حتى قواعد الأغلبيّة.
ما هو مُشوِّق أيضاً هو أننا نحصل على دليل رائع على هذا المبدأ، في شكل شيء مُعاكس يَحْدُث بعد آلاف السنين. تَذَكَّروا مبدأ الأضْداد. كل شيء في كوْنِنا له نقيض أو، بالنسبة لكم أيها العُلماء، نتيجة عكْسِيّة. هنا في قصة برج بابل، يُظهر الله مرة أخرى كيف سيُفَرِّق ويفْصل بين ما يريد الإنسان توْحيده، وكانت آلية التَّقسيم التي اسْتخدمها في هذه المناسبة هي اللغة.
مع ذلك، في سِفْر أعمال الرُّسُل، نرى الإنسان يتوحَّد بطريقة الله في عيد العُنْصرة. في الواقع توْحيد ما كان قد قسّمه وفصله قبل أكثر من ألفيْن سنة.
اقرأ أعمال الرُّسُل إثنان على واحد الى عشرين
هل ترى هذه العلاقة الرائعة بين العُنْصرة وبرج بابل؟ في البرج، حطَّم الله نوع الوِحدة البَشَريّة بإعطائهم لُغات مُخْتَلِفة، فلم يسْتطيعوا التَّواصُل….لذلك كان نوع الوحدة البَشَريّة قد أُلْغِيَ وقُيّد. الروح البَشَريّة هي التي كانت تقود البَشَريّة في برج بابل، والروح البَشَريّة هي التي كانت تحدّد الوحدة. الآن، في عيد العُنْصرة، "شافوت"، يضَع الله الروح القدس في البشر، ويُوَحِّدهم عن طريق روح الله…… وليس عن طريق التّسوية والتّوافُق. لم تَكُن الوحدة نوعاً من الوحدة الجَّسديّة، بل كانت نوعاً من الوحدة الرّوحية. حتى أنه أعْطاهم القِدرة على فهم وتكلُّم لغات لم يفهموها أو يَتَكَلَّموا بها من قبل….. عكس ما حَدَث في برج بابل عندما أعْطى كل منهم لغة لم يَسْتطيعوا فَهْمها.
لنَتَحَدَّث عن نَمْرود قليلاً. كان نَمْرود رجلاً حقيقياً فعلياً، لكنه كان أيضاً نوعاَ. إنه أول نوع من الرِّجال الذين أرادوا أن يَحْكموا العالم، ويمثل كل صِفات الرَّجل الذي سيُصبح آخر رَجُل يريد أن يَحْكُم العالم: المسيح الدَّجال. نَمْرود هو "رجُل الخطيئة" الذي اسْتَحْوَذ عليه الشَّيطان بالكامِل، باتِّفاق كامِل من مَيْله الشِّرير. وكذلك كثيرون مِمَّن سيأتون بعد نَمْرود سيكونون من نفس النَّوع……فرعون وأنطيوخس إبيفانيوس ونيرون وهتلر على سبيل المثال لا الحَصْر، وُصولاً إلى الخارج عن القانون، إنسان الخطيئة، ذلك الوَحْش الذي يُدعى المسيح الدَّجال، وهذا بالطَّبع لِمُعارضة الرَّجُل الذي هو النَّقيض تماماً، يسوع….يسوع المسيح…. الذي هو مَمْلوك من الرَّب وهو واحد معه.
يُنسَب إلى نَمْرود، من سُلالة حام المَلْعون، ابن كوش، أنه أول باني إمبراطورية في التاريخ. إنه أول من أراد السَّيطرة ليس فقط على الحيوانات، بل على البَشر، وهو أول من بنى مدينة مُسَوّرة؛ وهذا دليل على سبب الإعْتقاد بأنه مخترع الحرب. أي أن هناك سَبَباً واحداً فقط لبناء سور حول المكان الذي تعيش فيه: الحِماية الذَّاتية. وإذا كنت أول من فكَّر في هذه الفِكْرة، فتخيَّل كيف يُمْكنك الخُروج والإغارة على الآخرين وقَهْرَهم، والانْسِحاب إلى الأمان خلْف الأسوار حتى لا يَسْتطيع الآخرون أن يَفْعلوا بك نفس الشيء.
تزوّج نَمْرود من سميراميس، وبعد موْته، أعلنَت زوجته أنه إله. بالإضافة الى ذلك، باعْتِبارها زوجة الله الأرْضية، جعلَت نفسها ملِكة السَّماء، وكان لهما ابن إسْمه تموز. اعتبر تمّوز ولادة جديدة….. أو تقمّساً…. لنَمْرود. إذن، أصْبَح لدينا الآن كحاكم إله إنسان…..تموز، الذي كان جَوْهَره نَمْرود. هذه الصيغة من الله الأب وملكة السماء الأم، والابن الذي كان جَوْهَره هو ولادة جديدة للأب، أصْبَحَت أساس كل الدِّيانات الكاذِبة في المستقبل؛ تلك الديانات التي يُسَمِّيها الله ديانات "بابل الغامِضة". جميعها لديها نُقْطة بداية مع نَمْرود.
منذ ذلك اليوم، ظهَرَ كل من نَمْرود وسميراميس (اللذان يؤلَّهان الآن كإله وإلهة) بأسْماء مُخْتَلِفة……الأسْماء التي تعكُس اللغة والثقافة التي تَبَنَّتْهُما. لذلك كانت سميراميس، باعتبارها أم جميع الأمَّهات، إلهة الخُصوبة. في مصر، كان إسْمها إيزيس وفي الهند، إندراني وفي آسيا، سيبيل وفي وقت لاحِق، خاصة في منطقة الأرض المُقَدَّسة، سَيُطلق عليها إسْم عشْتيروث. كان إسْمها الأقدم المعروف هو عشتروت.
أما بالنِّسبة لنَمْرود، فقد عُرفت صورَته الإلهية بإسم بعْل في الكِتاب المُقَدَّس، وبإسْم الإله نينوس الذي بنى نينْوى. وفيما بعد، عُرف نَمْرود أيضاً بإسم مردوخ، ثم بإسم مولخ.
أعرُض لكم هذا حتى تتمكَّنوا من رؤية تشابُك الشَّر الذي يظهر في كُتُبِنا المُقَدَّسة من البداية إلى النهاية؛ وما هو الذي يُشَكِّل ديانات "بابل الغامِضة"…. على الأقل من الناحية التأسيسيّة….ومن أين جاءت وكيف تجري اللعنة النبوية لسُلالة حام من خلال نوح. يمكنك أن تكون أكيداً أن المسيح الدجّال سيكون من سُلالة حام.
من المُثير للإهْتِمام، أن إسم المدينة التي بناها نَمْرود لأول مرة، بابل، كان لها في العصور القديمة معنى مُخْتَلِف عما هو عليه الآن. لاحظ تهجِئة باف-إيل. تُشير كَلِمة "إيل" إلى كَلِمة "الله" ….. الإله الأعلى، في الواقع. في الأصْل، كانت بابل تعني مدينة الله. في نهاية المطاف، تَغيّر معناها ليعكس ما حدَثَ هناك؛ وأصْبَحَت كَلِمة بافيل تعني الارتباك.
في النهاية، ونتيجة لالْتِباس اللغات، توقَّفت مدينة بافيل، بابل، عن التوسّع؛ وانْتَقل الناس منها، والآن وبِوَتيرة أسرع بكثير بدأوا في إعادة إسْكان الأماكن النائية في العالم. أليس من الغريب كيف أن الله في تلك المرحلة من تاريخ الإنسان حَكَم على الإنسان بتَشْويش لغة البَشَر، وأجْبرنا على التَشَتُّت؛ ولكن بعد ذلك، في يوم العُنْصُرة، بعد آلاف السنين، بارك الله الإنسان من خلال فيْض الروح القدُس عندما أصبح من المُمْكن للجميع من كل الّلغات فهم حقيقة الله. كما كان ذلك الحدَث عجيباً، فقد كان يُشير إلى وقت آخر في المُسْتقبل عندما يعود شعْب الله في جميع اُمَم العالم من تَشتُّتهم ليتّحدوا بروح واحدة تحت مَلَكِنا الحالي والمستقبلي، في"يسوع ها-مشيا"، يسوع المسيح. نحن نسمّي ملكوت الله المُوَحّد هذا ملكوت الله الألفي، ولكن، ألا تعلمون أنه مثل كل شيء آخر خطّط له الشَّيطان، إنه يَعْمَل بسرعة من أجل تزْييف ذلك……. في شكل حكومة العالم الواحد الخاصة به. نحن اليوم في ذلك الجيل الذي يُجَسِّد بِنشاط ما حاول نَمْرود القيام به…… لربط كل العالم في شعب واحد، "إيشاد"، تحت حكم واحد وحاكِم واحد….. رجُل. إن قطاعات كبيرة من الكنيسة تقود الطريق بشكل أعمى وتُبَشِّر بالتَّسامح والوئام العالمي والسَّلام بأي ثمن وبِنِهاية التوراة، وبدلاً من ذلك يجب أن نثِق في صلاح قلوبنا.
من الآية العاشرة إلى نهاية هذا الإصْحاح يتم سرْد سُلالة سام، بدءاً منه وصولاً إلى إبراهيم. نَحْصل أيضاً على بعض المعلومات الأساسيّة الجيِّدة عن إبراهيم وعائلته. على سبيل المثال، كان والده هو تيراخ، وكان لإبراهيم أخوان….. على الأقل اثنين……. وإسْمَهما ناحور وهاران. وكان لهاران ابن إسمه لوط، ولكن هاران مات. ونرى أن إبراهيم تزوّج من امرأة إسْمها سارة (نكتشف فيما بعد أنها كانت ابنة زوجة أخرى من زوجات أبيه…… لذا فإن سارة كانت أُخت إبراهيم غير الشقيقة) وقيل لنا أنه لِسَبَب ما، يبدو أن سارة لم تَسْتطِع أن تُنْجِب أطفالاً.
هناك شيء غريب غالباً ما يتم تجاهُله في الآية الواحدة والثلاثين. يبدو أن تيراخ في البداية، وليس إبراهيم، هو الذي تلقّى النداء الأول ليأخُذ عائلته وينْتَقِل إلى أرض كنعان. عندما تلقّى تيراخ هذا النِّداء كان يعيش هو وعائلته في مدينة أور التابعة للكلْدانيّين. كان الكلدانيّون ثقافة قديمة في تلك المنطقة؛ سومر هو إسم المنطقة، وكانت أور في جَوْهَرها عاصمة المنطقة. كانت أيضاً مكاناً شرّيراً للغاية؛ في الواقع كانت مرْكزاً ثقافياً لعِبادة إله القمَر هوركي الذي يُعرف اليوم بإسم الله.
من المُثير للإهْتِمام، لِسَبَب ما، أن تيراخ غادر أور بالفِعْل، ولكن بدلاً من التَّوجُّه إلى الجنوب الغربي إلى كنعان، اتَّجَه إلى الشمال الغربي إلى بلاد ما بين النَهْريْن. عندما وصَلوا إلى مدينة مُعَيّنة، قرّروا البقاء بدلاً من الذِّهاب إلى كنعان. لا نعرِف لماذا. ولكن، هناك مات هاران أخو إبراهيم، هاران، وسُمِّيَت المدينة بإسمه في وقت لاحِق.
بالمناسبة: من الناحية الفَنِّية، في ذلك الوقت، لم يكن إبراهيم قد دُعي إبراهيم بعد…… كان يُدعى أبرام، أو بالعبرية، أفرام، والتي تعني "الأب المُعَظَّم". ستمُرّ عدّة سنوات قبل أن يُغيِّر الله إسْمَه من أفرام إلى أبْراهام الذي كان يعني "أبو الكثيرين".