سِفْر التثنية
الدرس اثنان وأربعون – الإصحاح واحد وثلاثون
قَبْلَ أن ننتقِل إلى الإصحاح واحِد وثلاثين من سِفْر التثنية أود أن أستغرِق بِضعَ دقائق لمناقشَة شيء مُثير للاهتِمام حول الإصحاح الذي انتهَينا منه للتَوّ، وهو الإصحاح ثلاثين من سِفْر التثنية. اقلِبوا أناجيلكُم إلى الآيات الافتتاحية من سِفْر التثنية الإصحاح ثلاثين.
الكتاب المقدَّس اليهودي سِفْر التثنية ثلاثين الآية واحد ”عندما يَحين الوَقت الذي تَحُلّ عليك كل هذه الأشياء، البَرَكة واللعنة التي قدَّمتُها لك، وأنتَ هناك بين الأمم التي طرَدَك إليها أدوناي إلهُك، عندئذٍ، في النهاية، ستَبدأ في التَفكير فيما حَدَث لك؛ اثنان وتَرجِع إلى أدوناي إلهِكَ وتنتبِه إلى ما قاله، وهو بالضبط ما آمُرُك به اليوم – أنت وأبناؤك بكل قلبِك وكل كيانِك. ثلاثة عندئذٍ سيقلِب أدوناس إلهُكم نفيكُم ويرحمُكم؛ سيَعود ويجمعُكم من جميع الشعوب التي شَتَّتَكُم أدوناي إلهُكُم إليها.
هذا هو النَهج الكلاسيكي ”إذا، إذَن“ للناموس الذي يُميِّز التوراة. يَقول الله أنه عندما تُنفى إسرائيل إلى الأُمَم الوثنيَّة بسَبب عصيانِها وتَمرُّدِها، إذا عادَت إلى يَهوَهْ إلهها وانتبَهت إلى ما قالَهُ، عندها سيَعكِس الله نفيَها ويرحَمُها ويُعيدُها إلى أرض الميعاد، ميراثها.
إذًا الاتِّفاق هو أنّ على إسرائيل أن تُدرِك أوّلاً لماذا هي في المَنفى، وثانيًا أن تَتوب بإخلاص (أي أن يَرجِع بنو إسرائيل عن الطُرُق التي كانوا يَتبعونها وبالتالي يَعودوا إلى يَهوَه)، وثالثًا أن يبدأوا في طاعة يَهوَهْ مرَّة أخرى (وليس فقط مَعرِفة كَلِمتِه)، ورابعًا استِجابةً لهذه الأمور الثلاثة سيُعيدهُم الرَب إلى الأرض. هذه هي الصيغة التي يَجِب على شعبِه أن يَتْبَعَها بعدَ أن يكون قد سَقَط إذا كان لديه أي أمَل في أن يُعيده الله.
وبالطَبع هذا ما حَدَث عندما أُخِذ يَهوذا إلى بابِلْ عام خمسمئة وستة وثمانين قَبْل الميلاد. لقد اعتَرَف اليهود أثناء نَفيِهِم في بابِل بأنّهم كانوا مُخطئين، واستَجاب اليهود لأنبيائهم مِثل حزقيال ودانيال وتابوا عن طرقِهِم وهكذا خلَّصَهمُ يَهوَه، وعَكَس أمورَهم، وأعادَهم إلى المَنفى، في سبعين سنة فقط.
ولكن هذا حَدَث لأنّ ردَّ فِعْل يهوذا (المَعروف أيضًا في الكتاب المقدَّس العبري باسم المَملكة الجَنوبية) مُختلِفًا تمامًا عن رَدّ فِعل مملكة إفرايم – إسرائيل في الشمال عندما عانَت من نَفيها الخاص. فَقبْل حوالي مئة وخمسة وثلاثين عامًا تمّ نَفي أسباط إسرائيل العشرة الذين كانوا يُشكِّلون مَملكة إفرايم-إسرائيل الشمالية من أرضِهم على يَد الآشوريين، لكنَّهم لم يَعودوا أبدًا. ذلك لأنَّهم لم يَعترفوا أبدًا بخَطَئِهِم، ولم يَتوبوا عن الرَدَّة التي تَسبَّبت في هلاكهِم، ثمّ عَقدوا العَزْم على أن يُصبحوا مُطيعين. في الواقِع لقد نالوا بالضبط ما أرادوه عَلنًا؛ أن يَكونوا مِثل جيرانِهم الوثنيين. لذلك أعطاهُم الله ما أرادوه؛ لقد اختَفَت أسباط مملكة الشمال تقريبًا لأنها لم تَتْبَع صيغة سِفْر التثنية ثلاثين. من ناحيةٍ أخرى اتَّبَعَت مملكة يهوذا بعدَ قَرن ونِصف تقريبًا صيغة التَوبة والطاعة المُتجدِّدة وأعادَها إله إسرائيل إلى الأرض.
وبعدَ عِدَّة قرون في المَنفى الروماني (بعد مَوت يسوع)، قال الله إنه سيَفعَلُ شيئًا جديدًا مع شعبِه المختار. كان النَص الوارِد في سِفْر التثنية ثلاثين يقول إنّ على الشعب أثناء وجودِه في المَنفى أن يَتوب ويَرجِع إلى الله وهو لا يزال في مَكان غَريب، وعندَها فقط سيُعيدُه إلى الأرض. ولكن لم يكُن هذا ما كان سيَحدُث مع يهود السَبي الروماني (ومن السَبي الروماني عاد يَهوذا ليُشكِّل إسرائيل الحديثة عام ألف وتسعمئة وثمانية وأربعين).
إسحاق نيوتن هو واحِد من بين العَديد من اللاهوتيّين الرائعين الذين بَذَلوا قُصارى جهدهِم لسَحْبِنا من حماستِنا الدّينية المُضلِّلة في كثيرٍ من الأحيان في مُحاولة استِخدام النبوءات الكِتابية لرؤية المُستقبَل، وذلك بتَذكيرِنا بأنّ هذا لم يكُن الغَرَض من كَلِمات الأنبياء التي لا تُخطئ. بل إنّ النبوءات المُقدَّسة هي بالأحرى لكي يَعرِفَ شَعبَه أنه عندما تتحقَّق هذه الأمور النَبَويّة يَكون الله هو الذي غَيَّر مَجرى التاريخ، وتدخَّل نيابةً عنه، وأنّ كَلِمتَه النَبَوية ليسَت أمْرًا للكَون؛ هي أمْر إلهي لا يُمكِن مقاومتُه، ولا يمكن التراجُع عنه، ومن يُحارِبه سيَخزى أو يَهلَك.
اقلِبوا أناجيلكُم إلى الإصحاح ستَّة وثلاثين من سِفْر حزقيال. هذا فَصْلٌ مُثير من النبوءة نراه في عصرِنا الحاضِر أكثَر من المُستقبَل. في الواقِع إنه شيء نَحن شهود عَيان عليه رُغْمَ أنّ قِلَّةً من المسيحيين يَرَونَه؛ إنه شيء كان القِدّيسون القُدَماء ليُقدِّموا أي شيء ليَرَوه يَحدُث كما يحدُث أمامنا. لكن من المُحزِن أنّ الجُزء الأكبَر من كَنيسة المَسيح مَفتون جدًا بأزمِنة النِهاية ويَتطلَّع إلى الاختِطاف والمَخاض وهُم عُميان عن هذا الإتمام المُذهل للنبوَّة الذي يحدُث الآن.
اقرأ حزقيال الإصحاح ستة وثلاثين من الآية واحد إلى اثنان وثلاثين
هذا يَصِف عَودة أسباط بني إسرائيل من مَنفاهُم الروماني (وبمَعنى ما الأسباط العشرة الشَمالية من مَنفاهم الآشوري). هذا يَصِف عودَة جميع أسباط إسرائيل إلى وَطَنِهم القَديم؛ المَكان الذي لا يَزال العالَم يُصِرّ على تَسميتِه فلسطين. لكن ما هو مُختلِف للغاية بشأنّ هذه العَودة يَظهَر بشَكْلٍ خاصّ عندما نَقرأ حزقيال الإصحاح ستَّة وثلاثين الآية اثنان وعشرين حيث يَقول: ”ما أنا على وَشَك أن أفعلَه من أجلِكُم ليس من أجلكُم، فلا تَتفاءلوا به “.يقول الرَب هنا إنّه سيَفعل شيئًا من أجْل حِماية اسمِه المقدَّس.
في تطوُّر مُدهِش للأحداث يَقول الرَب أنه بينما كانَت وَظيفة إسرائيل كشَعبِه المُختار (حتّى في مَنفاه) أن يَحمِل كَلِمة الله إلى الأُمَم (لأنه خَصَّ إسرائيل لتَكون حارِسة لكَلِمة الله) بدلاً من ذلك دنَّس بَنو إسرائيل اسم الله في هذه الأراضي الغريبة في مَنفاهُم. لقد دَنَّسوه إلى دَرَجة أنّ الناس (الأُمَم) قالوا: ”أهذا هو الشَعب الذي يُفترَض أنَّه شَعْب الله؟ أليس هذا هو المَوقِف العامّ للعالَم اليوم تِجاه الشَعب اليَهودي؟
إذًا يَقول الله أنه بينما كان يَنبغي أن يَرفَع اليهود اسمَه المقدَّس عاليًا أثناءَ وجودهِم في المَنفى، إلا أنّ اليَهود دَنَّسوه بدلاً من ذلك، لذا كان على الله أن يَستعيد اسمَه المقدَّس. والطريقة التي اختارَها للقيام بذلك كانَت عن طَريق إخراج اليهود من الأُمَم التي شَتَّتهُم فيها وإعادتِهِم إلى أرْض الميعاد. وبعِبارة أخرى بما أنّ كلَّ ما كان يَفعلُه اليهود هو تَحريف اسمهِ، فإنّه سيخرجُهُم من الأُمَم التي نَفاهم إليها ويُعيدُهم إلى وطنِهم لِيوقِف ذلك! كان سيَفعَل شيئًا مُدهشًا لدرَجة أنّ اسمَه سيَرتَفِع عاليًا مرَّة أخرى، على الرُغم من ارتداد شعبِه.
لم يكُن حَلُّ الرَب مماثِل للسَبي البابِلي والعودة عنه، ومُماثِل للسَبي الآشوري حيثُ لم يُرجِعِ الأسباط العشرة. بلْ كما جاء في حزقيال الإصحاح ستَّة وثلاثين الآية أربعة وعشرين، أولاً سيَجمعُ اليهود (كما هُم) من أقاصي العالَم ويُعيدهُم إلى الأرض، ثم يَرُشّ عليهِم ماءً طاهراً ويطهِّرهم. على الرُّغم من أنَّهم لن يَمُدّوا أيديهِم إليه، إلا أنه سيَمُدّ يَدَه إليهِم.
هل تَرى هذا التحوُّل المُذهِل في الأحداث مُقارنةً بسِفْر التثنية ثلاثين؟ سيُعادون إلى أرض الميعاد وهُم لا يَزالون في حالة تَمرُّد، وهناك سيَبدأ الرَب (بفِعل مَشيئتِه الإلهية) في تطهيرِهمِ. لم تكُن هناك حاجَة إلى تَوبة اليَهود؛ لم تكُن هناك حاجَة إلى العودة إلى طرُق الرَب لإعادة تأسيس وطنهِم من جَديد. بمجرَّد عَودة بَني إسرائيل إلى الأرض، سيَقلِب الرَب (كما جاء في حزقيال الإصحاح ستة وثلاثين الآية ستّة وعشرين وسبعة وعشرين) قلوبَهُم المُتحجِّرة إلى لَحْم ويَضَعَ روحَ الله داخِلهم. سيَكون التدخُّل الإلهي هو الذي سيَضَع فيهِم الرَغبة في أن يَكونوا مُطيعين ليَهوَه. كان سيَضَع التوراة في قلوبِهم.
لذلك نَرى نمط الفداء قد تَطوَّر وهو الذي اعتمَد عليه المَسيحيون لقرون؛ فالرَب يَشاء من يشاء، ويزرَع في أولئك الذين يختارهُم الرَغبة في المَجيء إليه والقُدرَة على طاعتِه، ويَتمّ ذلك بِوَضْع الروح القدُس داخِل الناس. آمَلُ أن تفَهموا المَفهوم الجَذْري الذي يتحدَّث عنه حزقيال؛ لا عَجَب أنّ أولئك المَنفيّين اليهود الذين كانوا يَعيشون في بابِل وَجَدوا ما قاله إمّا مُضحِكًا أو غيرَ مَفهوم. لم يَضَع الرَب أبدًا روحَه داخِل إنسان خاطئ بطبيعتِه حتّى تلك اللحظة. وفي الواقِع لم يكُن مِثل هذا الأمر مُمْكنًا حتّى جاء يَسوع وكفَّرَ عن خطايا الإنسان وجَعَلَنا مَقبولين لدى الله على مستوى لم يكُن مُمكنًا من قَبْل.
كيف يُمكِن لكَنيسة العَصْر الحديث مع كلّ المَعرِفة المُتاحة لها أن تَقرأ هذه الكَلِمات، ونرى بأعيُنِنا ما فَعَله الرَب، ومع ذلك ما زِلنا نَعتقِد أنّه قد رفَضَ العبرانيين؟ وبالمِثل كيف يمكِن لكَثير من اليَهود أن يَقولوا صراحةً أنهم ليسوا مُختارين أو مُختاري لله (ولا يُريدون حقًا أن يَكونوا كذلك) بعد أن عَرَفوا ما فَعَلَه الرَب من أجلِهم؟ أيُّها المؤمنون: أمامَنا الكثير من العَمَل، أليس كذلك؟
لنَقرأ سِفْر التثنية واحد وثلاثين.
لِنَقرأ سِفْر التثنية واحد وثلاثين كلَّه
لقد خَرجْنا عن هذا القُسم المُكوَّن من أربعة فُصول الذي حَمَلَ (وما زال يَحمِل) الكثير من الغموض والفُضول والآن نَدخُل في آخر أربعَة فصول من سِفْر التثنية التي هي خاتِمة وَفترة انتقاليّة من موسى إلى يوشَع. إنهّا حقًا خاتِمة للتوراة بأكملِها، وليسَ فقط لسِفْر التثنية. في وسَطِها قِصّة الأيام الأخيرة لموسى على الأرض. يُعلِن موسى أنّ زمَنَه قد انتَهى، وأنّ يوشَع هو القائد الجديد الذي عَيَّنَه الله لإسرائيل، ثم يَموت موسى على جَبل نيبو في موآب.
يَقول موسى في الآية اثنان أنه أصبَح شَيخًا يَبلِغ من العُمر مئة وعشرين عامًا. وعلاوةً على ذلك، وعلى الرُغم ممّا يَقوله الكتاب المقدَّس اليهودي ومُعظم النُسَخ، يُعلِن موسى أنه لم يَعُد بإمكانِه ”الخروج والدخول“. عادةً ما يُترجَم هذا بمَعنى أنّ موسى ببساطَة مُتعَب وَضعيف (وهو أمرٌ مَفهوم جدًا في هذا العُمر المتقدِّم)؛ أي أنَّه لم يَعُد قادِرًا على التحرُّك. هذا غَير صحيح. كما شَرحتُ في دَرْسٍ سابق، كانت عبارة ”اخرُجوا وادخُلوا“ مُصطَلَحًا عَسكريًا بَحتًا. كانت تُشير إلى جيش يَتجمَّع للمَعركة، ويخرُج ويُقاتِل، ثمّ يَعود (على أمَل أن يَكون مُنتصِرًا). لم يكُن موسى يقول إنه كان عَجوزًا وعاجِزًا عن قِيادة إسرائيل في المَعرَكة؛ بل كان يقول إنّه نَظَرًا لأنّ الرَب قد قرَّر أنّ موسى لن يَعبُر نَهْر الأردن إلى أرض الميعاد، فقد انتَهى أجَلُه ببساطة. لقد انتَهى وقتُه، وسيَقود الحَرْب المقدَّسة القادِمة على كنعان قائدٌ جديد.
بالمُناسبة، يمكنُكَ أن تُصدِّق أنّ موسى كان يبلُغ من العُمر مئة وعشرين عامًا دون أي مُشكلة. على الرُّغم من أنّنا نقرأ تقارير تُفيد بأنّ متوسِّط العُمر في تلك الحَقبة كان حوالي ثلاثين عامًا (بسبَب المرَض والحَرْب وارتفاع مُعدَّل وفيَّات الرُضَّع)، إلا أنّ لدينا أيضًا سِجلاّت من مُجتمعات الشَرق الأوسط تُثبِت أنه لم يكُن من غَير المألوف أن يَعيش الناس (الوثنيّون) حتّى مئة وعشَر سنوات وأحيانًا حتّى مئة وأربعين سَنَة. ولكِن من المُثير للاهتمام أيضًا كيفَ أنّ الـمئة وعشرين سَنَة المُخصَّصة لموسى تَتَّفِق تمامًا مع ما أمَرَ الله به في سِفْر التكوين الإصحاح ستة الآية ثلاثة:
عن الكتاب المقدَّس اليهودي سِفْر التكوين الإصحاح ستة الآية ثلاثة قالَ الرَب يسوع: ”قَالَ رَبُّنَا: ’لَنْ تَسْكُنَ رُوحِي فِي الْبَشَرِ إِلَى الْأَبَدِ، لِأَنَّهُمْ أَيْضًا جَسَدٌ، فَلِذَلِكَ يَكُونُ عُمْرُهُمْ مئة وعشرين سَنَةً‘.
عاشَ موسى إلى أقْصى فترَة حَياة مِثالية حدَّدَها الله.
يَقول موسى إنّ الرَب لن يَسمَح له بعُبور الأردن. بل سيَعبُر الرَب نفسُه أمام إسرائيل ثمّ يَقود يوشع إسرائيل للعُبور. لاحِظوا الاستِخدام المُتعدِّد لمُصطَلح ”عُبور“؛ أعتقِد أنّ هذا أمْرٌ مُهِمّ. منذُ وقتٍ طويل عندما كنا نَدرُس سِفْر التكوين أخبرتكُم أنّ كَلِمة ”عبر“ كان يُعتقَد أنّها مُشتقَّة من الكَلِمة الأكادية ”إيبورو“، والتي تَعني ”الذي عَبَر“. كانت، في ذلك الوَقت، تُشير إلى إبراهيم الذي عَبَر النَهر الكبير (الفُرات) من أجْل الذهاب إلى الأرْض الّتي قالَ الله إنه سيُريها لإبراهيم. أمّا الآن في هذا السِياق فهي تُشير إلى موسى الذي مَنَعَه الله من العبور، ولكن الله عَبَر أمام يوشَع وإسرائيل إلى أرض الميعاد في كنعان.
ليس من الصَعب فَهِم مَوضوع ”العبور“ بِرُمَّتِه؛ فالعبور يَعني تَرْك جانِب والذَهاب إلى الجانِب الآخر. إنّها لحظَة حاسِمة في الزَمن لأنّ التوراة تَعَمل بشكلٍ أكبَر في العالَم الأرْضي (فهي تُحوِّل المبادئ السماوية إلى شَكلٍ مادّي)، فإنّ هذه المَبادئ الإلهية العَظيمة والأساسيَّة التي توضِّحُها تُقدَّم دائمًا بطريقة يمكِن للإنسان أن يراها بعينَيْه. لقد عاش البَشر حَرْفيًا وجَسَديًا تَجربة ”العبور“. لقد عاشوا حقيقة تَرْك الوجود القديم من أجْل وجودٍ جديد. لقد اختَبروا جَسَديًا عبور الجِبال والحُدود الإقليمية والأنْهار من أجْل تَحقيق هَدَفٍ ما رُغْمَ أنَّهم قد لا يَعرِفون أنّ الله كان وَراء كل ذلك.
اليَوم أولئك الذين سيَكونون جِزءًا من شَعْب الله ما زالوا مَدعُوّين إلى ”العبور“؛ العبور من النَجِس إلى الطاهِر. أن يعبُروا من الدَنَس إلى القداسة. للعُبور من المَوت الأبدي إلى الحياة الأبدية. أن نَكون إيبورو الرّوحيين، العِبرانيين، الذين اختاروا العُبور. فبَدَلاً من أن نَحتَاج إلى الدخول إلى أرضٍ جَديدة، أو تَغيير الجِنسيَّة، أو قَطْع المسافات، أصبَحت المسألة روحيّة تَتعلَّق بالثِقة بالذي خَلَقَنا وَوَفَّر لنا الفِداء. كما كان على بَني إسرائيل أن يَعْبُروا إلى أرض راحتِهم، كنعان، هكذا علينا أن نَعبُر إلى أرض راحتِنا، يَسوع. لم يكُن بإمكان إسرائيل أن تَبقى في البرِّيَة وتُجلَب لها الأرض؛ كان عليها أن تَعبُر إليها باختيارِه. نحن أيضًا لا يمكننا أن نَبقى في برِّيَة هذا العالَم وتُجلَب إلينا أرض راحتِنا، شالومنا؛ علينا نَحنُ أيضًا أن نعبُر في رِحلة روحية بنَشاط لكي نَمتلِك ميراثَنا ونترُك بريَّة العالَم وراءنا.
في الآية أربعة يَعِدُ الرَب أن يَفعَل بسكّان كنعان الحاليّين على الضِفة الغربية للأردن ما فَعَلَه بالأُمَم التي كانَت على الجانِب الشرقي من نَهر الأردُن (في مِنطقة شرق الأردن حيث استقر رأوبين وجاد ونِصف سِبط منسيه): أن يُبيدَهُم.
وسيَحُلّ يوشَع مَحَلّ موسى كقائد عَسكري أعلى لإسرائيل. يَظهَر مَوضوع الحَرْب المقدَّسة مرَّة أخرى فالآية ستّة ترسُم صوَرة الله كمُحارِب مقدَّس يَقود شعبَه إلى نَصرٍ مَحسوم.
إذا أرَدْنا أن نَفهَم سِياق سِفْر التثنية (والكَثير من التوراة منذُ سِفْر الخروج) علينا أن نُذكِّر أنفُسَنا باستِمرار أنّ الحَرب المقدَّسة هي مِحْوَر كلّ شيء (شئنا أم أبَيْنا). كانت المَرحلة الأولى من حَرْب الله المقدَّسة هي الهُروب من مَصر وإبادة المَلَكَين عوج وباشون، الّلذين كانا من الأموريين. المَرحلة الثانية من الحَرْب المقدَّسة هي غَزو كنعان. لن أقْضي وقتاً طويلاً هنا ولكنني أحُثُّكُم على أن تَحفُروا جيداً في ذاكرتِكُم أنّ اللغة التي سنُواجهُها في سِفْر يوشَع (الذي سنَبدأه بَعدَ شَهر من اليوم) ستَكون لُغة الحَرْب المقدَّسة. وهذا أمْرٌ مُهِمّ لأنّ حَرْب الله المقدَّسة لها قواعِد اشتِباك وبروتوكول صارِم، وانتهاكُها له عواقِب وَخيمة. ولكن كما تطرَّقتُ إلى ذلك باستِفاضة من قَبْل، يجِب ألا نَشُك أبدًا في أنّ دَور الله كقائد مُحارب لجيشِه في الحَرْب المقدَّسة انتهى مع نِهاية العَهد القَديم.
إنّ أعظَم ضَرَر لَحِق بالكنيسة (وهو ضَرَرٌ مُستمِرّ ومَنسوج في عقيدة الكنيسة المؤسَّسية الحديثة) كان عندما أعْلَن القادَة المَسيحيون (عَكْس تَصريح يَشوع المُباشر في مَتّى الفَصْل خمسة) أنّ إله العَهد القديم لم يَعُد مُسيطِرًا وأنّ إله العَهد الجديد الجَديد قد تولّى زِمام الأمور، أنّ الإله الذي لا يَتغيَّر أبدًا، قد تَغيَّر بطريقةٍ دراماتيكيّة؛ وأنّ صِفَة الرَب كمَلِكٍ مُحارب إلهي قد تَمّ تجاهُلُها لصالِح إله مُسالِم لا يؤذي ذُبابة. أُدْرِكُ أنني ربما أعِظ الجَوقة في هذا المَوضوع، ولكنني أُدْرِكُ أيضًا أنّ مَفهوم مَسيحنا كمُحارب قاهِر سيَذبَح الملايين في حرْب مقدَّسة يَتعارَض مع تَصوُّر الكثير من المَسيحيين الذين ربما يَسمَعون هذا لأوّل مرَّة. هذه قَضيَّة جَوهرية بالنسبَة لنا ويجِب أن نتعامَل معَها؛ وبما أن سِفْر التَثنية قد قادَنا إليها مباشرةً دَعونا نأخُذ جولة أخرى اليَوم إلى سِفْر الرؤيا.
افتَحوا أناجيلكُم على سِفْر الرؤيا الإصحاح الرابع عشر.
اقرأوا سِفْر الرؤيا الرابع عشر كله
إليكُم الأمر: غَضَبُ الله يُصَبُّ، وأعوان المَوت هُم حَمَل الله وملائكتُه المُحاربين وَهُم كضُباط جيشِه في الأساس. الحَمَل، يَمْسَح بمِنجَلِه ويَحصُد المُخلَّصين إلى المَجْد وغَير المُخلَّصين إلى اللعنة الأبَدية؛ الدَم المُتدفِّق بِيَد المَسيح كجِماح الخَيل في وادي هرمجدون، كلُّ هذا حاضِرٌ هنا. أين هو الله المُسالِم في العَهد الجديد الذي لا يعرِف إلاّ التَضحية الشخصيَّة والرَحمة والمَحبَّة لجميع البَشَر، الذي يُدير الخَدّ الآخر دائمًا ولا يُعاقِب أحدًا؟ لا تَظنّوا أبدًا أنّ أيًا من صِفات الله قد نُحِّيَت جانِبًا؛ فهو يَحملُها جميعًا في كلِّ الأوقات. بالطَبع هناك أوقات تَبدو فيها إحدى الصِفات أكثر انتِشارًا من غيرِها.
إذا كنتَ مُنتبِهًا على مدى السَنوات القَليلة الماضية بينَما كنّا نَشُقّ طريقَنا عبرَ دُروس التوراة، فقد شاهدتَ مَبدأً خفيًّا يَتطوَّر؛ وُكَلاء الله يَعملون بطُرُقٍ مُتعاكِسة في وقتٍ واحِد. المِلح هو وَكيل الله؛ يمكن استخدامُه لتتبيل العَهد وحَفظِه وإبرامِه، أو يمكن استخدامُه لتَسميم الحياة وإنهاءها عند نَقْض العَهد. الدَم وَكيل الله؛ يمكن أن يَكون سَفْكُه الظالِم مَصدرًا للموت أو يمكِن أن يكون سفْكُه العادِل والقرباني مَصدرًا للحياة. التوراة نفسُها وَكيلة الله الذي تَجلِب اللعنات من جِهة والبَرَكات من جِهَة أخرى. يُمكِن للملائكة أن تُنقِذ ويمكنها أن تُهلِك. لقد سَكَب يسوع دَمَه كَحَمل وَديع، وسيَسفُك قريبًا دِماء ملايين لا حَصْر لها كأشرَسْ مُحاربٍ شَهِدَه العالَم.
وكما كان إخضاع شَرق الأردن هو المَرحَلة الأولى من الحرْب المقدَّسة، وإخْضاع كنعان هو المَرحلة الثانية من الحَرْب المقدَّسة، فإنّ مَعركة هرمجدون التي تَلوح في الأفُق، وكلّ ما سيُصَبّ من غَضَب الله على عالَم نهاية الزَمان هو المَرحلة الثالثة من الحَرْب المقدَّسة. وبالطَبع بطَبيعة الحال فإنّ الله هو الذي يأمُر بها والله (في المَرحلة الثالثة بِصِفتِه المَسيح) هو الذي يَقود مُحاربيه المقدَّسين إلى نَصرٍ مؤَكَّد.
الآيتان سَبعة وثمانية تَرويان انتِقال الشعلة رَسْمياً من موسى إلى يوشَع؛ في احتِفالٍ عَلَني ليرى الجميع أنّ يوشَع هو الآن القائد البشَري الأعلى لإسرائيل. أُحِبّ التَحريض في الآية ثمانية حيثُ يَقول موسى ليوشَع ألّا يَخاف لأن ”الرَب معَك“. كمْ أُحِبّ تَرنيمة ”عمانوئيل“، أي الله مَعَنا؛ وهو الاسم الذي يُطلقُه الكِتاب المقدَّس على المَسيح.
نَحصُل على مَعلومة صَغيرة مُفيدة خاصّة لأننا سنَبدأ قريبًا دراستنا لسِفْر يوشع. يأمُر موسى يوشَع بأنْ يُقسِّم الأرض بين الشَعب. ولكن انتظِروا؛ ألَمْ يفعَل موسى ذلك في سِفْر العدد، عن طَريق القُرْعة؟ في الواقِع لدينا قائمة كامِلة بالأسباط والمَناطق التي سيَشغلونَها في سِفْر العدَد أربعة وثلاثين.
ما حدَث هو التالي: قامَ موسى بالفِعل بتَعيين مناطِق عامَّة تمّ تَحديدها عن طَريق سَحْب القرعة (كان يُنظَر إلى سَحْب القرْعة على أنّه وَسيلة للسَماح لله بتَقرير الأمْر). ولكنَّ الأبعاد الدَقيقة لكلّ مِنطقة كانت ستُحدَّد وِفقًا لعَدد سُكان كل سِبْط؛ فكلّما زاد عدَد سكان السِبط كانت مِساحة ذلك السِبط أكبَر. سيَكون يوشع هو الذي سيَترأَّس هذا الحَدَث.
ابتداءً من الآية تِسعة، يَتِمُّ تناوُل مَسألة التوراة نفسها كوَثيقة مُقدَّسة. هنا يُقال لنا إنّ موسى كَتَبها ثمّ أعْطاها لكَهَنة سِبط لاوي. المُصطلَح المُستخدَم هنا ”هذه التوراة“ يُشير تَحديداً إلى سِفْر التثنية. لقد تمّ تَسليم التوراة السابِقة شَفَهياً. يُخبِرُنا الحُكماء أنّه في حين أنّ إصبَع الله قد كتَبَ بالفِعل الوصايا العَشَر، فإنّ الجُزء الأكبَر من الشرائع والأوامِر كما أُعطيَت لموسى قد حُفِظَت ونُقِلت شَفَهيًا. ولم تُكتَب هذه المَنقولات الشَفهية على اللفائف إلاّ في وقتٍ لاحِق.
هذه الفِكرة تُزعِج بعضَ الناس في عصرِنا الحَديث، ولكن يجِب أن يَفهَم المَرء أنّ مِثل هذا الأمْر كان هو السائد في هذا العَصر، وفي الواقِع كانت له مَزاياه.
كان شُيوخ السِبط مَسؤولين دائمًا عن الحِفاظ على سَلامة التَقاليد الّتي عَلَّموها للجيل التالي، وكان الجيل التالي يَعلَم عندما يَحين دورُه، وهكذا دَواليه؛ لذلك كانَ هناك دائمًا أولئك الشيوخ الذين يَعرِفون حقائق التَقاليد الذين كانوا على قَيْد الحياة. إذا حاوَل الجيل التالي تَغيير شيء ما كان الجيل الأقدَم مَوجودًا لدَحْضِه. وتذكَّروا؛ في عَصرِنا الحديث فقط حيث أصبَح احتِرام معرِفَة وحِكمَة كِبار السِنّ مَفقودًا، يَعمَل هذا النِظام من الضوابط والتوازُنات على التَقاليد الشفويَّة بشكلٍ جيّد للغاية، ففي عصرِنا الحَديث حيثُ الوثائق مَكتوبة، أصبَح الحِفْظ ورواية القِصَص بشكلٍ عامّ وَسيلة مَفقودة لتَوصيل تاريخ المُجتمَع وأخلاقياتِه. تُعتبَر الكُتب والسِجلاّت المَكتوبة الآن أفضَل مَصادرِنا المَرجعيَّة (والوَحيدة الصالِحة)؛ ولكن لا تُخطئوا، يمكن أن تَتلَف. عندما يُريد الإنسان إحداث تَغيير جَذْري في المُجتمعات، فإنّ أوَّل ما يَفعلُه هو إدانة وإتلاف سِجلاّت ومُؤلَّفات الجيل السابِق وبالتالي قَطْع الصِلَة به. وهذا الأمر أسهَل بكثير من نواحٍ عَديدة الآن، لأنّ نِظام التقليد الشَفَهي لمْ يَعُد قابلاً للتَشغيل على الأقلّ في الثَقافة الغَربية.
لقد أعطى موسى الكِتابات للكَهَنَة واللاويين الذين حَمَلوا التابوت، ولِقادة إسرائيل لأنّه كان من واجبِهِم أن ينقُلوا كَلِمة الله بأمانَة إلى الأجيال التالية.
ثمّ نَحصُل على تَعليمات مُثيرة للاهتمام للغاية: كان من المُقرَّر أن يُقرأ سِفْر التثنية (هذه التوراة) بأكملِه على جَميع بَني إسرائيل كلّ سنة سابِعة خلال عيد سكوت (يُسمّى أيضًا عيد الأكشاك أو عيد المَظال). كان من المُقرَّر استِخدام الدورة السَبعية للتأكُّد من أنّ جَميع أجيال إسرائيل تَعرِف كَلِمات التوراة. كانت السَنة السابِعة من تلك الدورة تُعرَف بِسَنَة شميتة (سَنة التَحرير) ففي تلك السنة السابعة كان يجِب إطلاق سَراح العَبيد العبرانيين، وكان يجِب إعادة الأراضي المَأخوذة كَضَمان للقروض يَضمَن حَقّ المالِك الأصلي، وكان يجِب الإعفاء عن الديون من جميع الأنواع.
تتَضمَّن التَعليمات أن تَجتمِع جماعة إسرائيل كلَّها في الموقِع الذي سيَختارُه الله (أي حيثُما قرَّر الله وَضْعَ الحَرَم المركزي، الهَيكل) بمناسبة عيد العَرْش. علاوةً على ذلك، في حين أنّ ”الجَماعة كلَّها“ تَعني عادةً المُمثِّلين الذكور من كلّ بَيت، في هذه الحالة توضِح الآية الثانية عشرة أنّ النِساء والأطفال وحتّى الأجانِب كانوا سيَحضُرون إلى الهيكل في السَنة السابعة في عيد سكوت.
تذكَّروا أنّ عيد سوكوت (عيد المَظال) هو أحَد أعياد الحج الثلاثة التي فَرَضها الله والتي تتطلَّب حضور كلّ جَماعة إسرائيل إلى الهَيكل. لكن ”الجَماعة كلَّها“ كانت تَعني عادةً الذكور البالِغين فقَط. أمّا في السَنة السابعة، فقد توسَّع ذلك ليَعني أنّ كلّ بَني إسرائيل بِغَضّ النَظر عن العُمر أو الجِنس قد أُمِروا بالحُضور إلى الهيكل في عيد سكوت. والسَبب كان لكيّ يَتمكَّن الجميع من سَماع قراءة التوراة (التي كانَت في المَقام الأول سِفْر التثنية). للأسَف كما لم نَقرأ أبدًا عن طاعَة العبرانيين لشريعة اليوبيل (دَورة الخَمسين سَنة)، كذلك لم نَقرأ عن مناسبتَين فقط حَدَث فيهِما هذا القانون الخاص بقِراءة التوراة في عيد المَظال في السَنَة السبتيّة. إحداهُما عندما أمَرَ المَلِك يوشيا بذلك (اثنان ملوك ثلاثة وعشرون)، والأخرى عندما أمَرَ عزرا بذلك عند عَودة اليهود من السَبي البابِلي (نحيمِيا سبعة وثمانية وتسعة).
إنّ شَرْح موسى للشرائع التي أُعْطيت في سيناء، وتأكيدَه على روح الشريعة كعُنصُر أساسي ضَروري لتَنفيذ الشرائع المَكتوبة بشكلٍ سَليم، يَجعَل سِفْر التثنية وثيقة مُهِمَّة كما هي. في هذا السِياق نفسِه يَجِب أن ننظُر إلى عِظة يسوع على الجَبَل. على سَفْح التَلّ فوق بَحْر الجَليل يَعِظ المَسيح؛ يُحاوِل إحياء روح الشَريعة التي تَحدَّث عنها موسى لأنّ القادَة الدينيّين قد حَوَّلوا الناموس مُنذ ذلك الحين إلى نِظام ميكانيكي من القواعِد واللوائح وأصبَح عِبئًا ثقيلًا. إنّ تَعاليم يسوع هي جوهَر كَلِمة الله كلِّها، تمامًا كما أنّ تعاليم موسى في سِفْر التثنية هي جوهَر التوراة بأكملِها.
يأتي التَعليم المُفضَّل والمناسِب للكنيسة الحديثة من غَلاطية ثلاثة عندما يَقول بولُس أنه لم يَعُد هناك ذَكَر وأنثى وأنّ جميع تلاميذ يَسوع هُم شَخص واحِد جَديد. يَتعامَل بولُس مع المبدأ الذي يتمّ ترسيخُهُ هنا في سِفْر التثنية واحد وثلاثين: يجب أن يُعطى جَميع شَعْب الله، بما في ذلك النساء والأطفال، إمكانيةَ الوصول إلى كَلِمتَهُ على قَدَم المُساواة. علاوةً على ذلك، فإنّ الرِجال والنِساء (العلمانيين) قادِرون تمامًا على فَهْم التوراة والقيام بأدوارهِم المُناسِبة التي حدَّدتْها التوراة.
بحُلول أيام يسوع، كانت السُلُطات الدينية قد ألغَتْ هذا المَبدأ فأقامَت حواجِز في الهَيكل بين الرِجال والنِساء (سَمِعنا جميعًا عن مَحكمة النساء في باحَة الهيكل). اليوم توجَد عادةً أقسام مُنفصِلة للرجِال والنساء في الكِنيس. إذا ذَهبتَ إلى إسرائيل تُلاحِظ حتّى تواجُد جانِب للرِجال وآخر للنساء وحاجِز بينَهُما عند حائط المَبكى، الكوتيل. يتم إعطاء الفَتيات الصَغيرات مواد مُختلِفة لتَعلُّم التَوراة عن الفِتيان الصِغار. كان مَفهوم النِساء على أنَّهن ”أدنى“ والذُكور ”أهَمّ“ راسِخًا بقوَّة في اليَهودية وكان هذا أمْرٌ على يسوع وبولس وغيرهِما التعامُل معه بدقَّة. لم تكُن فِكرة أنّ المرأة أقل شأناً في الكِتاب المقدَّس ولكنَّها بالتَأكيد كانت تُناسِب المُجتمَع شرق الأوسطي الذي كان يُهَيْمِن عليه الذكور والذي ابتَعَد عن الرَب. من المؤكَّد أيضًا أنّ الكتاب المقدَّس يُحدِّد بعِناية أدوارًا مُختلفة لكلّ جِنس، لكن ينظُر الكتاب المقدَّس إلى الأدوار على أنها مُتساوية في الأهميّة والجِنسَين متساوِيَيْن في القيمَة. بما أنّ بولُس وَجَد نفسَه مَبعوثًا إلى الوثنيين في الإمبراطورية الرومانية، ولكنَّه في بعضِ الأحيان كان يتعامَل أيضًا مع اليَهود المسيانيين، كان عليه أن يَتعامَل مع العَادات اليَهودية في هذا الصَدَد، ومع العادات المُختلفة للأمم الأخرى أيضًا. لم تُمانِع بعض الثقافات في توَلّي النِساء أدوارًا كمُعلِّمات أو كاهِنات، بينما كانت ثَقافات أخرى تُعارِض ذلك بشدَّة؛ البعض أرادَ أن تلعَبَ النساءْ دَورًا مَرْكزيًا في طقوسِهم الدينِيَّة، والبَعْض الآخر أرادَ أن يَمْتَثِلنَ ببساطة لما يقرِّره أزواجُهُنَّ. بشكلٍ عام، ما لم تكُن العادات مُتعصِّبة بشكل غريب، نَصَح بولس تلاميذ يسوع بألّا يَجعلوا من ذلك مُشكلة (حيثما أمكَن) وأن يَعمَلوا ببساطة في إطارِها حتى لا يُسيئوا إلى أولئك الذين كان من المُقرَّر أن تُقدَّم لهم البِشارة.
ولكن تأتي الآن تِلك اللحظة (في الآية أربعة عشرة) حيثُ يُخبِر يَهوَهْ موسى أنّ العدّاد قد انتهى بالفِعل؛ فموسى سيَموت قريبًا جدًا. لذلك يجِب على موسى أن يَجلِب يوشَع ويأتي إلى خيمة الاجتِماع (خيمة البريّة) حيث سيَكون الرَب حاضِرًا. ظَهَر الرَب على هيئة سَحابة أمام خَيمة الاجتِماع، فوق المَدخَل، وهناك أعطى موسى ويوشَع أوامِرهُما بالمسير.
لاحِظ أنه بينَما كان موسى يدخُل إلى داخل الخَيمة ويُقابِل الرَب، لم يتمكَّن يوشَع من الدخول، ولذلك تمّ هذا اللقاء خارِج الخيمة. السبَب في ذلك هو حَقّ موسى بِصِفَتِه لاويًا وَوَسيطًا لله، فكان يَحُقّ له أن يدخُل إلى داخِل الخَيمة، لكن يوشَع كان من سِبط أفرايم، ولذلك لم يكُن مسموحًا له بدخولِها.
وقد سُجِّل أنّ يوشَع استَخدَم المُفردات النَموذجية لتلك الحَقَبة، حيثُ قال لموسى أنه سيَكون قريبًا مع أسلافِه (سيَموت). وهذا يَعكِس مفاهيم عِبادة الأجداد الّتي وإنْ كانت جزءًا من لُغتهِم وإلى حدٍ ما من تَفكيرهم، إلا أنّ يَهوَهْ لم يُصادِق عليها. عادةً لا نَعرِف حتّى من أينَ جاء تَعبيرٌ ما. ماذا يَعني ”هكذا يَتَفَتَّت الكعك“؟ كيف يُساعدنا تَفَتُّت الكَعكة على فَهْم الموقِف؟ ماذا عن ”إخراج القِطّة من الحَقيبة“؟ هل لدى أي شَخص فِكرة عن أصْلِ هذا المصطلح الأمريكي الذي يَعني إفشاءَ السِرّ؟ نحن نَقولها، وهي بالتأكيد لا عَلاقة لها بالقِطط أو الحَقائب ولكنّنا نفهَم ما نَعنيه لذا نَسْتَخْدِمُها. الأمر مُشابِه مع بعض هذه الأقوال الوارِدة في الكتاب المقدَّس؛ علينا أن نتأكَّد أكثَر ممّا كانت تَعنيه تلك العبارة للناس في ذلك العَصر وأقَلّ مما تَعنيه الكَلِمات تِقَنيًّا وحَرْفيًا.
ثمّ يَنقُل لنا يَهوَه بعض الأخبار السيئة: يُخبِر موسى ويوشَع أنّ بَني إسرائيل سيَفعلون كل هذه الأشياء التي حَذَّر الله مِنها بعد أن يَموت كلاهُما، أي سيَنقُضون شروط العَهد. ونتيجةً لذلك سيَشتعِل غَضَب الرَب على إسرائيل وسَوف ”يُشيحُ الرَب وَجهَه“ عَنهُم. بالعِبرية سيُشيح هي بانيم، وتُستخدَم بهذه الطريقة لتَعني حضورَه. سيَبتعِد الله عن العِبرانيين. أن تَكون في بانيم شَخص ما، وجهِه، حُضورِه يَعني أكثر من مجرد وجودِه، تمامًا كما أنّ كَلِمة "شماع" تَعني أكثر من مُجرَّد سَماع شيء ما. إنها تَعني فَضْل ذلك الشخص ومُباركَتَه. لذلك يَقول الله أنّه بسبب هذه الردَّة القادِمة من إسرائيل بعد موت يوشَع، سوف يَسحَب نفسَه (وبالتالي حمايتَه وبركتَه) من فَوق شعبِ إسرائيل.
سيَتظاهَر الشعب بالجَهْل. سيَطرَح السؤال الذي وَرَد في الآية سبعة عشرة: ”ألَمْ تُصِبنا هذه المَصائب لأنّ إلهنا ليس مَعَنا“؟ وبعبارةٍ أخرى، سيُدركون أنّ الرَب لسَبب أو لآخر قد أزال نَفسَه من وَسطِهِم، ولذلك تَحْدُث لهُم كل هذه الأمور الفَظيعة. ولكن، يا إلهي، نحن حقًا لا نَفهَم السَبب. يؤكِّد الرَب ذلك بالقَول؛ لقد أزال نفسَه عنهُم بسبب شرِّهِم في التَحوُّل إلى آلهة أخرى.
لكن الرَب لا يريد أن يُهلِك بل أن يؤدِّب شعبَه. إنه يريدُه أن يتعلَّم ويفْهَم ما الذي فَعَلَه، وما هو عِلاجُ وَضْعِهِ. لذلك يأمُر موسى أن يَكتُب نشيدًا ويُعلِّمه لإسرائيل على الفَور، أن يُعلِّمه إياه، حتّى يَتمكَّن من حَفظِه، وأن يَحفظَه قَبل أن يَحدُث التَمرُّد الذي سيَرتكِبُه بالفِعل. هذا النَشيد، نَشيد موسى، سيَكون مَوضوع درسِنا القادِم.