سِفْر التكوين
الدرس واحد وثلاثون – الإصحاحان ثلاثة وثلاثون وأربعة وثلاثون
قراءة تكوين ثلاثة وثلاثين بكامِله
كانت الأحداث المذهِلة التي وَقعَت في الليلة السابقة قد أعَدّت يعقوب، في الوقت المناسب، لما سيأتي بعد ذلك.
كان السؤال عن نَجاة يعقوب (وسلالة عائلته) على وشك أن يُجاب عليه عندما رأى عيسو يقَود فرقتَه المكوَّنة من أربعمئة رَجُل. لقد وَضَع عائلته في ترتيب محدَّد، قد يكون له معنى ما؛ ولكن الشيء الوحيد الواضح الذي يمكنني أن أستخلِصه من ذلك هو أنه وَضَع الأشخاص الأقل أهمية بالنسبة له في المقدِّمة، والأكثر أهمية في المؤّخِرة. أي وَضَع مَحظياته وأولادهن في المقدِّمة في مواجهة الأذى المباشر، وَوَضَع زوجته المحبوبة راحيل وطِفلها المُفضَّل لديه يوسف في المؤخرة، لإعطائهما فرصة أفضل للهَرَب في حال تَوجَّب على عيسو أن يهجُم. ثم رَكَض يعقوب إلى مقدِّمتهم جميعًا وسَجَد لأخيه… في الواقع، لقد انبطَح على الأرض تمامًا وانحنى سبع مرات……وانتظَر سقوط الحذاء. كان هذا استسلامًا مُطلَقًا. وِفق المقاييس شَرق الأوسطية، قَدَّم يعقوب نفسه وعشيرته بأكملها إلى عيسو على أنها خاضعة لرَحمة عيسو أو غضبِه. إنّ المفارقَة في هذا الموقِف قاسية؛ فبَرَكة إسحاق لولديه كانت في هذه اللحظة من التاريخ مَعكوسة تمامًا. فبَرَكة يعقوب كانت تَقتضي بأن يكون يعقوب سيّدًا على إخوته (أي قبيلته)، وبَرَكة عيسو كانت أن يكون تحت نَير قريبه. بدلاً من ذلك، وَضَع يعقوب حياته تحت قدمَي أخيه.
وسامَحَه عيسو، وتصالَح الأخوان. لقد خفَّفت السنوات من غضَب عيسو…… تمامًا كما قالت ريبيكا، أم التوأم. والهدية السَخيّة غير المَعقولة التي قدَّمها يعقوب إلى عيسو أظهرت لعيسو صِدق يعقوب وتوبَته الكاملة عن آثامه. وِفق نمَط التحية على الطريقة شرق الأوسطية، وبأكبر قدر من الاحترام، يقدِّم يعقوب الهدايا لأخيه ويُعرِّفه بعائلته. يَرفُض عيسو الهدايا في البداية، ولكنه يقبلُها في النهاية. ومع ذلك، فإنّ يعقوب حكيم، وحتى بعد أن كرَّم عيسو، يَستمرّ يعقوب في الحديث مع عيسو كموظَّف صغير يتحدَّث إلى رئيسه. بالمناسبة، يَقضي التقليد شرق الأوسطي برَفْض جميع الهدايا في البداية، قبل أن تُقبَل. هذه الرقصة الكابوكية الصغيرة التي نراها مع قصة هدايا يعقوب، ورَفْض عيسو لها ثم قبولِه بها في النهاية لم يكن من الممكن أن تسير في اتجاه آخر؛ لا معنى روحي خاص لها.
يَتصوَّر عيسو الآن أنّ يعقوب وعشيرته سيأتون وينضمّون إلى عشيرته في أرض أدوم، ويعرِض أن يُرافِق أقاربه في الطريق. يقول يعقوب أنّ ذلك غير مُمكِن، لأنّ هؤلاء البَدو القساة من سكّان الصحراء سيتحرَّكون بسرعة كبيرة جدًا بالنسبة للقِطعان والمواشي التي يجب أن يَسوقها يعقوب أمامه. لذا، يعرُض عيسو مرافقة مُسلَّحة. فيرفُض يعقوب ذلك أيضًا، ويقول إنّه سيَثِق بالله ليَحميه. فيوافق عيسو ويُغادر إلى بيته متّجهًا جنوبًا عائداً إلى أدوم.
لم يكُن في نيَّة يعقوب أن يتبَع عيسو إلى أدوم إلا إذا أُجبِر على ذلك…وهو احتمال مُمكِن. في الواقع، إنّ المَكر الذي كان دومًا يعقوب يتَّسم به…الذي يُطلَق عليه الآن اسم إسرائيل…..، يتجلّى في الواقع عندما يوحي لعيسو أنه وعائلته ذاهبون بالفِعل للحاق بعيسو في أدوم؛ عن طريق الخِداع بالتأكيد. بدلاً من ذلك، ما إن غادَر عيسو وجنوده، استدار يعقوب واتَجه إلى الشمال الغربي، عائدًا إلى منطقة قريبة جدًا من المنطقة التي جَرَت فيها مباراة المصارعة مع المَلاك؛ إلى الأرض التي ستُصبح في النهاية أرض ابنه جاد. يتوقَّف، على ما يبدو لبِضع سنوات، ويُسمّي المكان سوكوث……يعني الأكشاك أو الأكواخ
…..لأنه بَنى هذه الأكواخ لعائلته وبعض الحيوانات على أساس مؤقَّت؛ لم يكُن هذا المكان الذي كان ينوي الاستقرار فيه.
بعد فترة من الزمن لَسنا على دِراية بها (تقول التقاليد العبرية أنها كانت ثمانية عشرة شهرًا)، انتقَل يعقوب إلى شكيم، وهو نفْس المكان الذي جاء إليه جدُّه إبراهيم عندما دَخَل كنعان لأول مرة (لاحظوا مرة أخرى كيف أنّ التاريخ يُعيد نفسه). ولكن، كان هذا المكان قد تَغيّر تمامًا عن الوقت الذي خَيّم فيه إبراهيم وسارة على أرضَه الجميلة. لم تكُن هناك مدينة، ولا حتى قَرية؛ في ذلك الوقت كان مجرّد "مكان". لم يكُن حتى يُسمّى شكيم في الوقت الذي كان إبراهيم هناك. دعوني أشرَح لكم وأعطيكُم نصيحة صغيرة حول فَهم الكتاب المقدّس. إذا كنا سنتَحدَّث أنا وأنتم عن الهنود التشوماش الذين سَكنوا حَوض لوس أنجلوس قَبْل وصول المكسيكيين إليها بوقت طويل، فلن تَجدوا مُشكلة في أن أشير إليها باسم لوس أنجلوس، كما فعلتُ للتو. بالتأكيد لم تَكن تُدعى لوس أنجلوس في تلك الأيام……وأنا مُتأكّد من أنكم تدرِكون ذلك جيدًا…… لكنها ببساطة طريقة لأوضح لكم المِنطقة التي أتحدَّث عنها. الأمْر نفسه في الكتاب المقدس.
بما أنّه تم تدوين الكتاب المقدس الذي نَقرأه لأول مرّة في عَصر موسى كوثيقة شامِلة، فقد كان يتحدَّث عن زمن سابق بحوالى خمسمئة – ستمئة سنة. لذلك، في عَصر موسى، كانت شكيم مدينة راسخة ومَعروفة على نطاق واسع. ولذلك، عندما قيل لنا في سِفْر التكوين أنّ إبراهيم وَصَل إلى شكيم، كانت ببساطة طريقة سَهلة وشائعة لتحديد المكان باستخدام مُصطلَحات مُعاصِرة. في الواقع، نظرًا لأنّ أسفار العهد القديم المُختلفة قد كُتِبت على مدى حوالى ألف سنة تقريبًا، فقد توالت أسماء المُدن والأماكن وتغيّرَت. قد تكون الأماكن والمُدن قد سُميَت باسم مُعيَّن في الأسفار الأولى، سُميَت باسم آخر بَعد عدّة مئات من السنين. لذلك، سنَجِد نفْس المكان يُطلَق عليه اسمان أو أكثر في الكتاب المقدس، لأنه في بعض الأحيان يَتحدَّث عن الاسم الحالي، وفي أحيان أخرى يَتحدَّث عن اسم سابق.
في زَمن يعقوب، كانت قد بُنيَت مدينة مسورة. وهناك اشترى بعض الأراضي من أبناء مَلِك شكيم، المَلِك حامور. كان المَلِك حامور من إحدى قبائل كنعان العديدة، وكانت قبيلتُه بالذات هي قبيلة الحويين. ونكتشِف هنا أيضًا أنّ المدينة سُميَت باسم أحد أبناء المَلِك حامور، وهو شكيم.
وبدلاً من أن يعيش يعقوب داخل أسوار المدينة، نَصَب خيامه خارج أسوار المدينة. إنه راعي غنم، والعَيش داخل المدينة ليس شيئًا قد يَختاره. ومن ناحية أخرى، أتاح له السَكَن بجوار المدينة فُرصَة أنّ يعُقد معاهدة أمان مُتبادَلة لحماية عائلته، وأن يكون قريبًا من مقوِّمات الحياة. والمبلَغ الذي دَفَعَه مقابل الأرض خارج أسوار المدينة مهم: لأنه (أ) يُسجِّل أنه اشترى أرضًا بالفِعل، (ب) دِفَع ثمنًا مناسبًا لها حتى لا يُتَهم بغِشّ المَلِك. من حيث المَبدأ، إنها نفْس الطريقة التي استخدَمَها إبراهيم لشراء مَغارة مكفيلة كمَدْفن؛ كل عناصر إثبات الملكية الدائمة، متوفرة من دون شكّ. سيكون هذا إثباتًا مهمًا في وقت لاحقٍ لأنه قيل لنا في سِفْر التكوين ثماني وأربعين أنّ هذه القِطعة من الأرض بالذات التي أوصى بها يَعقوب لابنه
يوسف. علاوةً على ذلك، دُفِن يوسف في البداية هناك بَعد الخروج……لأنّ بني إسرائيل أحضَروا رُفاته معهم…على الرغم من أنه يبدو أنّ عظامه نُقِلت فيما بَعد إلى مكانٍ آخر.
ما هو أكثر إثارة للاهتمام هو أنه في المُستقبل، في هذه البُقعة بالذات (تلك القِطعة الصغيرة من الأرض خارج أسوار شكيم)، سيُظهِر يشوع مبدأً يجب أن يكون معظمنا في هذه القاعة شاكرين له. سوف نتوقَّف ونَقرأ جزءًا من تلك القصة فقط. اقلبوا كتُبكم المقدّسة إلى يوحنا الإصحاح واحد الآية أربعة.
قراءة يوحنا الإصحاح واحد الآية أربعة إلى أربعة عَشرة
لاحِظوا في هذه اللحظة من التاريخ أنّ اسم شكيم تَحوَّل إلى سيشار، ولكنَّهما في نفْس المكان. وهنا، عند البئر ذاتها التي حفرَها يعقوب ليوفِّر الماء لعائلته وحيواناته، يلتقي يسوع بالمرأة السامرية. أليس من المثير للاهتمام، أنّ أول شخص غير يهودي قُدِّمَ له شُربة من الماء الحيّ الذي يجلِب الحياة الأبدية كان (أ) امرأة، و(ب) سامرية مكروهة. وقد حَدَث ذلك في أوّل مكان استقرّ فيه يعقوب، إسرائيل، عندما عاد من بلاد ما بين النهرين إلى أرض الميعاد.
بالمناسبة: تَقَع شكيم اليوم في الضِفّة الغربية، ويطلق عليها اسم نابلس بالعربية، ويدّعي الفلسطينيون أنهم كانوا دائمًا يسيطرون على هذه الأرض.
بعد أن شَعرَ يعقوب الذي يُدعى الآن إسرائيل بأنه قد وَصَل إلى مكان يُحتمَل أن يكون موطِنًا جديدًا ودائمًا لعشيرته، أقام مذبَحًا وسَمَّاه إيل-إلوهي إسرائيل. هذه الكَلِمات العبرية تعني… إيل، إله إسرائيل. لكنهم لن يمكُثوا هناك طويلاً.
سِفْر التكوين الإصحاح أربعة وثلاثون
قراءة تكوين أربعة وثلاثين بكاملِه
الآن، كانت دينا، ابنة يعقوب من ليا، تبلُغ من العمر خمسة عشرة سنة تقريبًا وفقًا لمُعظم مؤرخي الكتاب المقدس. وقيل لنا إنها ذهبتَ ذات يوم إلى المدينة "لترى" أو "تزور" بعض الفتيات المَحلّيات. الكَلِمة العبرية هنا التي تعني "ترى" هي "را-آه"، والتي تحمِل في طيّاتها معنى الرغبة في المشاركَة أو الاستكشاف أو تعلُّم شيء ما على الصعيد الفِكري. يقول يوسيفوس إنها ذهبت لتُشارك في إحدى الأعياد الوثنية العديدة التي يَحتفل بها الحويون. فيرى شكيم ابن المَلِك دينا ويُعجبُه ما يراه، فيغتَصِبها. هذه القصة بأكملها تَحمِل في طياتها قصة فتاة صغيرة ساذجة وحمقاء، تتورّط في ما لا حول ولا قوة لها به، ثم تتوالى الأحداث التي تتجاوَز قدرة الشابة على إدراك مدى خطورتها، ناهيك عن قدرتِها على السيطرة عليها. يجب أن نَفهَم أنّ دينا كانت الآن فتاة في سنّ الزواج، عذراء، ولم يكُن يُسمَح لها أبدًا بالذهاب إلى المدينة من دون مُرافقة. إنّ قيامها بذلك كان عَملاً من أعمال التَمرُّد، وأدّى إلى أمور فظيعة.
والآن، على ما يبدو، كان ابن المَلِك يشتهي دينا. يقول الكتاب المقدس إنه أحبّها، ولكن في الوقت نفسه، فإنّ الكتاب المقدس يذكُر في الحقيقة جانبه من القصة. الرَجُل الذي يُحبّ امرأة لن يأخذها بالقوة! ولكن، كأمير، شَعَر أنه يستطيع أن يفعَل ما يشاء. وبالتأكيد، لن تجرؤ أي امرأة على رفضِه.
على أيّ حال، يريد الأمير الآن أن يتزوَّج دينا، فيذْهَب والده المَلِك ليتحدَّث مع يعقوب الذي كان قد تلقّى خَبَر التعرُّض لابنته. وفي الوقت نفسه تقريبًا وَصَل الخَبر إلى أبناء يعقوب الذين كانوا في الحقول، فعادوا معًا إلى الخيام غاضبين. يُخاطِب المَلِك يعقوب وأبناءه ويَشرَح لهم أنه يرغَب هو وابنه في تصحيح الأمور بزَواج ابنه من دينا، ومن ثم يتزاوج الشعبان ويُصبحان شعبًا واحدًا في النهاية.
هناك الكثير من الأمور التي يمكن أن نتوقَّف لنتحدَّث عنها هنا، ولكنني أودّ أن أوضِّح نقطتين فقط. أولاً: محاولة مَلِك شكيم إصلاح الأمور سريعًا تدلّ على الحكمة وعلى أنّ هذا المَلِك لم يكُن مَلكًا نموذجيًا في تلك الحقبة. لقد كان يُشتبَه أنّ مدينة شكيم لم تكُن مُحتلَّة من قِبل الحيويين فقط، بل من قِبل عدةّ قبائل مُختلِفة. حَكَمَ حامور اتّحاد من القبائل، فاستدعى ذلك الكثير من الدبلوماسية لكي يُحافِظ على سُلطتَه. ثانيًا: علينا أن نُدرِك أنّ مَملكة شكيم كانت كبيرة. كانت المدينة، في زَمن يعقوب، مَقرًا للحُكْم على منطقة واسعة جدًا. لم تكُن المدينة نفسها كبيرة بشكل خاص، لكن المساحة التي كانت تَحكُمها كانت كذلك. تُخبِرنا السِجلاّت الأكادية والمصرية القديمة عن مَملكة شكيم التي كانت تَضمّ مساحة تبلغ حوالى ألف ميل مربَّع تبدأ جنوب أورشليم وتَمتدّ إلى الشمال حتى مجيدو. لا شكّ في أنّ الملك والمملكة التي نتحدَّث عنها الآن هي نفسها التي تَصِفها تلك السجلاّت القديمة. كان حامور زعيمًا أكثر من كَونه ملكًا، وكان عليه أن يكون ماهرًا على الصعيد السياسي لإدارة مملكته المتنوعة.
في الآية سبعة، تقول الكَلِمات القليلة الأخيرة أنّ هذا الأمْر…هذا الاغتصاب….. كان "أمرًا لا ينبغي القيام به". ما حَدَث هنا كان غير قانوني في الشرق الأوسط. وكان يَتطلَّب أن يُعوِّض الذَكَر عائلة الفتاة، لأنها بذلك قد تَحطَّمت. كانت محاولة العثور على زَوج لفتاة فَقَدت عذريَّتها شِبه مستحيلة. وفي بعض الآيات الأخرى سنرى المَلِك يعرِض أكثر بكثير من مَهر العروس العادي مقابل دينا، ليس بدافع الشعور بالمسؤولية، بل لأنه كان مُلزَمًا قانونيًا.
ولكن ما أثار غَضب أبناء يعقوب حقًا هو أنّ المَلِك لم يذكُر حتى الجريمة التي ارتكبَها ابنه في حقّ دينا…وكأنها لم تَحدُث أبدًا. بل أكثر من ذلك، كانت دينا مُحتجَزة رهينة داخل المدينة، وهذا بلا شك هو السبب الذي جَعَل المَلِك يشعُر بالشجاعة الكافية لمواجهة يعقوب بهذه الطريقة الوقحة.
في الرواية التالية، لا نَسمَع يعقوب يرُدّ على المَلِك، بل أبناء يعقوب هم الذين يَضعون شروطَهم على طلَب المَلِك: يجب أن يُختَن المَلِك وأبناؤه وجميع أفراد عائلته وجميع ذكور المدينة قبل أن تتزوج دينا من ابن شكيم. لماذا يجب ختان جميع الرِجال؟ لأنه كان ممنوعًا على أي شخص أن يكون عضوًا من بني إسرائيل (وهو حسب قَول المَلِك، ما سيحصل كنتيجة…… أي أنّ الشعبَين، شعبه وشعب يعقوب، سيجتمعان)، من دون الخضوع لشروط العهد الإبراهيمي. ولكي تكون عضوًا في هذا العهد، كان الختان مطلوبًا. ولكن، كانت هذه حيلة، لأن الدم كان في أذهانهم.
لقد كانوا يَستخدمون ما تعلَّموه من أبيهم يعقوب، الذي يُدعى الآن إسرائيل: الخِداع. لقد كانوا يَعرفون جيدًا ما كان يُعانيه الذكور البالغون في العصور القديمة بعد الختان: الكثير من الألم والالتهابات، وما يَنتُج عنه من ضُعف ومرَض.
المَلِك حامور ليس أفضل حالاً. دعا إلى اجتماع عام، وتَحدَّث إلى ذكور المدينة وأخبرهم أنه يريدهم أن يختتنوا حتى يَتحِّد هذان الشعبان. بالطبع لم يكونوا مُتحمسين جدًا لهذا الأمر، لأن ختان البالغين في تلك الأيام كان عمليّة مُرهقة جدًا. لذلك فهو جَعَل الأمر يبدو وكأنه أمرٌ جيد بالنسبة لهم. ولكن، في المقام الأول، هو لغرَض زيادة ثروته. لأنه في الآية ثلاثة وعشرين، يقول المَلِك لرِجال مدينته: "أَلَنْ تَصِيرَ لَنَا مَوَاشِيهِمْ وَأَمْوَالُهُمْ وَجَمِيعُ دَوَابِّهِمْ". هذا ليس صحيح. بل ستُصبِح له!
يُجادِل الزعيم ببلاغة حول وِجهة نظرِه. يقول إنّ هؤلاء الناس هم أصدقاؤنا. إنّه مُصطلح يُشير إلى أنّ المعاهدة بين شكيم وبني إسرائيل كانت قائمة بالفِعل، وبالتالي فإنّ رَفْض شروط يعقوب سيكون إهانة.
في الآية أربعة وعشرين، نقرأ أنّ جميع ذكور شكيم مختونون، وبعد ثلاثة أيام، وفي ذروة انزعاجِهم وانتشار العدوى، طاف الأخان شمعون ولاوي حول المدينة وقِتلا كلّ الذكور الذين كانوا مُعاقين في ذلك الوقت، وكان من بينهم المَلِك وأبناؤه. كما أنقذا دينا أيضًا، وبعد أن انتهى شمعون ولاوي من القَتْل، انضم أبناء يعقوب الآخرون إلى أبناء يعقوب لنَهْب المدينة التي أصبحت الآن بلا دفاعات. لم يأخذوا الممتلكات فقط، بل أخذوا الناس أيضًا. كان هذا الأسلوب الشائع في تلك الأيام؛ فقد كان أخَذَ الناس يزيد من قوة القبيلة وسُلطتِها.
افهَموا أنّ قبيلتَي شمعون ولاوي هما اللتان كانتا تقتُلان كل الذكور. كان شمعون ولاوي، هما اللذان قادا الرجال، ولكن كان لديهما، في ذلك الوقت، العديد من الخَدَم الذكور وربما ابن أو اثنين منهم بين المشاركين. وأظنّ أنّ بعض الرِجال من القبائل الأخرى شارَكوا أيضًا، لأن الأمْر كان سيتطلَّب أكثر من مجرد بضعة رجال لقَتْل كل سكان المدينة. وأظن أنّ ذلك تمّ على طريقة حَرب العصابات، من بيت إلى بيت، بحيث لم يكُن أحد أكثر حِكمة حتى جاء وقت هلاكه أو هِلاكها.
عندما اكتشَف يعقوب ما فَعَله أبناؤه، شَعَر بالحزن والغضب، وأخبرهم أنه أصبح "نتِنًا" بالنسبة للكنعانيين والبريزيين نتيجةً لفِعلَتهم. يُعتقَد أنّ البريزيين ليسوا قبيلة محدَّدة، بل مجرّد اسم عام لمجموعة من القبائل غير المُسمّاة التي تعيش في منطقة التلال في كنعان، ولكنهم بالتأكيد من أصل كنعاني. دعونا نتذَكَّر هنا أنّ الحويين (الذين كانوا القبيلة الحاكمة في شكيم) كانوا من القبائل العديدة التي انبَثقت من كنعان بن حام حفيد نوح أي أنهم كانوا جميعًا مُترابطين فيما بينهم، وربما كان بينهم معاهدة حماية مُتبادَلة فيما بينهم.
يقول يعقوب لأبنائه أنه بسبب فِعلتهم، ستأتي قبائل كثيرة ضدهم، ولن تكون لهم فرصة للنَصر لأنهم سيكونون أقل عددًا من غيرهم. لم يَشعُر أولاده بالندم على فِعلَتهم القذرة.
في وقت لاحقٍ، سيَشعُر شمعون ولاوي بمزيد من العار علنًا بسبب تَعطّشهما للدماء والعنف. في سِفْر التكوين تسعة وأربعين، عندما كان يعقوب على فراش الموت يوزِّع البَرَكات….. ما سيكون بمثابة بَرَكات نبوية لكل واحد من أبنائه، سَمِع شمعون ولاوي ما يلي: (ناس) تكوين الإصحاح تسعة وأربعين الآية خمسة "شَمْعُونُ وَلاَوِي أَخَوَانِ، وَسَيْفَاهُمَا سِلاَحُ عُنْفٍ. ستة فَلاَ تَدْخُلْ نَفْسِي فِي مَجْلِسِهِمَا، وَلاَ يَتَّحِدْ مَجْدِي بِمَجْمَعِهِمَا، لأَنَّهُمَا بِغَضَبِهِمَا قَتَلاَ النَّاسَ، وَبِإِرَادَةِ أَنْفُسِهِمَا أذيا الثِّيرَانَ" سبعة مَلْعُونٌ غَضَبُهُمْ لأَنَّهُ شَدِيدٌ، وَغَضَبُهُمْ لأَنَّهُ قَاسٍ. أُفَرِّقُهُمْ فِي يَعْقُوبَ وَأُشَتِّتُهُمْ فِي إِسْرَائِيلَ.
من المُثير للاهتمام أنّ لاوي أصبح كاهنًا وخادمًا للهيكل. الوظيفتان الأساسيتان للاوي كانت إعداد الذبائح، وحِراسة الهيكل وشَمَلت الحراسة مع المُسلّحين في الهيكل وأراضيه…… وظيفة دموية وعنيفة.
لن يحصُل اللاويون على أيّ أرض في تقسيم الأراضي في أرض الميعاد. بل سيكونون مُشتّتين في كل منطقة من مناطق القبائل الاثنتي عشرة.
سيُعطى شمعون قِطعة صغيرة من الأرض مُحاطة بيهوذا، وكان من أوائل القبائل التي ستُضَم إلى قبيلة إسرائيلية أخرى…….يهوذا.
قَبْل أن ننتقِل إلى الإصحاح خمسة وثلاثين، اسمحوا لي أن أذكُر مسألة مهمة: لم يكُن الله ليَسمَح بزواج بين دينا وشكيم. لم يكُن ليَسمَح باختلاط العبرانيين بهؤلاء الوثنيين. ليس هناك ما يُشير إلى أنّ يعقوب كان يؤيّد ذلك أيضًا. في الواقع، لا يوجد ما يُشير إلى أن أبناءه اعتقدوا أنها فِكرة جيدة….. لأنّ هدفَهم الوحيد من الموافقة على الاقتراح كان إيجاد طريقة للانتقام. إنّ تأثير انضمام عائلة يعقوب، عائلة إسرائيل، إلى عائلة الحائيين (الملك حامور وعائلته) كان سيؤدّي إلى إعادة توحيد ما فرَّقه الله وفَصَلَه؛ كان سيوحِّد سلالة شام المُبارَكة (سلالة يعقوب) مع سلالة حام المَلعونة (سلالة الملك حامور). كان ذلك ليُحقِّق رغبة الشيطان.