سِفْر التثنية
الدَرس أربعة وأربعون – الإصحاح اثنان وثلاثون
كان الأسبوعُ الماضي في الأساس تَحضيرًا لما سنَدرسُه اليوم. لقد أنهَينا الدَرس بمُناقشة موجَزَة لتاريخ الوسائل التي نَشأ بواسطتِها الكِتاب المقدَّس المُستخدَم اليَوم بما في ذلك تَدرُّجُه من أسفار موسى الأولى (المُسمّاة التوراة) حتّى ما أطلَقَ عليه المؤمنون بيسوع اسم العَهد الجديد أو البريت حداشاه.
كان الغَرَض من إعدادِنا هو دِراسة أفضَل طريقة لفَهْم تَرتيب أولويّات الكتاب المقدَّس (أو حتّى إذا كان يَنبغي علينا أن نَفعَل مِثل هذا الأمْر). لقد تَعلَّمنا أنّ الحُكماء العبرانيين علَّموا في وقتٍ مُبكِر أنّه من الضَروري أن نُفكِّر بعِناية في شرائع الله ومبادئه الّتي قد يَكون لها وَزْنٌ أكبَر من غيرِها لأنه حتمًا ستَكون هناك ظروف (كمَسار حياة عادي) سنُضطَرّ فيها إلى اختِيار واحِدة على الأخرى لأنَّه لا يُمكن طاعة كِلا الشرائع أو المبادئ في وقتٍ واحِد. والمِثال الذي استخْدَمتُه في عدَّة مُناسبات هو قصّة كوري تن بوم المَعروفة في الحَرْب العالمية الثانية التي أخْفَت يهودًا كان مصيرُهم مُعسكرات العَمَل والإبادة النهائية على يَد النازيّين؛ ولكن عندما سُئلَت عمّا إذا كانت تَعرِف مكان هؤلاء اليهود الهارِبين المَفقودين الذين كانت تُخبِّئُهُم، قالت إنها لا تَعرف. لقد كذَبَت على سُلطاتِها الحكومية البَشريّة؛ وهذه خطيئة والله لا يُبيح الكَذب أبدًا تَحت أي ظَرف من الظروف. ومَع ذلك، لو لم تَكذِب، لكان قد قُبِض على هؤلاء اليهود الذين كانت تَحميهم وقُتِلوا في الوقت المناسِب. لقد اختارَت أن تُحافظ على حياة بَشرية بريئة وكانت مُحِقَّة في ذلك. الله يَجْعَل مَبدأ الحِفاظ على الحَياة البشرية أعلى من مبدأ الصُدْق دائمًا.
في العَصْر الحديث، أصبَح النَمط العامّ للكَنيسة الغربيَّة (والكَثير من الكَنيسة الشرقيَّة) هو تَحديد أولويَّة الكتاب المقدَّس والشرائع في نِهاية العَهد القديم وبداية العَهد الجديد. وبعِبارة أخرى أن نَجعَل العَهد الجديد أولويَّة على القَديم في كلِّ الأحوال تقريبًا. بل أكثَرْ من ذلك فإنّ النَمَط العام هو القَول بأنّ العَهد القديم يَجِب أن يُقرأ من مَنظور جَديد. هذا الجَوهَر هو أنْ نَجعَل العَهد الجديد أساس العَهد القديم. وأبسَطَ حَلّ لذلك هو أن نُعلِن أنّ العهد القديم لا صِلة له بالموضوع ومُلغى، وبالتالي بالنِسبة للمؤمِن فإنّ كتابَنا المقدَّس هو العَهْد الجديد ولا شيء أكثر من ذلك.
إليكَ اقتباساً يواجِه هذا المَوضوع الصَعْب المُتعلِّق بِخَلْق العهد الجديد وموقعِه كما وَرَد في الموسوعة الكاثوليكية:
” إنّ فِكرة وجود شريعة كاملة وواضحِة المعالِم للعَهد الجديد موجودَة منذ البِداية، أي مُنذ العَصر الرَسولي، ولا أساس لها في التاريخ. إنّ شريعة العَهد الجديد، مِثلُها مِثل شريعة العَهد القديم، هي نَتيجة تطوُّر، نَتيجة عَمَلية حفَّزَتْها في آنٍ واحِد المُنازعات مع المُشكِّكين، داخِل الكنيسة وخارجِها، وأعاقَها بعض الغُموض والتردُّدات الطبيعية، ولم تَصِل إلى نهايتِها إلى أن توافَر التَحديد العقائدي للمَجمَع التريدنتيني“.
كما اكتشَفنا في الأسبوعِ المَاضي، لم تتَّفِق بالتأكيد الكَنيسة الأولى (والمَقصود بالأولى هي أوَّل مئتين سنة أو نَحو ذلك بعد مَوت المسيح) مع مَفهومنا الأكثَر حداثة عن العَهد الجديد الذي يَحُلّ مَحَلّ القَديم (حتّى أنه يَجعَلَه عَتيقًا). في الواقِع كان الكِتاب المقدَّس المَسيحي الأقدَم ( المُستخدَم مُنْذُ نحو قَرْنَيْن من الزمن) هو ما نُسمّيه نحن العَهد القديم (التناخ)، وأوَّل الكُتب التي أُضيفَت إلى ما يُسمى بالكتاب المقدَّس المَسيحي لمْ تكُن رسائل بولس أو أيّ من الأناجيل الأربَعة بل كانَت أسفار الأبوكريفا الخَمسة عَشَر التي كانت مُهمِّة جدًا لليَهودية لعدَّة قرون. بعدَ ذلك فقط أصبَحَ كتاب واحِد فقط، ما يَظهَر الآن كقُسْمٍ كِتابي مُنفصِل من الكتاب المقدَّس ونُسمّيه العهد الجديد، باعتبارِه كتابًا مُقدَّسًا ومُعلَنًا ككتاب مقدس؛ وحتّى ذلك الحين لم تكُن هناك قائمة مُتَّفَق عليها على مستوى الكنيسة للكُتُب والرسائل المُحدَّدة التي يمكن أن تُشكِّل الكتاب المقدَّس المسيحي الأُمَمي حتّى عام ثلاثمئة وسبعة وستين ميلادي في مَجمَع ترايدنتاين.
علاوةً على ذلك، بحلول ذلك الوَقت، كانتِ الكَنيسة قد نَمَت إلى فِرعَين أساسيَّين (الكنيسة الشَرقية والكنيسة الغَربية) كان لهُما مَراكز دينيَّة مُختلفة، وحُكومات وقادة دينيّين مُختلفين، ومُمارسات وعقائد دينيّة مُختلفة. أحَدَ الفِرعَيْن كان مقرُّه في روما، والآخر في بيزنطة (إسطنبول حاليًا) ولا يزالان مُنفصلَين حتّى يومِنا هذا ولا يزالان غَير مُتَّفقَين على الكثير من الأمور، حتّى الأناجيل التي تَستخدمُها الكَنيسَتَيْن الشَرقيّة والغربية مَبنيَّة بشكلٍ مُختلف. من الكَنيسة الغربية نَمَت الكنيسة الكاثوليكية و(بَعدَ ذلك بكثير) الفروع البروتستانتيّة. لا تَزال الكنيسة الكاثوليكية حتّى يومِنا هذا تَعترِف بسَبْعة أسفار من أبوكريفا كَكِتاب مقدس؛ البروتستانت ألغَوا هذه الكُتب من أناجيلِهم بمَرسوم من مارتن لوثر في القَرْن الخامِس عشر الميلادي. تَقبَل الكَنيسة الشرقيَّة ما بين سَبعة إلى جميع الأسفار الأبوكريفية الـخَمسة عشرة كلَّها ككتاب مقدس حسَب الفِرع الذي تَنتمي إليه، حتّى أقسام العَهد الجديد من الكتاب المقدَّس التي يَستخدِمُها الفِرعان مُختلفان بعض الشيء، حيثُ يَقبَل أحدهُما سِفْر العبرانيين ولا يَقبلُه الآخر.
كان مِحْوَر مُناقشتِنا في الأسبوع المَاضي هو إثبات أنّه (بالإضافَة إلى كَلام المَسيح نفسِه من إنجيل مَتّى خَمسة) لم يُلغَ التاناخ (الكتاب المقدَّس العبري) بأي حال من الأحوال؛ ولذلك فمِن البَديهي أن يؤخَذ العَهد الجديد في ضوء القَديم. فكَما هو الحال في سِفْر التثنية ثلاثين حيث وُضِعت التوراة بشكلٍ احتِفالي بجانِب تابوت العَهد مع أثمَن ما فيه وهو الوَصايا العَشَر (ممّا يدُلّ على أنّ التوراة كانت مُرتبِطة بالفِعل، بل وتابِعة أيضًا لكَلِمات الله العَشر كما أُعْطيت لموسى). أمّا المَوقِف من العَهْد الجديد هو أنّه يَجِب أن يوضَع بجانِب التوراة والعَهد القديم، فالعَهد الجديد مُرتبِط تماماً بالتوراة والعَهد القديم، ومَبني على أساسِها. أساس العَهد القَديم هو الوَصايا العَشر، وأساسُ العهد الجديد هو العَهد القديم. بَيَّنْتُ أنّ ارتباط السُلطة ونَمَطَها والتسلسُل الهَرَمي للكتاب المقدَّس يتجَلّى حتّى في شَخص يسوع إذ كان يؤكِّد باستِمرار أنّه فَعَل كل شيء بمشيئة الآب (وليس بمشيئتِه) وأنّ الآب هو السُلطة العُليا على الرغم من أنّ هذه الُسلطة أُعْطِيَت له أيضًا ليُمارسَها. من يَستطيع أن يَنسى تلك اللّحظات المأساويّة في بُستان جثسيماني، وهو يَعلَم أنّه في غُضون ساعات فَقط سيُعذَّب بلا رَحمة ويُصلَب، عندما قال يسوع إلى الآب ”لِتَكُن مشيئتك أن تأخُذ هذه الكأس مني…“
ما سوف نَدرُسه اليَوم في سِفْر التثنية اثنين وثلاثين كان (عند اكتِماله) مَوضوعًا بجانِب تابوت العَهد، كَرَمْز إلى أنّه كان تَحت سُلطة الوصايا العَشَر.
يُسمّى الإصحاح اثنان وثلاثين بالعَرَبية ”نَشيد موسى“. ويُسمّى بالعبرية ”شيرات هازينو“، وهي أوَّل كَلِمَتَين من نشيد موسى: ”أعْطِ أذُن….“. هذه الأنشودَة هي في الحقيقة مَزمور؛ وهي أيضًا نَبَويَّة وهي قَصيدة على أنغام الموسيقى. يُعتبَر هذا المزمور مُهِمًا جدًا في تاريخ الشَعب اليهودي وفي الديانة اليهودية لدَرَجة أنه يُفرَد ويُتْلى في أوقات العِبادة والاحتِفال. هذه الفِكرة المُتَمَثِّلة في سَحْبِ مقطَع من الكتاب المقدَّس من سياقِه واستخدامِه كجُزء مُستقِلّ من الليتورجيا الدينيّة تَتِمّ أيضًا في المَسيحيَّة كما هو الحال (على سبيل المِثال) مع الصَلاة الرَبانية.
دعونا نَقرأ هذه التَرنيمة الطَويلة التي كَتبَها موسى قَبْل أيام قَليلة من موتِه. اقلِبوا أناجيلكُم إلى سِفْر التثنية الإصحاح اثنين وثلاثين.
اقرأوا سِفْر التثنية الإصحاح الثاني والثلاثين كُلَّه
إنّ لَهْجة هذا النَشيد مُثيرة للاهتمام؛ لم يُذكَر فيه عهود جَبَل سيناء أو عهود إبراهيم. يقول العَديد من نُقّاد الكتاب المقدَّس إنّ نَشيد موسى هذا مُصمَّم على كشُروط مُعاهدة سلام كما هو شائع بين دولة تابِعة ومَلِك إمبراطورية احتَلَّتْها. لكنّ المُصطلحات القانونيَّة المُعتادة للمُعاهدة والسِياق المُعتاد للمعاهدة غَير موجودة، وبالتالي مع عَدم وجود أي ذِكْر لأي عهد، فإنّ هذا الأمْر يُحدِث ثَغَرات في نَظريَّة معاهدة سوزراين. نَبْرة نشيد موسى أشْبَهُ بنَبرَة عَلاقة بين أب وابنِه المُتمرِّد. إنّ الفَرَضيّة هي أنّ يَهوَهْ قد خَلَق إسرائيل وعامَلَها بنِعمة عظيمة فوق كل مخلوقاتِه الأخرى؛ إسرائيل هو ابنُه البِكر الثمين وبالتالي هو مُلْزَم أخلاقياً بالرَدّ بالطاعة التي تَعكِس ولاءه (النابِع من امتنانِه).
تَقول الآية واحِد إنّ السَماوات والأرض ستَكونان شاهِدَتَين على وقائع القَضيَّة وعلى التُهَم التي سيُوجِّهُها يَهوَهْ إلى إسرائيل. يُشير مصطلَح ”السَماوات“ إلى السَماء والأشياء المُعَلَّقة فيها، وليسَ إلى مَسْكن الله الروحي، السماء. وكأشياء مَخلوقة لا يُطلَب من السَماوات والأرض أن تَفعل أي شيء سوى الاستِماع إلى لائحة الاتِّهام؛ ليسَ لها دور في مُعاقبة إسرائيل. نَجِد أنبياء من العُصور اللاحقة (مِثل إشعياء وإرميا) يَستحضِرون صورًا مُماثِلة للسماوات والأرض كشاهدَين على عدَم أمانة إسرائيل ليَهوَه.
بينَما أقرأ هذه القَصيدة الجَميلة والقويَّة تَذكَّرتُ العديد من المُحادثات التي أجريتُها (كما فَعَل معظم الآباء) مع أبنائي عندما واجهوا في سِنّ مُبكِرة مُشكِلة في اختيار ما هو صَحيح.، ودائمًا ما كنتُ أبدأ حديثَنا بطَريقة مُشابِهة لما قالَه موسى في الآية اثنان (وأنا أعيدُ صِياغة ما قلتُه): أرجو أن تَسمعني وترى أنّ قَصدي ليسَ إلاّ الخَير لَك، وإنّ ما أُقدِّمُه هو حِكمة كالمَطر ويمكِن أن تَلتقي إمّا بتُربة طيّبَة فتَشربُها فتُنتِج خَيرًا، وإمّا بِتُربة مُتحجِّرة تقاوِم الرُطوبة فتتدحرَج ضائعة وغَيرُ مرغوبٍ فيها. هذا النَشيد هو تَعبير عن الأمَل؛ الأمَل في أن تَستمِع إسرائيل إلى كَلِمات موسى وتُصغي إلى تلك الكَلِمات قَبْل أن يَحدُث المَحتوم. إنّه رَجاء أن تَستمِع إسرائيل وتتذكَّر كل ما فَعَلَه الرَبَ من أجلِها، وبالتالي لا تُخضِع نفسَها لغَضَب يتطلَّب عدالتَه ولكن لرَحْمتِه.
وفي الآية ثلاثة يوضِح موسى أنّ هذا النَشيد هو بإسم الله، وليسَ بإسم موسى، بل إنه ليس فِكرَتَه حتّى إنْ كان الناس سيَعطونَه فيما بَعْد عنوانًا يَحمِل اسمَه. ما يقدِّمُه النشيد لا يُعبِّر عن أفكار موسى، بل إرادة يَهوَه. إعلان اسم الله هو إعلان صِفات الله وشخصيَّتِه. الكَلِمة العبرية التي تَعني الاسم هي شيم؛ وكَم أتمنّى أن نَستعيد المَعنى الحقيقي لكَلِمة ”اسم“ في مُجتمعنا. فالاسم بالنسبة لنا لا يَعني أكثَرَ من مُجرَّد التَعريف البَسيط. الاسم الواحِد لا يَقُلّ أهميّة عن الآخرـ فبَعْضُ الأسماء اليوم ليسَت كَلِمات حقيقيَّة على الإطلاق؛ إنّها مُجرَّد مَجموعة من الحروف التي يُمكِن نطقُها. إنّ الاسم لا يَعني الكَثير في الثقافة الغربيَّة لدَرَجَة أنّنا عندما نتقدَّم بطَلَب للحصول على ائتمان، أو عندما يَتمّ فَحْص مَنْزِلنِا، فإنّ رَقْم الضمان الاجتماعي الخاصّ بنا هو دَليل على هويَّتِنا أكثر من اسْمِنا. لكنَّ المَعنى الحقيقي لكَلِمة ”الاسم“ يَتجاوَز مُجرَّد التَعريف، فالمَقصود به أن يُخبِر العالَم بصِفاتِنا وهويَّتِنا. إحدى ذِكرياتي المُبكرَة في طفولتي هي عندما قالتْ جدَّتي لأبي: ”أنتَ من آل برادفورد، تَصرَّف على هذا النَحو“. لقد كانت امرأة فَخورة بنفسِها عَمِلتْ بِجدّ من أجْل عائلتنا، في ظروف صَعبَة للغاية؛ لقد اكتَسبَت سُمعة طيّبَة في المُجتمع وأرادَت أن نَرتقي نَحن، إلى مُستوى تلك السُمعة؛ أرادَت أن نَرتقي إلى مُستوى اسمِنا.
يَقول موسى إنّ صِفات الله وسُمعتَه هي أنه صَخرة؛ أفعالُه هي الكَمال المُطلَق وأنّ كل ما يَفعلُه ويأمُر به عادِل. إنّه أمين بلا تَقصير؛ إنّه الحَقّ. في العِبريّة كَلِمة الصخرة هي تسور، مُعظمكم يتذكَّر الآن أنّ أحَد الأسماء (الصِفات) الرائعة ليَسوع هو "الصَخرة". نعم إنّ كَوْن الرَب صَخْرَتُنا هو مَبدأ من مَبادئ التوراة، ولم يَتِمّ اختراعُه في العَهد الجديد. إنّ تَسمية يسوع صَخْرَتَنا رَبَطَتْهُ بالله الآب في كلِّ عَقلٍ يهودي لأنّ الصَخرة كانت لَقبًا شائعًا ليَهوَه في ذلك العَصر. الإشارة إلى يَسوع على أنّه الصَخرة عرَّفَتْه بأنه الرَب المُتجسِّد، يَمشي بينَنا، وبالطَبع لم يكُن ذلك مَقبولاً لدى غالبيَّة الشَعب اليهودي. تسور كَلِمة مثيرة للاهتمام؛ وهي لا تَعني صَخرة مِثل الصَخرة التي قد نَرْكُلُها ونحن نَسير على الطريق ولا حتّى صَخرة قد تَقَع على جانِب الطريق أو تَنبثِق من جانب التَل. بل تَعني بشَكل أصَحّ جَرْفاً أو جَبَلاً. إنه مَكان مُرتفِع، راسِخ الجذور في الأرض ولكنَّه يَمتَدّ نحو السماء. تسور هو مكان راسِخ وثابِت ويُشرِف بِشكلٍ مُهيب على السهول والوِديان وأنهار المياه التي تَجري فيها.
إنّ الإشارَة إلى الرَب على أنّه تسور يَتناسَب أيضًا مع أوَّل اسم (صِفة) لله أَعلنَها للبَشَر في الكتاب المقدَّس: الشدّاي. الشادي، كما اتَّضَح، هي لَفظة لُغَوية مُتَرادِفة لكَلِمة أكادية وتَعني ”الجَبَل“. إل شداي تَعني إله الجبل، وهذا هو اسم الله الذي عَرَفَه يعقوب أوَّلاً. من هنا نرى العَلاقة الوثيقة بين هذين الاسمَين لله: تسور (جَبَل صَخري أو جَرْف صخري) وشاداي (جَبل).
آمَل أن تَفهموا صِفات الله كما وَرَدت في الآية أربعة: إنّها تَعريف المَحبَّة الإلهية. من وِجهَة نَظَر الله تُعرَّف محَبَّتُه كما هي مُوجَّهة إلينا بأنّها الكَمال، والعَدل، والأمانة، والحَق. لذلك بما أنّنا نحن موضوع مَحَبَّتِه؛ وبما أننا مَخلوقاتُه الخاصّة المَخلوقة على هذه الصورة، فإنَّه يتوقَّع مِنّا أن نُظهِر هذه الصِفات نفسهَا له في الطاعة: الكَمال، والعَدل، والأمانة، والصُدق، والحَق. إنّ فِعْل غير ذلك ليس مَحَبَّة لله، بل مَحبّة طُرُقِنا ورغباتِنا الخاصّة. مَحبَّة الله ليسَت أن يَكون لدينا شعور دافئ تجاهَه. مَحَبَّة الله ليسَت قيامَنا بأشياء لطَيفة تَجعلُنا نَشعُر بالرِضا عن أنفسِنا. مَحَبَّة الله ليَست أن نأتي إلى خِدْمة العِبادة ونُغَنّي بعض الترانيم ونَضَع بِضعة دولارات في السَلَّة. عندما نتفوَّه بالكَلِمات ونَقول لبعضِنا البعَض أنّ ”الله مَحبّة“ نَحتاج أن نتصوَّر ما يَعنيه ذلك عِند الله والمَعنى هو الكَمال والعَدْل والأمانة والحَقّ. هذه هي الصِفات التي عندما تؤخَذ معًا تُساوي مَحَبَّة الله تِجاهَنا لأنّها الله صِفات الأساسيّة.
دعوني أذكُر أيضًا أنّ كلّ صِفَة من هذه الصِفات الأربع تَستنِد إلى أنْظِمة يَهوَهْ المُقدّرة للكمال والعدل والأمانة والحَقّ. إنّ كمالَه وعدْلَه وأمانتَه وحَقَّه هي الّتي يَجري الحَديث عنها. لا يُمكننا أن نَختلِقها كما نَشاء؛ لا يُمكنُنا أن نَستبدِل تَعريفاتنا الحديثة بتعَريفات الكتاب المقدَّس ولا تَتغَيَّر التَعريفات مع تَطوَّر المُجتمعات. إذا فكَّرنا وتَصرَّفنا بخِلاف ذلك فهذا يُسمّى عِصيانًا والنتيجة هي ما يلي في الآية خمسة. هناك يَقول موسى أنّ أبناء الله لم يُظهِروا هذه الصِفات تِجاه يَهوَه، لذا فَهُم غَير مُستحقّين له. وبِعبارة أخرى، المُشكِلة لا تكمُن في الله بل في إسرائيل، فالمُشكِلة ليسَت في الرَب الفاسِد بل في أمَّة العبرانيين.
الآن يأتي دَور صَلْب القصيدة؛ فبَعدَ الحَثّ الأَبَوّي اللطيف على الانتِباه والاستِفادة من النَصيحة، يُطرَح السؤال: ”أهكذا تَرُدّون على الله“ على كل ما هو عليْه وكلّ ما فَعلَه من أجلِكُم؟ بعدَ كل شيء، كما تَقول الآية ستّة، هو أبوك الذي خَلَقَك. من الصَعب التَعبير عن هذا الادِّعاء الصادِم الذي تم تَوجيهُه. يقول موسى إنّ بَني إسرائيل يجِب أن يِكونوا ساذجين وإلاّ فلا معنى لأن يَعرِفوا ويُدرِكوا تماماً من ناحية أنّ يَهوَه قد خَلَقَهُم (كبشر) وأتى بهِم إلى الوجود (كشَعبِه المُختار، الفَريد في كل العالَم)، ومن ناحية أخرى يُعامِلون الرَب وكأنّه ليس أباهُم الخالِق بكلّ ما تَحمِلُه الكَلِمة من معنى.
ابتداءً من الآية سبعة، يُعرَض تاريخ بَرَكات الله على إسرائيل. هذه الكَلِمات القليلة الأولى لا تَطلُب من إسرائيل أن تَعود مئات السنين الضبابية إلى إبراهيم وإسحاق ويعقوب، بل إلى جيل واحِد فقَط إلى مَصر. يقول موسى اسألوا آباءكُم، إن كنتُم تَشُكّون فِيَّ اسألوا أولئك الذين اختبَروا بالفِعل تَخليص الله لِبَني إسرائيل من فَرعون وقيادتَهُم إلى الحُريَّة وتقديم العَهد لهم على جَبل سيناء. في الواقِع، يقول موسى، إنّ أساس ذلك الحَدَث الحديث نِسبيًّا (الخروج) يعَود إلى العصور القديمة عندما عَيَّن العَلّي للأُمَم أماكنَها (حدودَها الإقليميَّة) على الأرض؛ والشيوخ (وهُم رواة القِصص وحافِظو التقاليد وقادة إسرائيل) الذين يَجِب استشارتُهم في أمور الماضي البعيد. وِفْقًا لسِفْر التكوين قَسَّم الرَب الجِنس الواحِد الذي كان الجِنس البَشَري بعد الطوفان العَظيم (جِنْس واحد يَتكلَّم لغة واحِدة مُشتركة) إلى أُمَم كثيرة وشَتَّتَها على وَجه الكُرَة الأرضية (ما بَعد بُرج بابل).
يَقودنا هذا إلى الآية ثمانية، المُثيرة للاهتمام. نرى هنا بعض الكَلِمات التي تَمَّت مناقشتُها وتَغييرُها على مَرّ الزمن، أمّا إعادة مَعناها الأصلي فيَكْشِف بعض النَتائج الرائعة. اعتِمادًا على نُسخة الكتاب المقدَّس الخاصّة بك يمكِن أن تُلاحِظ بعض الكَلِمات المُختلفة جَذْريًا لهذه الآية مُقارنةً بالتَرجمات الأخرى. والاختِلاف له علاقة بمَصْدر التَرجمة المُعيَّنة التي يَستنِد إليها كتابُك المقدَّس. هذا لأنّ النَصّ الماسوريتي (نصوص الكتاب المقدَّس العِبري من القَرْن العاشر الميلادي)، والسَبعينية (نصوص الكتاب المقدَّس اليوناني من القَرن الأول أو الثاني الميلادي)، ومَخطوطات البَحْر المَيْت (من حوالي سنة مئة قبل الميلاد) كلُّها تُعامِل الآية ثمانية (وآية أخرى تأتي لاحقًا) بشكلٍ مُختلِف.
إليكَ جوهَر المسألة: تَقول الآية ثمانية في مُعظمَ النُسَخ بما في ذلك نُسخة الكتاب المقدي اليهودي إنّ الله قَسَّم الجِنس البشري وعَيَّن له حدود أُمَمِه ”بحَسَب بَني إسرائيل“ أو ”بحِسَب سكّان إسرائيل“ أو شيء من هذا القَبيل. تُشير الآية إلى أنّ الله خَلَق نفْس العَدَد من الأُمَم (بحُكْم التَعريف هي أُمَم غَير اليهود)، لأنّها كانَت من الإسرائيليين. بما أنّ سبعين أُمةّ من بَني إسرائيل نَزِلت إلى مصر مع يَعقوب، فإنّ سَبعين هو عَدَد الأُمَم التي خَلَقَها الله. من الواضِح الآن أنّ رواية خَلْق يَهوَه للأُمم بتَقسيم البَشَر إلى مَجموعات بَشَرية في الإصحاحين عشرة واحدا عشر من سِفْر التكوين حَدَثت قَبْل مئات السنين من وِلادة إبراهيم (أوَّل العبرانيين). فكَيفَ يُمكِن إذَنْ أن يكون الله قد استَخدَم عَدَد بَني إسرائيل لخَلْق أُمَم الأرض قَبل مئات السنين من وجود إسرائيل؟ هذه التَرجمة عن خَلْق الأُمم بحسَب عَدَد بني إسرائيل هي التي نَجدُها في النصوص الماسورية العِبرية. ولكن في الترجمة السَبعينية وفي مَخطوطات البحر المَيت نَجِد تَفسيرات مُختلِفة؛ في كِلَتا هاتَين التَرجمتَين تقول لو-ميسبار بني إلوهيم أي ”مُساوٍ لعَدَد الكائنات الإلهية“.
إذًا في مَخطوطات البَحر المَيت وفي السَبعينية نَجِدُ أن الله يُخصِّص الأمم ويَضَع حدود الإنسان بحَسَب عدَد الكائنات الإلهية، وليس بحسَب عدَد سُكّان إسرائيل. وبينَما خَصَّصَ يَهوَهْ تلك الأُمَم للكائنات الإلهية، فقد خَصَّص أيضًا إسرائيل لنفسِه. قد يَقول بعض الحاخامات إنّ التَرجمة الأفضَل هي ”مُساوٍ لعدَد أبناء الله“. ويَعترِف معظم عُلَماء اليَهود والمسيحيين حاليًا أنّ هذه القراءة كانت بالفِعل قراءة سِفْر التثنية الإصحاح اثنين وثلاثين الآية ثَمانية كما وَرَدت في التوراة على الأقَلّ في عَهد المسيح. وبما أنّ السبعينية الأصليَّة كُتِبت حتّى قَبْل ذلك بمئتي سنة، فإنّ الإشارَة إلى أنّ الأُمَم تَنقسِم حَسَب عدَد الكائنات الإلهية كانَت بالتأكيد هي الصِياغة الأصليَّة.
فماذا يَعني هذا؟ إذا كنت مُنتبِهًا، من الصَعب الالتِفاف حول مَفهوم أنّ الكتاب المقدَّس يُخبرُنا أنّ هناك كائنات إلهية أخرى تَحكُم كلّ أمَّة من أُمَم العالم (من وِجهة نَظَر روحية ولكن حَقيقية). ما هي الكائنات الإلهية التي نتحدَّث عنها هنا؟ مَلائكة؟
آلهة أخرى؟ شياطين؟ ماذا؟ ما يَزيد الأمور تَعقيدًا هو أنّ كَلِمة إلوهيم العِبرية هي في الوقتِ نفسِه لَقَب توراتي شَرْعي يُستخدَم للدلالة على إله إسرائيل، وهي تَعني أيضًا ”آلهة“. ونَجِد أيضًا هذا المَعنى مُستخدَمًا في الكتاب المقدَّس في سِياقات أخرى.
عندما نُدرِك أنّ النَصّ الماسوري العِبري كان المُفّضَّل للكتاب المقدَّس العِبري المُستخدم في العصور الوسطى، فمِن السَهل إلى حَدٍ ما فَهْم القَلَق الذي كان سيَشعُر به القادة الدينيّون اليَهود من إغراء تَفسير بني إلوهيم على أنه ”كائنات إلهية“، في سِفْر التثنية الإصحاح الثاني والثلاثين: الآية ثمانية على أنَّها آلهة أخرى. إنّ الاعتِراف حتّى بإمكانيَّة وجود آلهة أخرى من شأنِه أن يؤدّي إلى مَشاكل لاهوتيّة خَطيرة داخِل اليهودية، خاصةً أنّه كان من المَفاهيم الكِتابيّة الأساسية أنّ عِبادة ”الآلهة الأخرى“ هي التي كانَت دائمًا ما توقِع إسرائيل في المَشاكل وتُرسِلُها إلى المَنفى. وَمع ذلك، في العَديد من المواضِع في الكتاب المقدَّس، بالإضافَة إلى أنّ يَهوَهْ دَعا الآلهة الأخرى ”آلهة كاذبة“، فقَدْ اعتبَرَها أيضًا …. غَير موجودَة. هل كانَت هذه الآلهة والآلهة الكاذِبة هي نفسُها ”بَني إلوهيم“، أبناء الله، التي تُرجِمت أيضًا ”كائنات إلهية“؟ آمل أن ترى التَداعيات هنا بالنِسبة لنا جميعًا. هذه مَسألة شائكة للغاية؛ لذلك لا يُمكنُنا التهَرُّب من هذه المَسألة كما جَرَت العادة مُنذ حوالي ألف سنة. والسؤال إذَن هو: هل هناك بالفِعل كائنات إلهية أخرى (أبناء الله) خَصَّصَها الله للإشراف على الأُمَم الأخرى على الأرض، باستِثناء إسرائيل (الذي يَحتفِظ بها لنفسِه)؟ وإذا كان هناك، كائنات إلهية أخرى، من هي؟
حسنًا نَجِد بالفِعل نَفْسَ هذه العِبارة بني إلوهيم، أبناء الله مُستخدَمة في أماكِن أخرى في الكتاب المقدَّس العبري. ففي سِفْر أيوب واحد واثنان نرى ”أبناء الله“ كمَجموعة يَجِب أن تَمثُل من وقتٍ لآخر أمام الرَب لتُقدِّم تَقريرًا عما كُلِّفَت به على الأرض، حتّى أنّ أحَد هؤلاء ” بني إلوهيم“، أبناء الله، المَذكورون في أيوب قد أُعْطَوا اسمًا: إبليس. يُفسِّر في أيوب أنّ وَظيفة هذا الكائن الإلهي هي أن يَجوب الأرض ليرى ما يَفعلُه الناس من شرور ثمّ يَرفَع تقريرًا بذلك إلى يَهوَه ويُحاول إقناع الله باتِّخاذ نوعٍ من الإجراءات المُدمِّرة ضِدَّهُم؛ كان إبليس هو المُتَّهَم الرَسمي للبشرية.
ولكن هذا ليسَ كلَّ شيء؛ نَجِد نفسَ العبارة في المَزامير تسعة وعشرين وسبعة وتسعين. في سِفْر الخروج الإصحاح الخامس عشر الآية الحادية عشرة، يُطرَح علينا السؤال البَلاغي: ”مَنْ مِثْلُكَ يَا يَهوَهْ بين بَنِي إِلَوهيم؟ يُضفي سِفْر دانيال أيضًا مِصداقيّة على وجود هذه الكائنات الإلهية التي عَيَّنها الله على مُختلَف الأُمَم. اقلِبوا أناجيلكُم إلى الإصحاح عشرة من سِفْر دانيال.
اقرأ دانيال الإصحاح عشرة الآية أربعة إلى أربعةَ عَشرة
لدينا هنا ما يُوصَف بأنّه أمير (نَعرِف أنه أمير روحي من السِياق) يأتي إلى دانيال؛ ولكن هناك أمير روحي آخر كان مَسؤولاً عن بِلاد فارس، كان يُمسِك به. الطَريقة الوحيدة التي تَحَرَّرَ بها الكائن الإلهي الذي كان يَتحدَّث إلى دانيال كانت عندما جاء رئيس الأُمراء المُسمّى ميخائيل وسَاعدَه في مَعركتِه ضِدَّ أمير فارس.
لكن الأمر يَذهَب إلى أبعَد من ذلك. ارْجِع إلى دانيال الإصحاح عشرة.
اقرأ دانيال الإصحاح عشرة الآية تسعة عشرة – النِهاية
يا إلهي. الآن لدينا كائن إلهي آخَر، واحِد مَسؤول عن أمَّة اليونان، الذي سيأتي عندما يَترُك هذا البَني إلوهيم الآخر دانيال. والسَبب في أنّ كائن دانيال الإلهي سيُسرِع ويُغادِر هو أنّ عليه أن يَعود ويواصِل قِتالَه مع الكائن الإلهي لبِلاد فارِس (الذي، على ما أعتقِد، هي مُهِمَّتُه الحالية). وعلاوةً على ذلك، فإنّ المُساعدة الوحيدة التي سيَحصُل عليها (كما يقول) ستَأتيه من رئيس بني إلوهيم الذي يُدعى ميخائيل.
هناك القلَيل من الهُروب من حَقيقة أنّ الكتاب المقدَّس يَقول بشكلٍ مُباشَر إلى حدٍ ما أنّ هناك كائنات إلهية أخرى (أبناء الله)، بعضُها يَنتمي إلى المُعارضة وبعضُها في فَريق الله؛ وأنّ الله قد قَرَن هؤلاء البني إلوهيم مع كلّ أمَّة من الأُمَم التي خَلَقَها وأسَّسَها على الأرض.
دعني أكون صَريحًا: السَبب الذي يَجعلُك ترى هذا الأمر مُغطّى ويَتمّ تَجنُّبُه (خاصّةً هذا القِسْم الخاص ببني إلوهيم في سِفْر التثنية) هو أنّ اللاهوتيين اليَهود والأُمَمييّن ليسوا مُتأكِّدين تمامًا مما يجب فِعْله بهذا الأمْر. هناك خَوف حقيقي من أنّ جَماهير أتباع إله إسرائيل سَوفَ يُسيئون الفَهْم ويَرَون أبناء الله هؤلاء إمّا كَكائنات مَخلوقة ذاتيًا أو كَكائنات مُسْتَقِلَّة تمامًا، أو كآلهة حقيقية فِعليَّة يُشارُ إليها عادةً في الكتاب المقدَّس على أنّها ”آلهة زائفة“.
وعلاوةً على ذلك، إذا أخَذْنا الأمْر إلى أقصى الحُدود، يُمكِن أن يُضفي مِصداقيَّة زائفة على فِكرة أنّ كلّ أمَّة كان لها إلهُها الخاص (أو مَجموعة من الآلهة). لقد تَحدَّثْنا عن هذا قليلًا في دَرْس التوراة؛ لقد أخبرتُكُم كيف كان يُعتقَد بين القُدَماء أنّ لكلِّ أُمَّة آلهة فريدة وأنّ الآلهة كانت إقليمية؛ تَنتهي سُلطتُها عند حدود تلك الأمَّة. على سَبيل المِثال، كان لإله كَنعان سُلطة هناك ولكن لم تكُن له سُلطة في أي مكان آخر بشكلٍ عام.
إليك ما يُمكنُنا تفهمه بثِقَة: هناك كائنات إلهية أخرى ولديها نَوع من القوَّة الروحية والسَيطَرة على أُمَم الأرض. إنّها ليسَت كائنات إلهية مَخلوقة ذاتيًّا؛ إنها مَخلوقة من قِبَل يَهوَه ويَتحكَّم فيها. إنها تَخدُم غَرَضًا ما في خطَّتِه لتاريخ الفِداء. الشيطان، الخَصْم العظيم، هو أحَدُ تلك الكائنات الإلهية. لقد اقترَنَت بالأُمَم المُختلِفة التي خَلَقَها الله نتيجةً لبُرج بابِل، ولا يوجَد سَبب للاعتِقاد بأنّها لا تَزال سُلطتُها اليَوم موجودَة (وإن كان ذلك بإرادة الله). إنها ليسَت آلهة في الواقِع، ولكن في بعضِ الأحيان ربما كانت تُعبَد كآلهة (ويُظَنّ أنّها آلهة) على مَرّ التاريخ.
لماذا أذكُر هذا؟ لأنّه إذا كان أبناء الله بني إلوهيم، الأمَراء كما يُسمّيهم دانيال، مَوجودون بالفِعل ومُخصَّصون لشعوب هذا الكوكَب، فَمِن الأفضَل لنا كمؤمنين أن نَعرِف ذلك. ربما سيُساعدُنا ذلك على فَهْم ما يجري في عالَمِنا بشكلٍ أفضَل، والذي يَبدو لسَبَب غير مَفهوم أنّه يَخرُج عن السَيطرة؛ حيثُ يبدو أنّ الحِسّ السَليم قد اختَفى في قيادتِنا، وجُزْءٌ صَغير من العالَم يَقترِب من الله ومن إسرائيل لكنّ الجُزء الأكبَر يبتعِد عَنه وعن شعبِه.
لقد أخبرتُكُم قَبْل بضعة أسابيع أنّنا سنواجِه ألغازًا كَبيرة في هذه الإصحاحات القليلة الأخيرة من سِفْر التثنية؛ ألغازًا جَعلَت عُلماء الكتاب المقدَّس في حيرة من أمْرِهم لقرون. ألغازٌ جَعلَت العَديد من المُترجِمين يَتغاضون ببساطَةٍ عن أجزاء من التوراة وأجزاء أخرى من كَلِمة الله التي تَظهَر فيها هذه الألغاز، ويُدخِلون مَكانها أشياء لم تكُن موجودة أبدًا ولكنَّها تَتناسَب بشكلٍ أفضَل مع تَكهُّنات وعقائد بشرية قَديمة لا تُزعجُنا.
لِنَمْضِ قدمًا.
الآن بَعدَ أن فَهِمنا أنّ الله أعطى السُلطان على أُمَم الأرض الأخرى لكائنات روحية تابِعة له، ربّما يُمكنُنا أن نَفهَم بشكلٍ أفْضَل الامتياز العظيم الذي مَنحَه لإسرائيل بأنّ اخْتَصَّها لنفسِه. هذا القَرار جَعَل شعبَ إسرائيل مُختلفًا تلقائيًّا. هذا القَرار مَيَّز إسرائيل عن الآخرين. والتَفكير في أنّ بَعض قادة الكنيسة المُعادين لليَهود والكتاب المقدَّس أعلَنوا فيما بَعد أنّ الله قد تراجَع عن قرارِه وابتَكَر الكنيسة الأُمَميَّة لتَحُلّ مَحَلّ إسرائيل يُحيِّر العَقل.
لذلك عندما نَرى الكَلِمات القائلة بأنّ ”إسرائيل كانت نَصيب (أو حِصَّة) الرَب“، نعرِف الآن الإجابة على السؤال ”نَصيبَه من ماذا“؟ إنها نَصيبَه من الأُمَم التي أُعطي الباقي مِنها إلى كائنات إلهية (ولكن تَحتَ سُلطة الله). هنا، بالمُناسبة، نرى موسى يَدعو إسرائيل بـ ”يعقوب“. تذكَّروا أنّ الله غَيَّر اسم الأب يعَقوب إلى إسرائيل، وهَكذا شَكَّل أبناء يعقوب (بنو إسرائيل) الأمَّة التي سُمِّيَت باسم أبيهِم إسرائيل. في جميع أنحاء الكتاب المقدَّس سنَرى الاسمَيْن يعقوب وإسرائيل يَتناوبان.
تُذكِّر الآية عشرة إسرائيل بأنّ الله وَجدَهمُ في البَرِيَّة، أو بالأحرى في المَناطق الصَحراوية. في بَرِيَّة سيناء وشِبْه الجزيرة العَربية تاهَ بنو إسرائيل في البَراري وهناك حَصَلوا على العَهد مع الله الذي جَعلهُم شعبَه وجَعَل نفسَه إلهَهمُ. ومع ذلك، فإنّ التَرجمة المُعتادة بأن الله ”وجدَ“ إسرائيل في الصحراء تُخطئ الهَدَف. ”وَجَد“ تعني ”أوْجَد“ أو ”حافَظ“ والفِكرة هي أنّ يَهوَه كان يَحفَظ بني إسرائيل في البريَّة ويَسهَر عليهمِ بعِناية، ويَضمَن أمْنَهُم ونَجاتهُم. هذا يتَّفِق مع العبارات السابِقة عن أنّ الله هو أب إسرائيل، وفي الآيات العديدة التالية مع مُختلَف الرُسوم التَوضيحية والاستِعارات المُستخدَمة لوَصْف العِناية الحانية التي مَنَحها يَهوَهْ لشعبِه.
في الكَلِمات الأخيرة من الآية عشرة تَقول أنّ الرَب كان يَحرُس إسرائيل كما لو كان حَدقة عَينِه. في حين أنّ التَرجمة عن بؤبؤ عينِه ليست خاطئة، إلا أنَّها لا تَحمِل العُمْق الذي يُمكِن أن تَحمِلَه لو تُرجِمت تَرجمةً أكثر حَرْفيّة. أريدُك أن تَفعلَ شيئًا من أجلي.
التَفِت إلى الشَخص الذي بجانِبِك وانظُر عن كَثَب إلى حدقة عَين ذلك الشَخص، والآن أخبرني ماذا تَرى. اُنظُر إلى الجزء المُستدير في وَسَط العَين. ما ستَراه إذا نَظرتَ بعِناية فائقة هو صورَة صَغيرة لنفسِك تَنعكِس عليك كما لو كنت تَنظُر في مرآة. ما تَقوله هذه الآية حَرْفيًا هو أنّ الله حَمى إسرائيل مِثْل ”الإنسان الصغير“ في عينِه. الإنسان الصَغير هو انعِكاس الإنسان الذي يَنظُر إليه الله. لاحِظ كم كان عليك أن تقترِب من الشَخص الذي بجانبِك لتَرى ذلك ”الإنسان الصغير“، الذي هو أنتَ، في عينِه أو عينِها. هذه العِبارة في نِهاية الآية عشرة حَميمة جدًا. هل سَبَق لك أن جَلَسْت يومًا وحدَّقتَ بإعجاب في زوجتِك أو طفلِك الصغير أو حفيدِك (خاصةً عندما لا يَكونون على عِلْم بذلك)؛ تَستمتِع فقط بصورتِهم وتُفكِّر كيف أنك ستَفعَل أي شيء، لحمايتِهم؟ كما تَرون هذه الآية لا تتعلَّق بحِماية الله لبؤبؤ عينِه الحَسّاسة جدًا؛ بل تتعلَّق بحِماية الله للصورة التي في عينِه، وتلك الصورة، ذلك ”الإنسان الصغير“ الذي في عينِه، هو شَعبُه إسرائيل.
في الآية الحادية عشرة، يُستخدَم تَشبيه حَيّ آخر لوَصْف اهتِمام الله بشعبِه. الاستِعارة هي عن نِسر يُدرِّب صغارَه على الطيران. إنها تتحدَّث عن النِسر الذي يَحمِل الصغار على ظهرِه ويأخذُهم معَه إلى الأماكن المرتفعَة. لم يؤثِّر هذا الأمر فيَّ إلى أن صادَفْتُ شيئًا ساعدَني على فَهْم كيف تُدرِّب النسور صغارَها. لم أُدرِك من قَبل أنّ ما هو مَوصوف هنا في سِفْر التثنية الإصحاح الثاني والثلاثين هو في الواقِع حَرْفي وحَقيقي تمامًا في طبيعتِه. ولَعَلّ الأب الروحي لِعِلْم الطيور في أمريكا الشمالية (مُراقبة الطيور) هو آرثر كليفلاند بنت. كتب أ.س. بنت في أوائل القَرْن العشرين ما يَلي عن ملاحظتِه لِنِسْر يُعلِّم صغارَه الطيران. يُرجى الهدوء للحظة، اَغْمِضوا أعينَكُم إذا أردتُم، وانظروا إن كنتُم تَستطيعون تَصوُّر ما سأقتبسُه لكُم:
كانت الأم تَنطلِق من العِشّ في الصخور، وتُمسِك بالصغير بقوَّة، وتَسمَح له بالهبوط، عن ارتِفاع حوالي تسعين قدماً، ثمّ تَنقَضّ من تَحتِه باسِطةً جناحَيها، فيُحلِّق على ظَهرِها. كانت تُحلِّق معه إلى أعلى وتُكرِّر العَمليّة. انتظَرتُ ذات مرّة خَمس عشرة دقيقة بين الطَلعات الجَويَّة. يجِب أن أقول إنّ أبعَد مَسافة تَركَتْهُ يَسقُطُها كانت حوالي مائة وخمسين قَدمًا. شاهدتُه أنا ووالِدي مُندهشَين وهو يَفعَل ذلك لأكثَر من ساعَة.
يا للرَوعة. يا لها من صورَة. يأخُذ الرَب إسرائيل ويُعلِّمُها بنفْسِ الطريقة التي يُعلِّم بها النِسر صغارَه الطيران بمفردهمِ. لكنّ الطريقة الوَحيدة لتتعلَّم إسرائيل هي أن يأخُذَها إلى المُرتفعات ويُطلِقَها. في وقتٍ مُبكِر، سواء كان ذلك بسبب عَدَم الثِقة بالنفْس، أو عدَم الثِقة في الله، أو عدَم تعلُّمِها بعد تَعقيدات الطيران المُجنَّح، هَوَتْ إسرائيل ببساطة مباشرةً نحو الأرض الصَلبَة في دوّامَة المَوت. ولكن فَجأة، يَنقَضّ الرَب إلى الأسفَل، وفي لحظة خاطِفة يُمسِكُها الرَب على ظَهرِه. يَعود الرَب بإسرائيل إلى القِمَّة، ليُكرِّر العملية. أحيانًا كان تُمنَح إسرائيل وقتًا للراحة والتِقاط الأنفاس. ولكن عندما يُقرِّر الرَب أنّ الوَقت قد حان، يبدأ تَدريب الطَيران مرّة أخرى. يا له من صَبْر عظيم يُظهِرُه الرَب؛ لا يَهُمّ عدَد المرّات المَطلوبة أو المُدّة التي يَستغرقُها الأمر.
قد تَشعُر إسرائيل بالرُعب و(للحظات) بالوِحْدة والخروج عن السَيطرة؛ ولكن الرَب مَوجود، دائمًا، ليُمسِكَها على ظهرِه كما يُمسِك النِسر بصغارِه. والغَرَض من كلّ هذا هو أن يُعلِّمَ إسرائيل طُرُق الرَب؛ أن يُعلِّم إسرائيل كيفَ تُحلِّق فوق المُرتفعات. اجْعَل حياتَنا كذلك، يا الله، آمين.