سِفْر التثنية
الدَرس ثلاثة وأربعون – تكمِلة الإصحاح واحدٍ وثلاثين
بينما نقترِب من نِهاية سِفْر التثنية، نشهَد انتِقال قيادة إسرائيل من موسى إلى يوشَع. نرى في الإصحاح واحدٍ وثلاثين مراسِم التَكريس الفِعلية ليوشَع ودعوة الرَب له ولموسى إلى خَيمة الاجتِماع حيثُ رُسِم يوشَع قائدًا أعلى جديدًا لإسرائيل على الأرْض.
أمضَينا أيضًا بعض الوَقْت الأسبوع الماضي في النَظَر في الأسفار النَبَويَّة في سِفْر حزقيال ثم سِفْر الرؤيا حتّى نتمكَّن من فَهْم ما يجِب أن يَكون عليه موقِفُنا ومَقصَد الله من النُبوَّة. لقد تَطرَّقتُ إلى هذا المَوضوع لأنّ هناك جِزْء كبير من النُبوَّة في الأسفار الأربعة الأخيرة من سِفْر التثنية على الرُغم من أننا ربّما لم نتوقَّع أن نَتعَثَّر بها هنا.
أردتُ أن أتَطرَّق اليوم إلى سِفْر التثنية الإصحاح اثنين وثلاثين ونَشيد موسى، ولكن للأسَف، كان هناك الكثير ممّا يمكِن الحديثُ عنه لذا يجب أن نؤجِّلَه إلى الأسبوع القادِم.
نَظَرًا لعقولِنا الفضوليَّة بطبيعتِها (وجزء من هذا الفُضول ناتِج عن ميولِنا الشريرة المُتأصِّلة فينا) فإننا لا نَكتفي بمَعرِفة ما كَشَفه الله لنا بوضوح فقط، بل نُطالِب أيضًا بمعرِفة ما يعرفُه الله ويَحتفِظ به لِنَفْسه فقط. وبما أنّ هذه الأشياء الخَفيَّة بحُكم تَعريفها لا يمكننا معرفتها (على الأقَلّ إلى أن يرى الله أنه من المُناسِب أن يرفَع الحِجاب عنها)، فيُمْكنكَ أن تتأكَّد أن تكهُّناتنا عن الأشياء التي لم تُكتَب لنا بعدُ في المستقبَل، والتي لم تُكتَب لنا تفاصيلُها، ليست صَحيحة إلاّ بشكلٍ عام. كما تقول الحكاية، حتّى السَّاعة المُتوقِّفة تُصيب مَرّتَين في اليَوم الواحد.
لقد كنّا نحن عَبَدة المَسيح مُذنبون بشكلٍ رَهيب في وَضْع الأساس الذي يمكِن أن يَجعَل الكثير من المؤمنين وغير المؤمنين يُفوِّتون تَحقيق نبوءات الله بِمَيلنا إلى تخَمين كيف ستَحدُث هذه الأشياء المُستقبلية ثمّ الافتِتان بأفكارِنا الخاصّة حول هذا الموضوع بحيثُ تُصبِح حقيقة لا جِدال فيها (حتّى العقيدة)، مَنقوشة على الحَجَر. لقد كان الكثيرون من أعضاء الكَنيسة يَعلَمون منذ قرون) أنّ المؤمنين الأمميّين قد حَلّوا مَحَلّ الشعب اليهودي كمُختاري الله، وبالتالي فإنّ كلّ ما كان سيحدُث من خلالِهم سيحدُث الآن من خلالِنا (المَعروف باسم اللاهوت الإحلالي)، واثنان) أنّ إسرائيل لم تَكُن ستَعود إلى الأرض من مَنفاها الروماني.
لذلك عندما عاد اليهود بالفِعل وشَكَّلوا أمَّة يهودية جديدة منذ حوالى ستين عامًا، لم يُلاحِظ جِزءٌ كبير من الكَنيسة ذلك تَقريبًا (ولا يَزال الأمر كذلك حتّى يومِنا هذا). لم يُنظَر إلى الموضوع على أنّه أكثر من مُجَرَّد رَدّ فِعل طبيعي على الحرْب العالميَّة الثانية، وَوَضعتْه الأمم المتحدة في نِصابِه. والأسوأ من ذلك أنّ أجزاءً كَبيرة من الكَنيسة تُنكِرُ أنّ عودة الأُمة اليهودية هي في الواقعِ تَحقيقٌ للنبوءة؛ بل إنّ اليهود هُم مجردُ حُرَّاسٍ وَسيطين للأراضي المقدَّسة إلى أن تتَسلَّمَها الكَنيسة. وهذا الإنكار للنبوءة المُتمِّمة يَظهَر بغِياب الاعتِراف بعَودة اليهود، فإنّ جزءًا كبيرًا من عقائدنا المَسيحية العَزيزة وأركان إيمانِنا يجِب أن تَسقُط أو تُعَدَّل. ولذلك، وكما تَعلمون جميعًا جيدًا، فإنّ مَوضوع إسرائيل ليس مهمًا لدى بعض الطوائف المَسيحية الكُبرى.
لذا كُن حَذِرًا؛ يُمكننا (ويَنبغي علينا) أن نتطلّع إلى ما يَحْدُث وما هو على وشَك الحُدوث في هذه الأيّام الأخيرة. ولكن لا تُصبحِ مغرمًا جدًا بوِجهة نَظَر طائفية مُعيَّنة، أو رؤيةِ مؤلِّفٍ مُعيَّن، حول تفاصيل تَوقيت المِحْنة أو تسلسُلِها؛ أو في أي لحظة بالضَبط يجب أن يحدُث الاختِطاف أو تَفاصيل الأحداث التي ستؤدّي إلى عَودة المسيح، أو حتّى كيف ستَحدُث لحَظة مجيئه الفِعلية. وإلا قد يَفوتُكَ ذلك؛ أو الأسوأ من ذلك، قد تُنكِر ذلك عندما يحدُث، مما سيَضعُك في مواجهَة الآب.
إنّ العَمى عن (أو إنكار) النبوَّة المُتَحقِّقة هو مِحور ما سيَشغَل موسى في نهاية الإصحاح واحدٍ وثلاثين ثمّ الإصحاح اثنين وثلاثين الطويل نوعًا ما الذي يُسمّى ”نَشيد موسى“.
سيَقودنا كلام موسى أيضًا إلى مَوضوع آخر صَعب وحَسّاس. هذا المَوضوع هو: كيف تَقرَّرت الشَريعتان اللّتان تُشكِّلان كِتابنا المقدَّس (أسفار العَهدَين القديم والجديد) وأصبَحتا رَسميَّتَين وخرجَتا إلى حَيِّز الوُجود؟ من الذي اتَّخذ هذه القرارات؟ وهل يجِب أن يكون لأحدٍ القانونَين وَزْن أكبر من الآخر؟
لنَبدأ دراستنا بإعادة قراءة الآيات القليلة الأخيرة من سِفْر التثنية واحدٍ وثلاثين.
اقرأ سِفْر التثنية الإصحاح واحدٍ وثلاثين من الآية تسعة عشرة إلى – النهاية
هذه هي مُقدِّمةُ نَشيد موسى المَوجودة في الإصحاح واحدٍ وثلاثين. لم يُدَرَّس أي قِسم آخر من سِفْر التثنية ويُكتَب عنه ويُقدَّس أكثَر من نشيد موسى. يَكاد يَكون شريعة داخل شَريعة؛ فهو يكشِف عن الكثير في كَلِمات قليلة نِسبيًّا بحيثُ يمكننا أن نُحلِّلها لوقتٍ طويل.
يأمُر الله موسى أن يَكتُب نشيدًا ويُعلِّمه للشَعب قبل أن يَموت. من الواضِح أنّه على الرُغم من أنّ موسى هو المؤلِّف الرئيسي، إلا أنّ يوشَع كان أمّا شاهِد عَيان على تأليف هذه التَرنيمة أو ربما كان كاتِب موسى. من المُهِمّ أنّ هذه التَرنيمة كانت ستُكتَب ثم تُعلَّم شَفهيًّا لشَعب إسرائيل. تلك الأشياء المَكتوبة تَحمِل وزْنًا أكبَر من تلك الأشياء التي لم تُكتَب. هذا لا يَعني بأي شكلٍ من الأشكال أنّ تَعاليم الله التي نُقِلت شَفهيًّا لم يكُن موحى بها أو كانت أقَلّ صَلاحية. إنه مُماثِل للطَريقة الحاخامية المُسمّاة ” كالأمر“، أي الخَفيف والثَقيل، حيث نواجِه غالبًا ضَرورة تَحديد أيٍ من مَبادئ الله الثابِتة العَديدة لها الأسبَقيّة في موقِف مُعيَّن؛ إحدى المعايير هي أنّ الأشياء المَكتوبة من الله عادةً ما يكون لها وَزْن أكبَر من غير المكتوبة.
تَقول الآية التاسعة عشرة أنّ على الشَعب أن يَحفَظ هذه التَرنيمة. التَرنيمة هي في الأساس قَصيدة شِعرية على أنغام الموسيقى. لطالَما كان الجَمْع بين الكَلِمات والنوتات الموسيقية يُفسِح المَجال لِحِفظِها على المدى الطَويل. فَقَبل أن تَكون القُدرة على الكتابة، كانت القَوافي والأغاني عالَمية إلى حدٍّ ما وكانت تُستخدَم لنَقْل المَعرِفة والتاريخ من جيل إلى جيل؛ وقد نَجَح الأمر بشكلٍ جَيّد جدًا. كَم مرَّة سَمِعْتَ شخصًا بالغًا يُغنّي أغنية أَلِف باء وهو يُحاوِل أن يتذكَّر أي حَرْف يأتي قَبل الآخر في الأبجَدية (وقد فَعَلْتُ ذلك بنَفسي). أو كيفَ أنّ زوجَتي ستُغنّي أُغْنية طُفولية لأحَد أحفادِنا؛ أُغْنية ربّما لم تُغنِّها هي نفسُها منذ عُقود، ومع ذلك يُمكنُها أن تَتذكَّر كل كَلِمة مِنها. وبالمِثل كيف يُمكن لأصغَر الأطفال أن يَتعلّموا ويُرَدِّدوا أغنية بَسيطة ويتذكَّروها ربما لبقيَّة حياتِهم.
يَعود سَبب تَرنيمة موسى هذه إلى كَلِماتي الافتتاحيَّة اليَوم: لقد تمّ إنشاؤها كَي تعرِفَ إسرائيل عندما تَحدُث الأشياء النبويَّة التي يُخبِر الله بها إسرائيل، أنّها كانَت من الله وليسَت مُجرَّد حَدَث طبيعي أو من صُنْع الإنسان أو عَشوائية. وبهذه الطَريقة يمكن للشَعب أن يتعلَّم ويَكون لديه رَجاء وليس فقط أن يَضَع رأسه في يَدِه ويَحزَن ويتساءل عن سَبب حدوث المُصيبة وما سيَحدُث له. بهذه الطريقة نفسها يمكِن استِخدام غَضَب الله للتأديب الإيجابي بدلاً من التَدمير السَلبي. لكن حتّى النَتيجةَ النهائية لغَضَب الله مَتروكة لكلّ فَرْد، لأنّ كل بَني إسرائيل يُمكنُهم أن يَختاروا أن يتذكَّروا نشيد موسى هذا ويُطبِّقوه فيَستفيدوا منه، أو يمكنُهم أن يَختاروا أن يَنْسَوا هذا النَشيد ويُنكِروا ما أخبرهُم به الله ويُعانوا الخَسارة.
هل كان هناك وَقْت في حياتِك عِشْت فيه حقًا للرَب؟ عندما كان الفرَح يَفيض والثِمار الصالِحة تَنمو؟ هل كان هناك وقْتٌ كان أوَّل ما تُفكِّر فيه كل صَباح، وآخر ما تُفكِّر فيه قبل أن تَغلِبك أحلامَك، هو مَحبَّة الله ورحمتِه ومبادئه وحِكمتِه؟ ولكن منذ بَعض الوَقت أصبَحَ الفَرَح في حياتِك خافِتًا وبَدَت الأيام طويلة وبلا فائدة؟ عندما أصبَحَت حتّى الصلاة عبئًا، وأصبَحت الحياة جافَّة ومُربِكة، والساعات تَمُرّ بسرعة كبيرة ومع ذلك كل شيء فارِغًا؟
إذًا فتَرنيمة موسى هي لكَ لأنّ ابتعادَك عن شرائع الله وأوامِره سيُبعدُك عن الله. وعندما تنأى بنفسِك عن الله فإنّك تنأى بنفسِك عن بركاتِه في الحياة والسَلام. إذا كان ما اقترحتُه للتَوّ ينطبِق عليكَ، فأنتَ أمام نفْسِ الخَيار بالضَبْط (على الأرجَح لنفْس الأسباب بالضَبْط) الذي أعطاه يَهوَهْ للعِبرانيين من خلال موسى لأنّ نَفْس النَمط لا يَزال ينطبِق عليكَ: يُمكنكَ أن تَعترِف بأنّ وضعَك وحالتَك كانا بسبب خطيَّتِك وابتعادِك عن الرَب، وتَعترِف له بذلك من خلال العَودة إلى طُرُق النور والحَقّ، ثمّ قُبول تأديبه؛ أو يمكنُك أن تُنكِر ذلك، مُعتقِدًا أنّ الأمْر ببساطة له علاقة بالتَأثيرات الخارِجية أو سوء الحَظّ، أو الثِقل الطَبيعي للحَياة، أو أنّ الناس يَضْطَهِدونك. اختِيار أحدِ الطريقَين يَجلِب التَجديد والاستِعادة؛ واختِيار الطريق الآخر يجلِب اليأس المُستَمِرّ والعَمى الروحي. بعدَ وقتٍ طويل من الآن، عندما نَصِل إلى قِصَّتَي داود وشاول، يكون هذا المَبدأ في قلْب ما يَحدُث لكلٍّ مِنهما.
لم يَجعَل الله موسى يَكتُب هذه التَرنيمة ويُعلِّمها للشعب حتّى يقول له عندما تَحُلّ بهم مُصيبة: ”أرأيتُم، لقد قُلتُ لكُم ذلك“. إنّه من أجْل مَصلحتِهم ومن أجْل مَصلحتِنا.
اسمَعوني من فَضلِكُم: لقد أخْبَر الرَب إسرائيل أنّه لا يُريد أن تُنسَب عواقِب تَمرُّدِهم عليه إلى الآلهة الكاذِبة والصِدفة. إنّه يُريد أن تَعرِف إسرائيل أنه هو المُتسبِّب في الأهوال التي تواجِهُها؛ فالكارِثة من أصْل إلهي. إنه يُخبِر بَني إسرائيل مُسبقًا بما سيحدُث كما يُخبرُنا العهد الجديد مُسبَقًا بما سيحدُث إذا ابتعَدنا عن المَسيح. كما يَقول بولس في رومية الإصحاح الحادي عشر: "أنتم أيضًا ستَنقطِعون". القَدَر إله زائف، كما كانت الآلهة الزائفة في العالَم القَديم. إنّ الاعتِقاد بأنّ نَصيبَنا في الحَياة سببُه القَدَر هو القَول بأنّ الله القَدير ليس مُسيطِرًا، وأنّ شيئًا آخر سيحدِّد حاضرَنا ومصيرَنا. هذا هو بالضبط ما يُحذِّر منه إسرائيل، ويُسمّي الرَب عدَم الثِقة هذا ”ارتِدادًا“.
تُوضِح الآية عشرون أنّ الشروط المَنصوص عليها في نَشيد موسى ستُطَبَّق بَعدَ أن تدخُل إسرائيل أرْض الراحة (كَنعان). في تلك الأرض الرائعة ستُصبِح إسرائيل مُزدهِرة. ستَزْدهِر إسرائيل وستَكون الحياة سَهلة نِسبيًّا (هذا هو مَعنى التَعبير العبري ”تَفيض لَبَنًا وعَسَلاً“). ومع ذلك، في خِضَمّ سنوات الذُروَة تلك من الازدِهار والبَرَكة ستَنسُب إسرائيل الفَضْل للآلهة الكاذِبة. ستَشكُر آلهة السَماء الكاذبة على أشعة الشمس والمَطَر. ستَشكُر عَشْتيروت، إلهة الخَصْب الكنعانية، على حَصادِها الوَفير وعلى كَثْرة أولادِها. وبقيامِها بهذه الأمور فإنَّها تَنقُض عَهد موسى، وبالتالي العَهد مع يَهوَه.
إنّها حقيقة من حَقائق الحَياة (على الأقَلّ في الغَرْب) أنه مع الازدِهار يأتي الرَخاء والرِضا. وبما أنّ كلّ احتياجاتِنا قد لُبِّيَت فلا حاجَة لنا إلى مُساعدة خارجية. كلَّما حَصلنا على المَزيد كلَّما قَلَّلْنا من دَور الله في حياتِنا. في النِهاية، إذا كان ذكاؤنا هو الذي يَجلِب لنا الشَهادات الجَامعية والوظائف الجيِّدة، وعَمَلُنا الجَادّ وذكاؤنا هو الذي يَبني ثروتَنا، وحِكْمَتُنا في إجراء الفُحوصات الدَورية وحُسْن حَظِّنا في العَيش في بَلَد يَعُجّ بالمُستشفيات والأطباء والأدويَة التي تُبقينا أصِحّاء وإذا كنا نَختار بحِكمة ونَختار زوجًا صالِحًا لننعَم به، فأي غَرَض لله في حياتِنا؟ إذا كنّا قَد أنجزْنا كلَّ هذه الأشياء بمفردِنا، فمَن علينا أن نَشكُر غَير مُعلِّمينا ورؤسائنا وموظَّفي القُروض وأنفسنا؟ يُصبِح مكان الله هو تلك المَشكاة الصَغيرة المُتبقِّيَة التي يُسمّيها العَصر الحديث ”الروحانية“؛ مَشكاة واحدة من بين العديد من المشكوات. إنّها مكانة ليسَت أكثَر ولا أقَلّ أهميَّة (ولكنَّها عادة ما تَكون أقَلّ) من غيرِها. إنّها مَكانة يُمكِن إشباعُها في داخلِنا من خلال ساعَة أو نحو ذلك من وقتِنا في يَوم السَبت أو الأحد ونحن نذهَب إلى الكِنيس أو الكَنيسة.
إنّ الازدِهار المَأخوذ خارِج السِياق هو أمْرٌ خَطير. في الولايات المتَّحدة، حتّى الكَنيسة شَرِبت من هذا الكأس كما يَقولون. الكَثير من الكنائس الحديثة تُقيس نَجاحَها من خلال ازدهارِها المادي. يَقول عددٌ كبير جدًا من قادَة الكَنيسة الحديثة (كتَلاميذ يسوع) أنّه يُمْكِنُنا قِياس نجاحِنا الروحي من خِلال ازدهارِنا الدُنيَوي. من المُثير للاهتمام أنّ العَكْس هو الصحيح في أوروبا. في أوروبا، القَليل المُتبقّي من الكَنيسة ينظر إلى ازدهار أعضائها بعين الريبة. لذلك فإنّ الكنائس فَقيرة ومَبانيها في حالة سيّئة.
يَقول يَهوَهْ أنَّه مع الوَقت ستُخرِج إسرائيل ازدهارَها من سياقِه ويُصبِح بَنو إسرائيل راضين جدًا عن أنفسِهم ويَمنَحون الفَضْل لآلهة أخرى بدلاً من أن يَفهموا ما هو الازدِهار الحَقيقي ويَشكُرون المَصدر الوَحيد المَوجود لهذا النوع من الازدِهار: إله إسرائيل. وبما أنّ هذا التَفكير المُنحرِف يَسود شعبَه فإنّ هذا النوع من التَفكير سيُصبِح وسيلة نهايتِه. وسيَكون نشيد موسى هو الذي سيَشهَد للسَماء والأرض ولكُلّ الأجيال القادمة أنّ الرَب قد أنذَرَه، وأنّ ما سيحُلّ به لن يكون لأنّه أصبح غَير أمين مَعَه بل لأنه تَخلّى عن الله. في الواقِع يَقول أدوناي في الآية واحدٍ وعشرين، حتّى الآن….. حتّى وَهُم يُعسكِرون في موآب يَستعدّون لدخول أرض الميعاد…… فإنّ بُذور هذا النَوع من التَفكير الذي سيؤدّي حَتماً إلى تَمرُّدِهم الكارثي قد بُذِرت بالفِعل في عقولِهم وأخَذَت تتجَذَّر. هذا ليس بسبَب ما تَعلَّموه، بل هو نَتيجة طَبيعة الخطيئة التي تُنكِر حقيقتها وطبيعتَها الأبدية.
تُوضِح الآية أربعة وعشرون أنّ موسى كَتَب هذا النشيد وضَمَّه إلى ما نُسمّيه سِفْر التثنية. كان على موسى بعدَ ذلك أن يأخُذ هذا السِفْر ويُعطِيه للاويين، القَبيلة الكَهنوتية. كان على اللاويين (الذين كانوا مَسؤولين عن حَمْل التابوت) أن يَأخذوا اللفافة ويَضَعوها بجانِب تابوت العَهد. وفي هذا الوَقْت كان التابوت يَحتوي على اللوحَين الحَجَرِيَيْن للوَصايا العَشر، وعَصا هارون الغليظة، وجَرَّة المَنّ. إنّ الاحتِفاظ بلُفافة سِفْر التثنية بجانِب التابوت هو طريقة رَمزيّة لإظهار أنّ التابوت كان مَبنيًّا على مبادئ ما كان داخِل التابوت. ولكِن بطريقة أخرى كانت لَفيفة سِفْر التثنية تابِعة أيضًا لتلك الألواح المَكتوبة بإصبَع الله.
لقد أوضحتُ لكُم في دروس سابِقة أنّ المَبدأ الإلهي المُتمثِّل في مَحَبَّة الرَب بكلّ عَقلِنا ونفسِنا وقوّتِنا (كلّ جزء من كَيانِنا)، ومَحبَّة القريب كما نُحِبّ أنفُسَنا يُشكِّل أساس الكَلِمات العشر الّتي نُسمّيها الوصايا العشر. الكَلِمات العَشر هي الأساس لكُلّ الوصايا والقواعِد والقوانين الأخرى التي سيَضعُها الرَب والتي سيَشرحُها موسى ويُعلِّمُها (في سِفْر التثنية).
عندما أكمَل موسى هذا العَمَل، وعندما أصبَح النَشيد جاهِزًا، قام بتعليمِه لشَعب إسرائيل مُوضِحًا أنه يتَّفِق مع الله على أنه لا مَفَرّ من أن تَبدأ إسرائيل بعد موتِه في عمليَّة الابتِعاد عن الله. لِمَ موسى مُتأكِّد من هذا الأمر؟ لأنّه إذا كان هذا قد حَدَث وهو على قَيد الحياة وما زال في دورِه القيادي، فكَمْ بالأحرى سيحدُث عندما يُحاوِل شخصٌ أقَلّ تَبجيلاً منه (يوشَع) أن يُرشِد هذا الشَعب العَنيد!
أريدُ أن أتوقَّف هنا وأقومَ بواحدَة من انعِطافاتي المَشهورة. والسبَب له علاقة بتَعليمات الله في الآية ستّة وعشرين حيثُ يجِب على اللاويين أن يَضَعوا التوراة بجانِب التابوت الذي يَحتوي على الوَصايا العَشر.
كما قُلت في البِداية اليَوم، سيَكون أحَد مواضيعنا اليَوم هو شَريعة الكتاب المقدَّس؛ أو بالأحرى الشريعَتان الّلتان تُشكِّلان معاً عهدَينا القَديم والجديد كما نُسمّيهِما (يا إلهي، أنا أكرَه حقاً هذه المُصطلحات). ما يَطلبُه منّا هذا المَقطَع من سِفْر التثنية هو أن نُحاوِل أن نفهَم كيفَ (أو إذا كان) علينا أن نَضَع مُختلف أسفار وكِتابات الكتاب المقدَّس في أي نَوع من التسلسُل الهَرَمي. إنّ رَمزيّة وَضْع سِفْر التثنية خارِج التابوت، ولكن بجانبِه، تَدُلُّ على وجود علاقة مَتينة بين الوصايا العشر وسِفْر التثنية وأيضًا تراتُبَّية واضِحة في الاستِحقاق. ولا تَظُنّْ أبدًا أن الكَنيسة لا تنظُر إلى الكتاب المقدَّس بالطَريقة نفسِها (أي أنّ بَعض الكتُب مميَّزة أكثر من غيرِها) في عصرِنا. إنّ تراتُبيَّة التوراة مَوجودة لأنّ المَسيحيّة ليس لديها مُشكلة مع مَفهوم أولويَّة الكتاب المقدَّس، فالأولويّة اليَوم هي أنّ العَهد الجديد هو كل ما يَجِب أن يهتَمَّ به المَسيحي. تَحتَلُّ الأناجيل أعلى مَرتبة في العَهد الجديد، تَليها عادةً رسائل بولُس، ثمّ رسائل بطرس ويوحَنّا، ثمّ ربما سِفْر الرؤيا.
إنّ مُصطلَح الشريعة يَعني ببساطَة أنّ المَواد التي تَحتويها مَجموعة من الكتُب قد تمّ الاتِّفاق على أنها مُرَخَّصة من قِبل هيئة أو مَجمَع ديني ما. فكيفَ ومتى أصبَحت مُحتويات الكتاب المقدَّس العِبري (العهد القديم) والعَهد الجديد شريعة؟
من المُثير للاهتمام، على الرُّغم من أّن ذلك حدَثَ في وقتٍ أسبَق بكثير من العَهد الجديد، إلاّ أنّ تتبُّع شريعة العهد القديم أسهَل قليلاً (على الرُغم من أنّ الجميع لا يتَّفِق مع جَميع الاستنتاجات التَفصيليّة حول هذا الموضوع). الموقِف المَسيحي الحَديث هو أنّه حَدَث بعد حوالي عشرين سنة أو أكثَر بقليل من وقتِ تَدمير أورشليم على يَد الرومان (مما يَضعُه في حوالي عام تسعين ميلادي). في قَرية جامنيا الصغيرة (كما تَقول القصة) اجتَمَع بعض الحاخامات النافذين الذين كانوا مُتوارين عن الأنْظار منذُ دَمار أورشليم، وقرَّروا قانون العَهد القديم. هذا ببسَاطة غير صَحيح. تُوضِح الكِتابات اليهودية أنّ مَجمَع الحاخامات هذا اجتَمَع لعِدّة أسباب، وكانت القَضيّة الحقيقية الوَحيدة المُتعلِّقة بالكتاب المقدَّس هي ما إذا كان يجِب إدراج سِفْرَي الجامِعة ونَشيد سليمان. عَلاوةً على ذلك، لا يوجَد أي سِجِلّ أو دَليل حاسِم على اتِّخاذ أي قرار بشأن مسألة هذين السِفْرين؛ كلّ ما نعرفُه على وَجه اليَقين هو أنّ الحاخامات اجتَمعوا وناقشوا مَزاياهُما.
كان يَنبغي أن يَكون اكتِشاف مَخطوطات البَحر المَيت وإعادة بنائها وترجمتِها قد دَقَّ المِسمار في نَعْش هذا التأكيد غَير الدقيق بشكلٍ واضِح بأنّ شريعة أسفار العهد القديم لم تتأسَّس إلاّ بعدَ المَسيح (ولكن هذا لم يحدُث). التَقاليد والأجَنْدات القديمة تَموت بصُعوبة. كُتِبت مَخطوطات البحر الميت حوالي عام مئة قَبل الميلاد؛ وفيها تَمّ اكتِشاف كلّ أسفار العهد القَديم ما عَدا سِفْرَي أستير ونحميا. ويوضِح المؤرخ يوسيفوس أنّه بحُلول عصرِه (حوالي زَمَن المسيح وحتّى خراب الهيكل) كانت شريعة التَناخ قد استقرَّت منذُ زمن بَعيد عند اثنين وعشرين سِفْرًا. بينما يبدو أنّ هذا لا يَتوافق مع الإحصاء الحَديث، إلا أنّه يجب أن نُدرِك أنّ العديد من الأسفار بِما في ذلك سِفْر أخبار الأيام والملوك ، تَمّ تقسيمُها منذ ذلك الحين إلى جُزأين من قِبَل المُحرّرين المَسيحيين لأنّها كانت طويلة جدًا، وتمّ تَقسيم بعض الأسفار حَسَب نَوع الأدب (مِثل سِفْر الأمثال والمزامير).
ولكن بالرُجوع إلى ما هو أبعَد من ذلك نَعلَم أنّ التَرجمة اليونانية للكتاب المقدَّس العِبري (المَعروفة باسم السَبعينية) تمَّت في زَمَنٍ ما حوالي عام مئتين وخمسين قَبل الميلاد، وفيها كل أسفار الكتاب المقدَّس العِبري التي ندرُسُها الآن. هل كان من المُمكِن أن تَكون هناك مُناقشات مُستمِرّة حول ما إذا كان يَجِبُ الإبقاء عليه كما كان، أو إضافة أو حَذْف سِفْر هنا أو هناك؟ بالتأكيد؛ في الواقِع لدينا سِجلاّت عن حدوث هذا الأمْر بالضبط، وبهذِه الروح نفسِها حدَث اجتَماع الحاخامات في جومنيا عام تِسعين بعد الميلاد.
إذًا كانت أسفار العهد القديم مَوجودة ويَعْتَبِرُها الشَعب اليهودي كَلِمة الله الموحى بها (الكِتاب المقدَّس) قَبل عام مئتين وخمسين قَبل الميلاد. ولكن كانت هناك كتُب دينية عِبريّة أخرى مَوجودة أيضًا في ذلك الوقَت؛ هذه الكتُب الإضافية لم تُعطَ نَفْس ميزة التاناخ، ولكنّها وُضِعت ”بجانب“ التاناخ؛ لم يُحكَم عليها بأنها تَحمِل نفْس وَزْن التاناخ، ولكنهّا كانت صالِحة في مضمونِها. تمامًا كما وُضِع سِفْر التثنية ”بجانِب“ الوصايا العَشر ولكن ليس في التابوت مع الوصايا العشَر، كذلك العَديد من الأسفار التي تُعرَف اليوم شَعبياً باسم أبوكريفا وُضِعَت ”بجانِب“ العهد القديم المقدَّس من قِبَل بني إسرائيل ولكن حُكِم عليها بأنّها ليسَت بنفْس وزْن التاناخ. كان يُنظَر إليها على أنّها موحى بها إلهيًا، ولكن ليس على مستوى عالٍ من الإلهام بما يَكفي لاعتبارِها ”كتابًا مقدسًا“.
فكيفَ يُمكِن مُقارَنَة ذلك بتَكوين شريعة العهد الجديد، كما نعرِفُها اليوم؟ قَبْل أن أتطرَّق إلى ذلك أريد أن أشير إلى شيء قد يَكون مُذهِلاً؛ وقَبْل أن أفعَلَ ذلك (حتّى لا يُساء فَهْمي) أريد أن أُصرِّح بأنني أؤيِّد أنّ العَهد الجديد هو كَلِمة الله الصَحيحة والموحى بها بالكامِل.
العَهد القديم (على الأقَلّ معظمُه) هو ما يُمكنني أن أسمّيه بالتَقنين الذاتي. أي أنّ كلمات تلك الأسفار ذاتَها تَدَّعي أنّها الكتاب المقدَّس. تدَّعي التوراة أنّها عَمَل الله وكلامَه، وتدَّعي أيضًا أنّ موسى كان يكتُبَها. وادَّعى الأنبياء في كتاباتِهم أنهّم يَتكلَّمون بالكلام نفسِه الذي أمَرَهُم إله إسرائيل أن يتكلَّموا به حتّى أنّ العديد من المَزامير تدَّعي أنّها موحى بها من الله.
من ناحِية أخرى، لا يَفعَل العهَد الجديد شيئًا من هذا القَبيل. لا يوجَد كِتاب في العهد الجديد يَدَّعي أنّه موحى من الله. لا يوجَد سِفْر من أسفار العَهْد الجديد يدَّعي أنّ مُحتوياتِه تَرتقي إلى مَرتَبة المُنزَل من الله. لقد ذَكرتُ عدَّة مرّات أنّ العَهد الجديد هو في المَقام الأول قِصَّة تَحقيق نبوءات العهد القَديم المُتعلِّقة بمَجيء المَسيح، ثمّ التَّعليق على ما يَعنيه هذا لليَهود من جِهة وللوثنيين من جِهة أخرى. إنّها تَشرَح من هو المَسيح المُنتظَر (يشوع الناصِري)، وما الذي فَعَله وأمَرَ به خلال خدمتِه، وكيف جاء وكيف مات. تَرِدُ قِصّة حياة يسوع في الكُتب التي نُسمّيها الأناجيل. يَختلِف إنجيل مَتّى ومرقُس ولوقا عن إنجيل يوحَنّا في طبيعتِه قليلاً، وتُسمّى هذه الكُتُب الثلاثة معًا الأناجيل المُشترَكة لأنّها تَروي في الأساس نفْس القِصَص في بعض الأحيان بتَرتيبٍ مُختلِف قليلاً، مع إعطاء تَركيز مُختلِف قليلاً، وغالِبًا من وجهات نَظَر مُختلِفة إلى حَدٍ ما.
يَحتوي العَهد الجديد على نوع آخر من الأدَب يُسمّى الرسائل؛ والرِسالة هي ببساطَة رِسالة كَتَبَها قائد الكَنيسة. تَتناوَل هذه الرسائل (التي كَتَب معظمَها بولس) مُختلف النِزاعات والمَشاكل التي نشَأت في العَديد من المواقِع الكنسيَّة في جميع أنحاء الإمبراطورية الرّومانية. في الواقع مُعظم الرسائل هي تَعليقات وتَبرير لاستِنتاجات بولس. إنّها شُروح عن مَقاطِع العهد القديم وتَعليق على النتائج اللاهوتية لمَجيء يسوع وموتِه وقيامتِه. في بعضِ الأحيان كانَت هناك حاجَةٌ ماسَّة إلى التَعليق لأنّ كل شيء تَقريبًا قرَّرت السُلطات الدينية اليَهودية أنْ تعتبِرَه من مواصَفات المَسيح لا يُشبِهُ بأي حال من الأحوال من كان يسوع وما فَعَلَه.
تناولَت رسائل يعقوب، الأخ غير الشَقيق ليَسوع، في المَقام الأول أمور الكَنيسة في مَقرِّها الرئيسي في أورَشليم. كان يَعقوب القائد الأعلى للكَنيسة في أيّام بولُس.
أمّا النَوع الأخير من الأدَب الإنجيلي في العَهد الجديد فيَظهَر في سِفْر يوحَنّا إلى حدٍ ما، ولكن بشكلٍ أساسي في سِفْر الرؤيا؛ ويُسمّى أدَب الرؤيا وهو يَتناوَل الكَشْف عن أمور نِهاية الأزْمِنة، لذا هو نَبَوي في طبيعتِه؛ فهو يتعلَّق بالأزمِنة المُستقبليَّة بالنسبة لكاتِبه، يوحَنّا.
من المُهِمّ لنا أيضًا أن نحدِّد طبيعة الأناجيل. أولاً، يجِب أن نفهَم أن مَتّى ومُرقس ولوقا ليسَت أسماء كُتّاب هذه الأناجيل، فكُتّابُها مَجهولون. الأناجيل تُشبِه إلى حدٍ ما سيرة يَسوع. ثانيًا، كُتِبت هذه الأناجيل بعد حوالي عشرين عامًا أو نحو ذلك بعد إعدام يسوع. وثالثًا، اليَهود هُم الذين كَتَبوها.
ومَع ذلك، هنا يَبدأ الإشكال في هذا الأمْر. على الرغّم من أنّه من الموثَّق جيدًا أنّه في نهاية القَرْن الأول الميلادي كانت الأناجيل وعدَد من رسائل بولس تَتناقَل بين مُختلَف مواقعِ الكَنيسة، إلاّ أنّها لم تكُن تُعتبَر كتابًا مقدسًا؛ بل لم تكُن حتّى على مُستوى من الإلهام يَكفي لتَكون مُساوية في القوَّة للعَهد القديم أبوكريفا. من المؤكَّد أنّ الرسائل كانت تُعتبَر مَوثوقة، بمعنى أنّها كانت تُعتبَر قواعِد ولوائح حَول كيفيَّة التَعامُل مع مَجموعة مُتنوِّعة من الأمور داخل الكَنيسة. ومع ذلك، لم يُنظَر إليها بشكلٍ مُختلِف عن نَظرتِنا إلى اللوائح التي وضَعتْها أيّ طائفة مَسيحية مُعترَف بها. تُظهِر سِجلاّت الآباء الرَسولييّن (جيل قادة الكَنيسة الذي جاء بعدَ الرُسُل مباشرةً) أنّ كتابَهم المقدَّس في كلّ الظُروف هو الكتاب المقدَّس العِبري (التناخ) ولا شيء غيرَه (حتّى لو كان مَكتوبًا باللغة اليونانية). وهذا بِغَضّ النَظر عمّا إذا كان ذلك القائد يَهوديًا أو أمَمِيًّا.
تُظهِر لنا كِتابات أوريجانوس وأغناطيوس وكليمنت وبابياس وغيرهِم من قادة الكَنيسة الأوائل أنه بِحلول الجُزء الأول من القَرْن الثاني الميلادي كانت بَعض الكنائس الواقِعة في الإمبراطورية الرومانية قَد بَدأت في قراءة أجزاء من الأناجيل وأجزاء من الرَسائل خلال اجتِماعات الكَنيسة.
كان من المُعتاد قراءة الكتاب المقدَّس من العَهد القديم خلال خِدمَة الكَنيسة (مرَّةً أخرى، ما نُسمّيه اليوم العهَد القديم كان بالنسبة لهم ”الكِتاب المقدَّس“) ثمّ في بَعض الأحيان أيضًا قراءةُ بَعض تِلك الرسائل والأناجيل. يَبدو أنه على الرُّغم من أنّ الجيل الأول أو الجِيلَين الأوَّلَين من الكَنيسة الذين بدأوا هذه العادة اعتَبروا الرسائل أو الأناجيل على أنَّها موحى بها من الله ولكِن حَقيقة أنها كانَت تُقرأ خلال خِدْمة العبادة بشكلٍ أو بآخر جَنبًا إلى جَنْب مع الأسفار المقدَّسة، دَفَعت الأجيال التالية إلى إعطاء تلك الأناجيل والرسائل وزْنًا أكبَر.
أوَّل مُحاولة مُسجَّلة لاعتبار رسائل بولس والأناجيل ”كتابًا مقدسًا“ حدَثَت في عام مئة وأربعة وأربعين ميلادي. كان الجَاني أوروبيًا يُدعى مارسيون. كان مارسيون مُعتنِقًا حديثًا للمسيحية؛ كان أحد أقطاب الشَحن البَحري الأممي الأثرياء والأقوياء. لم يكُن قائدًا للكنيسة، لكِنَّه كَتَب كتابًا ضَرَب على الوَتَر الحَسّاس في الكَنيسة التي كان يُهَيْمِن عليها الأمميّون تمامًا. في كتابِه المُعَنْوَن ”النَقيض“، طَرَح لاهوتَه الشَخصي وبدأ باقتِراح استبْعاد كل الأشياء ذات الأصْل والنَكْهَة اليَهودية عن الكَنيسة. لذلك كان على الكَنيسة أن تؤلِّف كتابًا مُقَّدسًا مَسيحيًا جديدًا، وبمُجرَّد تأليفِه أعلَن أنّ الكتاب المقدَّس العِبري باطِل ولاغٍ بالنِسبة للمَسيحيين. علاوةً على ذلك، أعلَنَ مارسيون أنّ الكِتاب المقدَّس المَسيحي يجب أن يتألَّف فقَط من إنجيل لوقا بالإضافة إلى بَعض رسائل بولُس. ولكن حتّى في ذلك الحين لا يَنبغي أن يتضمَّن إنجيل لوقا بأكملِه، بل يجِبُ حَذْف ما يَصِل إلى الإصحاحات الأربعة الأولى لأنها تَتناول النَسَب اليهودي للمَسيح.
لقد شُجِبَ مارسيون على نِطاق واسِع، لكنَّه اكتَسَب أتْباعاً كَثيرين. لم تَتَبَنَّ أي هيئة كنسيَّة مَعروفة اقتراحَه (على الأقَل ليسَ بالشَكل الذي اقترحَهُ ولم يحدُث ذلك إلا بَعد مرور سَنوات عَديدة).
الآن أصبَح الأمْر أكثَر تَعقيدًا. كانَت الإمبراطورية الرومانية في حالة اضطِراب، وعلى الرُغم من أنّها لم تكُن إمبراطورية مُنقسِمة بَعد، فقَد ظَهَر مَركزا قوَّة: روما وبيزنطة (أصبَحت بيزنطة فيما بعد تُعرَف باسم القِسطنطينية وتُسمّى اليوم إسطنبول، تُركيا). وبطَبيعة الحال، انجذَبت مراكِز القوَّة في الكَنيسة إلى هناك أيضًا لأنّه مع وجود العِلاقات السِياسية المناسِبة اكتَسَب زعيم الكَنيسة في كلٍّ من هاتَين العاصمتَين السياسيتَين القوَّة والظهور والتَحقُّق من صِحّة ما يقولُه. وهكذا وُلِدت الكَنيسة الغربيَّة والكَنيسة الشرْقيّة (بشكل منفصل). الكَنيسة الغربيَّة، وهي جُزء من الكَنيسة التي ترى روما مَقَرًّا لها، نَمَت في النهاية لتُصبِح الكَنيسة الرومانية الكاثوليكيّة. أمّا الكَنيسة الشرقيَّة، ومقرُّها بيزنطة، فقد تَحوَّلت إلى مُختلف الطوائف المَسيحية الأرثوذكسيّة التي نَعرِفُها اليَوم مِثل الأرثوذكسية اليونانية والأرثوذكسية الروسية والسْلافية والقُبطية وغيرِها.
انبثقَت البروتستانتية في النِهاية من الكَنيسة الغَربيّة، ومُعْظَمُنا يَتماهى مع فِرع أو آخر من الفروع الفرعيَّة للكنَيسة الكاثوليكية أو البروتستانتية. أمّا الكَنيسة الشَرقية فهي مَسألة أخرى تمامًا. لا تَرتبِط ولادتُها أو هيكَل سُلطتِها الحالي بالكنيسَتَين الكاثوليكية أو البروتستانتية، فهي مُنْفَصِلة تمامًا.
أقول لكَ كلَّ هذا لأنه عندما نناقِش قانون العَهد الجديد لا يوجَد شيء اسمُه عَهد جديد واحد مُتَّفَق عليه عالَميًا على مستوى الكَنيسة حتّى اليوم (على الرُغم من أنّ الاختِلافات ليسَت كبيرة). وبالتأكيد ليسَ هناك شيء واحِد مُتَّفق عليه عالَميًا على مُستوى الكَنيسة بين المَسيحيين حتّى اليوم (الاختِلاف الرئيسي هو تَرتيب الأسفار وأيْنَ أو إذا ما تَمّ تَضمين الأبوكريفا وإذا كان الأمْر كذلك كمْ عدَد الكُتب الخَمسة عشر الأصليَّة من الأسفار الأبوكريفية المُدرَجة).
بعدَ حوالي عام مئتين بعد الميلاد، عندما تطوَّرت أفكار مارسيون قليلاً، بدأنا نَرى أنّ بَعض الأناجيل والرسائل قد رُفِعت إلى مرْتَبة الكتاب المقدَّس. ولكنّ قُبول أيّ مَجموعة لها ككِتاب مُقدَّس كان يَعتمِد كُلِّيًا على الفِرع الرئيسي للكَنيسة (الشرقيَّة أو الغَربيّة) وحتّى على المَدينة التي تَقَع فيها الكَنيسة. رَفَضت بعض الكنائس الاعتِراف بأي شيء غَير الكتاب المقدَّس العِبري ككتاب مُقدَّس، واختارَت كنائس أخرى أيًا من الأناجيل والرسائل المُختلفة التي اعتبرَتْها تتمتَّع بمزايا كافيَة لتَرتقي إلى مَرتَبة الكتاب المقدَّس. في الواقِع، بحُلول عام مئتين بعد الميلاد، كانت العَديد من أسفار الأبوكريفا أيضًا من بَين تلك التي اختارتْها الكنائس المُختلِفة على أنّها مُستوحاة من الله. كيف اختارَت؟ كان شيوخ الكَنيسة والأساقفة يُشكِّلون مَجامع ويُصوِّتون بقواعِد الأغلبيَّة.
إذَن، بحلول عام مئتين وعشرين بعدَ الميلاد تقريبًا نرى أخيرًا واحِد) بعض الأناجيل والرسائل قد رُفِعَت إلى مَرْتبَة الكتاب المقدَّس، واثنان) تَكوَّنَ مَفهوم العهد الجديد. هل تَفهَم ذلك؟ تَمّ الانتِظار حتّى القرْن الثالث الميلادي (أي بَعد حوالي مئتي سنة من مَوت المسيح) كي يتمّ التَفكير بجديَّة في مَفهوم وجود مَجموعة إضافية من الكتاب المقدَّس (أو كما نَعتقِد ”عَهد“ آخر)؛ وحتّى في ذلك الوقت لم يكُن مَقبولاً إلّا في بَعض أجزاء الكَنيسة. علاوةً على ذلك، لم يكُن من المُتصَوَّر على الإطلاق أن يَكون هذا العَهد الجديد بديلاً عن (أو أن يَكون فوق) الكتاب المقدَّس العِبري العَزيز.
لم يَتُمّ الاعتِراف بشريعة العَهد الجديد كقانون رَسمي قَبل أواخر القرن الرابِع ثلاثمئة وسبعة وستّين ميلادي، وحتّى ذلك الحين لم يكُن الأمر كذلكَ إلا في الفِرع الغَربي من الكَنيسة. ومن المُثير للاهتمام أنّ كلّ كُتّاب من أسفار الأبوكريفا (التي كان اليَهود يُقدِّسونَها ولكنَّهم لَم يَعتَبِروها كتابًا مُقدَّسًا) أصبَح كتابًا مُقدسًا إلى جانِب الكِتاب المقدَّس العبري والعَهْد الجديد الذي تَمّ اعتمادُه حديثًا. دعني أكرِّر ذلك: كان الكتاب المقدَّس المسيحي الأُمَمي الأوَّل هو الكتاب المقدَّس العِبري حتّى حوالي عام مئتين وعشرين ميلادي. كانَت أوَّل إضافة للكتاب المقدَّس المسيحي الأُمَمي هي أسفار الأبوكريفا (ومن المُفارَقات أنّ هذه هي الكتُب التي كان اليَهود يُقدِّسونها قبل ظُهور المَسيحية بقرون). والآن بعدَ أن أُعطيَت الأبوكريفا (لأوَّل مرَّة) مَكانة الكتاب المقدَّس (من قِبَل المسيحيين الأُمَميّين من بين كل الناس!) سوفَ يَستغرِق الأمر بِضعة عُقود أخرى حتّى يُصبِح العَهد الجديد حَقيقة واقِعة ويتِمُّ تَضمينُه ليُشكِّل الكتاب المقدَّس المسيحي الذي نَعرفُه اليوم.
وبالطَبع رَدًا على ذلك اعتَمَدت الكَنيسة الشرقيَّة عهدَها الجديد الخاص بها وقَبِلت بعض الأسفار التي قَبِلها الغَرب، ولكنّها رَفَضت البعض الآخر وأضافَت بعض الأسفار الأخرى التي لم تَعترِف بها الكَنيسة الرومانية (أُضيفَ سِفْر العِبرانيين وحُذِف عدّة مرّات لقُرون وما زال موضِع خِلاف). وَفعَلت الشيء نفسَه مع الأبوكريفا؛ قَبِلت الكَنيسة الشرقيَّة بعض الأسفار الأبوكريفية ككِتاب مقدَّس والبَعض الآخر لا.
لقد كان مارتن لوثر في القرْن الخامس عشر الميلادي هو أوَّل من انتقَد بشدَّةٍ أي إدراج لأسفار الأبوكريفا في الكِتاب المقدَّس المَسيحي الأُمَمي (على الرّغم من أنّه كان كذلك لأكْثَر من اثني عشر قَرْنًا)، خاصَةً أنها كانت تُعتبَر كتابًا مقدسًا. وكما تَشهَد كتاباتُه بوضوح أنّ اعتراضَه الأساسي كان بَسبب شعورِه أنّ أسفار الأبوكريفا (على حَدِّ تعبيرِه) ”يَهوديّة للغاية“. عندَ الإصلاح البروتستانتي تمَّ إزالة بعض أسفار الأبوكريفا من قانون الكِتاب المقدَّس ومع كتاب جُنيف المقدَّس تَمّ نقلُها إلى قُسْم مُنْفَصِل من الكتاب المقدَّس وأعْطيَت وَزْناً أقَلّ من العهدَين القديم والجديد (يُشبِه إلى حدٍ كبير ما فَعَله اليهود مع الكتاب المقدَّس العِبْري والأبوكريفا قَبل ألفي سنة تقريباً).
إليكَ ما أوَدُّ أن تَستخلِصَه من كلِّ هذا: من المُفارقات الرهيبة أنّ الكَنيسة في السنوات الـخمسمئة الماضية أزالَت أوَّلاً الأبوكريفا ثمَّ (لكلِّ الأغراض العَمَليّة) العَهد القديم والأصلي لله من الكِتاب المقدَّس. لا يزال موجودًا، ولكن بالاسم فقَط. لقد تَمّ إنزال التاناخ إلى مَكانة مُماثلة داخِل الكَنيسة الحديثة مِثْل ما فَعَل اليهود في البداية مع أبوكريفا؛ باعتبارِه شَهادة مُعيبة ذات إلهام أقَلّ.
المُفارقة، بالطَبع، هي أنّ التوراة والأنبياء فقَط هُم الذين يدَّعون الإلهام الإلهي. أمّا العَهد الجديد فلا. كذلك بالنِسبة لنا أن نؤيّد بجَدّية فِكرة أنّ كل إشارة لمُصطلَح ”الكتاب المقدَّس“ من قِبَل مؤلف العهد الجديد هي لتَضمين كتاباتِه الشَخصيَّة وهي ببساطة غَير مَنطقيّة في ظاهرِها لأنّه لن يَكون هناك مُحاولة لرَفْع مَكانة أيٍ من تلك الكتابات إلى كونِها ”موحى بها من الله“ لما يُقارِب من قَرنَين من الزَمان بعدَ وفاة هؤلاء المؤلِّفين. فمنذُ اللحظة التي وُضِعت فيها التوراة والأنبياء، كانتِ التوراة والأنبياء كتابًا مقدسًا مُعلَنًا ذاتيًا. لا يوجد أي دَليل على الإطلاق على أنّ مؤلِّف العهد الجديد كان يَعتقِد أنّه كان يكتُب شيئًا يمكِن اعتبارُه يومًا ما كتابًا مقدسًا إضافيًا أو بَديلاً للكتاب المقدَّس.
ليسَ الغرَض من دَرْس اليوم التَقليل بأي شكل من الأشكال من الطَبيعة الإلهية للعَهد الجديد أو التَشكيك فيها، بل هو مساعدتُنا على رؤية أن كتّاب العَهد الجديد والكَنيسة الأولى لم يَشُكّوا لِلَحْظة واحدَة في استِمرار أهميَّة وصلاحيَّة وسُلْطة الكتاب المقدَّس العِبري (العهد القديم). شكَّلت التوراة والكتاب المقدَّس العبري أساس الإيمان المَسيحي. كان يَسوع هو تَحقيق النبوَّات الوارِدة في الكتاب المقدَّس العِبري. لم يكُن هناك سوى عِدَّة مَجموعات من قادة الكَنيسة الأمميّة الذين وضَعوا (بعدَ قرون) عقائد وقواعِد من صُنْع الإنسان (وكلُّها مُعادية لليَهود بشدَّة) التي قَلَبت الكتاب المقدَّس رأسًا على عَقَب وجَعَلت العَهد الأصلي موضِع شَكٍّ والعَهد الجديد غير قابِل للدَحض.
أوَدّ أن أقترِح بكلّ تواضُع أنه كما أنّ يَسوع هو المَسيح وهو الله، فهو أيضًا خاضِع للآب. كان يسوع يُصلّي باستِمرار إلى الآب، ويَطلُب أن تتُمّ مشيئته؛ وصلاتُه الشهيرة التي نُسمّيها صلاة الأبانا تُذَكِّر بهذا المبدأ. قيل لنا أنّ يَسوع الآن في السَماء موضوع بجِوار الآب، عن يَمينه. هذه العِلاقة الغامِضة بين اللاهوت تُحدِّد النمَط الذي نراه في سِفْر التثنية حيث وُضِعت التوراة (التي هي كَلِمة الله، كما أنّ يسوع هو كَلِمة الله) بجانِب التابوت، ولكنَّها كانت في الواقِع تابِعة لمُحتويات التابوت. لذلك أقترِح أنّه مِثلما وُضعت التوراة الإلهية بشكلٍ رَمزي بجانِب أساسِها (الوصايا العَشَر المَوجودة داخل التابوت)، هكذا يَنبغي أن يوضَع العهد الجديد الإلهي بجانِب أساسِه، التوراة. لم تحُلّ التوراة مَحَلّ الوصايا العَشَر بعدَ الآن أكثَر مما حَلَّ العهد الجَديد مَحَلّ الكتاب المقدَّس العبري. أن نَقترِح أنّ التوراة تابِعة للعهد الجديد، أو الأسوأ من ذلك أنّ الجَديد قد ألغى القديم، هو أنْ نُخالِف وصيَّة مُخلِّصنا في أهَمّ عِظة له إلى الشَعب:
مَتّى الإصحاح خمسة الآية سبعة عشرة "لا تَظنّوا أنّي جئت لألغي التَوراة أو الأنبياء. مَا جِئْتُ لأَنْ أَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ. ثمانية عشرة بَلَى! أَنَا أَقُولُ لَكُمْ: إِلَى أَنْ تَزُولَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ لاَ يَزُولُ مِنَ التَّوْرَاةِ حَرْفٌ وَاحدٍ. تسعة عشرة فَمَنْ عَصَى أَصْغَرَ هَذِهِ التَّوْرَاةِ وَعَلَّمَ آخَرِينَ أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ يُدْعَى الأَصْغَرَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَأمّا مَنْ يُطِيعُهَا وَيُعَلِّمُ هَكَذَا يُدْعَى عَظِيمًا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ.
سنَبدأ الأسبوع القادِم بسِفْر التثنية اثنين وعشرين، نَشيد موسى.