سِفْر التثنية
الدرس خمسة وأربعون – تكملة الإصحاح اثنان وثلاثين
بدأنا في الأسبوع الماضي دراستنا لما يُسمّى بنَشيد موسى الذي يُشكِّل أساس سِفْر التثنية الإصحاح الثاني والثلاثين. هذا العَمَل عَميق جدًّا؛ إنّه يَشرَح مبادئ عمليَّة ونَبَوِيَّة، مَكشوفة وغامِضة. إنّه يشرَح الأمور في ازدواجيّة (أيّ من منظورَين مُتزامِنَيْن): مَنظور المَظاهر الأرضية الماديّة التي يُمكن للبَشر أن يَعرِفوها ويُحِسّوا بها ويَختبروها، ومَنظور المظاهِر السَماوية الروحية غير المَرئية وغير المَعروفة إلى حَدٍ كبير للبَشر.
الآيات واحِد إلى ثلاثة وأربعين هي في الواقِع تَرنيمة؛ إنها قَصيدة كان من المُقرَّر أن تُنشَد على أنغام الموسيقى وتُذكَرْ كأغنية لجَميع بَني إسرائيل. هذه هي التَرنيمة التي أمَرَ يَهوَهْ موسى أن يَكتبُها لتَكون شاهدًا ضِدَّ إسرائيل عندما، في الأَزْمِنة المُقبلِة، ستَبتعِد إسرائيل عن الله (وستُعاني النَكبة والنَفي من أرض الميعاد الغالية).
هذا النَشيد هو تَحذير ورَجاء وإدانة وطَريق لخَلاص شعبِ الله. وكما ناقشْنا مؤخّرًا، فقد كُتِبت قَبْل وقتٍ طويل من حدوث تَنبّؤاتها حتّى يَفهَم شعبَ إسرائيل تمامًا أنّ دمارَه ونَفيَه لم يكُن صُدفة أو قَدَرًا؛ ولم يكُن أيضًا لأنّ الله لم يَكن أمينًا مَعه أو أنه لم يكُن قادِرًا على الدفِاع عنه أو أنّ الأمم المُعادية التي أرادت أن تَغزو إسرائيل كانت أقوى أو كانت لها آلهة أقوى من يَهوَه. بل لأنّ إسرائيل تَخلَّت عن الرَب وما يحدُث لها هو جرّاء تدخُّلِه المُباشَر. إنّ إسرائيل تُعاني من غَضب الله الإلهي على الرّغم من أنّه ظاهريًا يبدو الأمر ذا صِلَةٍ بقَرارات شِرّيرَة من الأُمم المُحيطة.
اسمَحوا لي أن أشير أيضًا إلى أنّ الأُمَم (الأُمَم الوثنيّة) هي التي تُطلِق الشَرّ على إسرائيل وستَظَلّ دائمًا تَفعل ذلك. لقد سمِعتُ أنّ استِخدام الرَب للأُمَم لمُعاقبة إسرائيل هو دَليل في حدِّ ذاته على أنه يُقدِّر الأُمم (الكنيسة تَحديدًا) فوق إسرائيل؛ أو أنّ بقيّة العالَم قد وُضِعَت الآن على قدَم المساواة مع إسرائيل. في الواقِع كما سنَرى في هذه التَرنيمة، هو أنّ الطَبيعة الشرّيرة لهذه الأُمَم هي التي يُسخِّرُها الله لغَرَضه الخاص، وهذا الغرَض هو مُعاقبة شعبِه العبراني. المُفارقة غَنِيَّة: بما أنّ هذه الأُمَم شريرة بطبيعتِها، فإنّ الرَب بدورِه سيُعاقِب هذه الأُمم نفسها على شرورِها ومُعاملتِها الرَهيبة لإسرائيل.
هذا يقدِّم لي فُرصة مِثالية لشَرْح ما يحدُث اليوم مع إسرائيل والشَرق الأوسط؛ إنّه الله يعمَل على تَنفيذ خطَّتِه المُحدَّدة مُسبقًا والمُعلنة مُسبقًا للخَلاص. أَضْحَكُ (ضِحكةً شريرة قليلاً، على ما أفترِض) في كلِّ مرَّةٍ أُشاهِد فيها الأخبار التي لا حَصْر لها أو أسْمَع سياسيًا أو رَجُل دولة أو مُثقَّفًا يَشرَح سَبب الفوضى التي تَعُمّ الشرق الأوسط ولماذا ستَنجَح خطّتُه لإنقاذِه بينما لم تَنجَح أي خطّة أخرى. حتّى أنّ جزءًا لا بأس به من الكَنيسة يَختار ”العَمَل من أجل السلام والمُصالحة“ بين الإسرائيليين والفلسطينيين، والإسرائيليين والسوريين، والإسرائيليين والمصريين، والإسرائيليين والأردنيين، والإسرائيليين واللبنانيين، والإسرائيليين والسعوديين…… وما إلى ذلك. ولكن دائمًا ما يَكون الأمر يتعلَّق بالإسرائيليين والآخرين. لذا فإنّ الاعتِقاد السائد في جَميع أنحاء العالَم هو أنّ المُشكلة يجِب أن تَكون في اليهود، وبطريقَة مُختلفة تماماً عمّا يعتقدونَه هُم، فَهُم على حَقّ!
بالطَبع بالنسبة لهُم مُشكلة اليهود هي أنَّهم تجرأوا على التواجُد، وبالأخَصّ في المَكان الذي لا تريده هذه الأُمَم: الوَطن اليَهودي القديم إسرائيل.
لقد شاهدْنا كلّ نَوع من الخِطط التي تهدُف إلى إحلال السلام في المِنطقة تَتلاشى وتتحوَّل إلى مَذبحة في وقتٍ قَصير. وبطَبيعة الحال فإنّ خارِطة الطريق إلى السَلام التي وَضَعتْها الإدارة الرئاسية الأمريكية السابِقة لم تَصِل إلى أي مَكان، أمّا الإدارة الحالية فلدَيها خطَّة جديدة هي في الأساس إلقاء اللوم على إسرائيل في كلّ ما يحدُث وتَكوين صَداقات مع الأعداء الإسلامييّن الذين يُحيطون بإسرائيل. الوَضْع ليسَ في طريقِه للحَلّ، ولكنَّه مُختلِف عمّا كان عليه قَبْل خَمْس سنوات. كُلّْ خِطَّة للأُمم المُتَّحدة لتَقسيم إسرائيل أو التَخَلّي عن أرضِها أو التنازُل عن أمْنِها أو تقديم المَزيد من المُساعدات أو فَرْض إرادتِها عَسكَرياً أو كَسْب قلوب وعقول المُسلمين المُنقسمِين لإقناعِهم بأنّ السلام هو الخَيار الأفضَل، تترُك وراءها عدداً لا يُحصى من القتلى. إنّ كَلِمة ”مُستَعصٍ“ هي الكَلِمة الأكثر استِخدامًا لوَصْف الشَرْق الأوسط؛ وتأتي كَلِمة ”ميؤوس مِنه“ في المَرتبة الثانية، وربما تأتي كَلِمة ”جُنون“ في المَرتبة التالية.
خُلاصة القَول هي: خارج الإيمان بكَلِمة الله لا يوجَد سياق لفَهْم الشرق الأوسط. خارج الإيمان بيَهوَه الذي خَلَق الأُمَم وأقام عليها كائنات إلهية غامِضة بني إلوهيم، لكنَّه مَيَّز إسرائيل عن الأمم لنفسِه، لا توجَد طريقة لفَهمْ مَصدَر المُشكِلة وكيف ستَسير الأمور. إنه لَأَمْرٌ مُدهش أنّه مع مئات المليارات من الدولارات التي دُفِعت على المُشكلة، وملايينِ الأرواح التي ضُحّيَ بها ودُمِّرَت، وأفضَل العقول على وَجْه الأرض التي تمّ تَوظيفُها لوَضْع استراتيجية وصياغة حَلّ، فإنّ الشيء الوحيد الذي لن تَستشيرَه أي أمَّة (بما في ذلك إسرائيل) لإيجاد حَلّ هو كَلِمة الله الذي خَلَق الأُمم.
إنّ هذا النَمَط من رَفْض البَشَر لاستِشارة الخالِق في الأمور التي يتحكَّم فيها ويُحدِّدُها هُو وَحدُه هو نَمَط قديم، وعلى مَرّ التاريخ لم يُستثنَ أحد من هذه التَجربة؛ تَجربة يُحذِّر إله إسرائيل فيها إسرائيل لتَكون على وَعي بها وتَتجنَّبَها. هذا التَحذير موجود في نَشيد موسى.
لقد انتهَيْنا عند الآية الحادية عشرة الأسبوع الماضي. دَعونا نعيد قراءة سِفْر التثنية الثاني والثلاثين بدءًا من الآية الثانية عشرة.
أعِد قراءة سِفْر التثنية الثانية والثلاثين من الآية الثانية عشرة إلى – النِهاية
في هذه النِقطة بعدَ أن تحدَّث النَشيد بمَحَبَّة شديدة عن حِماية الله ورِعايتِه لإسرائيل، وهذا هو عَرَض الحُبّ الإلهي المذهِل الذي يَجعَل قرار إسرائيل عِبادة لآلهة أخرى أكثر فَظاعة، يُذكِّرُها الرَب أنّه هو الذي كان يُرشدُها منذ البِداية وبالتأكيد لم يكُن ذلك بمُساعدة إله آخر.
عن الكتاب المقدس اليهودي هوشع الإصحاح الثالث عشر الآية أربعة ومع ذلك أنا أدوناي إلهكم من أرْض مِصر، ولا تَعرفون إلهاً غَيري ولا تَعرفون مُخلِّصاً غيري. خمسة عَرفتُك في الصحراء، في أرض القَحط الشديد.
وبعِبارة أخرى، لا يوجَد سبب مَنطقي يَجعَل إسرائيل تُفكِّر حتّى في مساعدة مَصدر روحي بَديل؛ يجِب أن يكون مَجد خَلاص إسرائيل ليَهوَه، لأنّها بالتأكيد لم تَحصُل على أي مُساعَدة منّ أيٍّ من هذه الآلهة الأخرى حيثُ تَمّ إنقاذُها من مصر وَوَضعُها في أرض رائعة. تقول الآية ثلاثة عشرة أنّ يَهوَهْ هو الذي أقام إسرائيل على مُرتفعات الأرض (تُشير إلى المُرتفعات الوسطى في إسرائيل). كان يَهوَهْ هو الذي أعانَ إسرائيل وأعطاها كل ما تَحتاج إليه من أكثَر المَصادر غير المُحتمَلة مِثل العَسَل من الصُخور وزَيت الزيتون من شقوق الصُخور. كان يَهوَهْ هو الذي جَعَل قِطعان إسرائيل تَنمو وتُنتِج اللبن واللحم، وهو الذي أمَرَ الحقول أن تَفيض بأجوَد أنواع القَمح والخَمر الرغوي لشَعبِه. في الواقِع ما تقولُه هذه العِبارة عن الخَمر هو ”رَغوة دَم العِنَب“. فَدَم العِنَب هو تَعبير عن الخَمر. لا يُقارَن الخَمر بالدَم بأي حال من الأحوال ولا يَرمِز إلى الدَم؛ الخَمر للفَرح، والدَم للتَكفير.
الرغوة تؤكِّد فقط أنّ ما يَجري الحديث عنه هو الخَمر (الشراب الكُحولي)، وليس عَصير العِنَب المُباشَر، لأنّه عندما يتخمَّر العنب إلى خَمر فإنّ الوِعاء يَرغي ويَفور.
في الآية خمسة عشرة يتحوَّل التَركيز مرَّة أخرى؛ ويُترَك مَوضوع بَرَكة الله وعِنايتِه لإسرائيل، ويَتحدَّث النشيد بدلاً من ذلك عن عَدَم أمانة إسرائيل تِجاه هذا الإله الصالِح والخَيِّر.
لقد شَبِعَت إسرائيل وهي واثِقةٌ من نفسِها تمامًا، وتَشعُر أنها غير مُحْتاجة، ونَسيَت في وقتٍ من الأوقات أنّ مَصدَر كلّ ما هي فيه من شقاء وخَير هو الرَب الإله. ولكن بدَلاً من أن تَشكُرَه على وجودِها الرائع تَنسُب الفَضْل إلى الآلهة المُختلِفة التي يَسجُد لها جيرانُهُم (وكانت مألوفَةً في ذلك العَصر).
كَم مرَّةً سمِعنا عِظات وشارَكنا في دِراسات الكتاب المقدَّس حيث نواجِه هذه النَزعة المُدمِّرة لدى العبرانيين في تَقسيم ولائهم وَضَمّ آلهة أخرى؛ ونَهُزّ رؤوسَنا في اشمئزاز مُتَّفقين مع الأنبياء الذين يُخبرونَنا عن هذه الرَدَّة. كثيرًا ما يُقال لنا أنّ هذا هو سَبب تَخلّي الله عن شعبِه المُختار ورفضِه له وإعطائه ميراثَه للكَنيسة الأُمَميَّة. دعوني أضَع الأمور في نصابِها الصحيح؛ أوَّلاً الرَب الإله لم يَرفُض شعبَه بل أعطى اهتمامَه ونعمتَه للكَنيسة. ثانيًا نحن المؤمنون مُذنبون بشكلٍ عام تقريبًا بِفِعل نَفس الشيء الذي تُتّهَم به إسرائيل.
أليسَ كذلك؟ في كل مرَّة نُربِّت على ظهورِنا من أجْل حَظِّنا الجيّد؛ أو نَعزو الفَضِل إلى خُطَّتِنا التسَويقية المُمتازة أو مُنشآتنا الجديدة في نمو مَعبدِنا أو كنيستنا؛ أو كلَّما وَضَعنا رغباتِنا وتقاليدِنا الخاصّة قَبْل ما نعرف تمامًا أنّه طريق الله، فإنّنا نَقسُم ولاءاتنا ونُعطي الفَضْل والمَجد لآلهة أخرى.
إنّ الكَلِمة الغَريبة في بداية الآية الخامسة عشرة، يشورون، هي كَلِمة عِبريّة تَعني ”المستقيمون“؛ إنّها صِفة لإسرائيل. لقد تَرَكت إسرائيل خالِقها وابتَعَدت عن الصَخرة. لكن الكلمتَين الأخيرتَين من هذه الآية أكثر إثارة للاهتِمام، والتَرجمات تُغطّي على استِخدام رائع للُّغة العِبرية. ستَقول مُعظم الأناجيل كما تقول تَرجمتُنا عن الكِتاب المقدس اليهودي، ”ونَبَذَ (إسرائيل) صَخرة خلاصِه“ أو ”أدانَ (إسرائيل) صَخرة خلاصِه“. ما تَقوله في الواقِع في اللغة العبِرية الأصلية هو أنّ ”إسرائيل رَفَضت صَخرة يشوع“. هذا صَحيح: الكَلِمات ”خلاصِه“ (خلاص الله) هي بالعِبرية ”يشوع“، الاسم العِبري المُعطى لمَسيحنا المسيح. لو كانت الكَنيسة فقط على استِعداد لِفَهْم أنّ اسم ”يسوع“ ما هو إلا تَرجمة عَرَبية للاسم العِبري ”يشوع“، لأُضيفَ الكثير من المَعنى إلى مَقاطع الكتاب المقدَّس التي يَتِمُّ التَغاضي عنها إلى حَدٍ كَبير.
ومَع ذلك، عندما يَحدُث هذا الكَشف المذهِل وغَير المتوقَّع هنا في الآية الخامسة عَشرة (حيث تُدعى الصَخرة يَشوع)، تُفتَح عُلبةً كان الكثير من اللاهوتيّين سيُغلقونَها. ليس هناك شَكّ مُطلقاً في أنّ هذه إشارة إلى يَسوع المسيح، المَسيح يشوع، صَخرة خلاصِنا. عندما نتذكَّر أنّ المَوضوع يتحدَّث عن زَمَن مُستقبلي بَعيد عن زَمن سِفْر التثنية، يُقال لنا أنّ إسرائيل ستَرفُض بل وتَدين الخَلاص الذي يُقدِّمُه الله لها.
لقد ذَكرتُ عدَّة مرّات أنّ نبوءات الكتاب المقدَّس ليست عادةً أحداثًا تَحدُث مرَّة واحدة. لقد أدرَك عُلَماء الكتاب المقدَّس منذُ فترة طويلة أنّ مُعظم النبوءات تحدُث عِدّة مرّات. أبسَط مِثال على ذلك هو نَفي إسرائيل ليس مرَّة واحدة بل ثلاث مرّات. إنّ سقوط إسرائيل في عِبادة الأوثان، ثمّ القِيام بذلك مرَّةً أخرى أمْرٌ مَشهور. حتّى مَلحَمة نهاية الأزمِنة المُتمثِّلة في دخول (المَسيح الدَّجال) إلى الهَيكل المقدَّس ونَصْب صورة لنفسِه ومطالبتِه بأن يُعبَد، قد حدَثت بالفِعل في تاريخ إسرائيل؛ ولكنّها ستَحدُث أيضًا مرّة أخرى في وقت لاحِق. في المرَّة الأولى كان الوالي السوري أنطيوخس إبيفانيوس الأنطاكي حوالي سنة مئة وسبعة وستين قَبل الميلاد. استَولى جَيشُه على أورَشليم، ثم أقام نفسَه إلهاً في الهَيكل المقدَّس. نقرأ عن هذا الأمْر في أسفار المكابيين، ونَقرأ أيضًا كيف استَعاد الثُوّار اليَهود بقيادة يهوذا المكابي الهَيكل بعد بِضع سنوات وطهَّروه وأعادوا إضاءة الشَمْعدان الذَهبي. يتمّ الاحتفال بهذا الحَدَث بِعيد ديني اعتَرَف به حتّى المسيح (الهانوكا) وهذه الحقيقة مُسجَّلة في أناجيل العَهد الجديد. يُطلَق على الهانوكا أيضًا اسم عيد التَكريس (أو بالأحرى إعادة التكريس) لأنه كان يَدور حول إعادة تَكريس الهيكل لإله إسرائيل.
النُقطة المهمَّة هي أنّه في حين أنّ يَهوَهْ سيُخلِّص إسرائيل في عدَّة مُناسبات في القرون التالية، فإنّ يَشوع المُخلِّص سيكون تَجسيدًا آخر للنبوءة عن يشورون الوارِدة في نَشيد موسى. لذلك علينا أن نَنتبِه جيدًا لما سيأتي في الآيات التالية من الإصحاح الثاني والثلاثين لأنه من السَهل جدًا علينا نَحن المؤمنين في العَصر الحديث (البَعيدين جداً في الزَمَن عن وقتِ كتابة هذا النَشيد) أن نَنسى أنّه كما افتُدِينا نَحن بنِعمة الله بالفِعل، كذلك كان الأمر بالنِسبة لإسرائيل. لم يُكتَب هذا النَشيد أو يُقصَد به شعب لم يُفتدَ؛ كان الله يُخاطِب به الشَعب الذي افتداه من مِصر قَبْل أربعين سنة، وظَلّ مُفتدى. كان بَنو إسرائيل الذين سيَرتَدّون ويَبتعدون عن الله في السنوات القادِمة بَعدَ موت موسى (كما تَتنبّأت هذه التَرنيمة) جزءًا من المَفدِيّين. لذا أرجو أن تُدركوا أنّ هذه التَرنيمة لا تخاطِب الوثنيّين أو الباحثين؛ إنها تتحدَّث إلى مَفدِيّ الرَب. في الأزمِنة الماضية كانت مُوجهَّةً فقط إلى إسرائيل، ولكن كما أوضَحتُ لكُم، فإنّ الأنماط والمبادئ الكتابية لا تتغيَّر أبدًا. إذاً مُنذُ حوالي عام ثلاثين بَعد الميلاد، فإنّ مَفْدِيّ الرَب يَشملون كل تلاميذ يسوع، أنا وأنت.
تَبدأ الآية السادسة عشرة في شَرْح ما الذي يَعنيه بالضَبط مَفهوم ”التَخلّي عن الله“ بمزيد من التَفصيل ، تماماً كما حَصَلنا في بداية هذه التَرنيمة على بَعض التَفاصيل حول ما تَعنيه بالضَبط ”مَحبّة الله“ في نَظَر الله. إسمَحوا لي أن أقولَها مرَّة أخرى حتّى لا يَكون هناك خطأ: فقط أولئك الذين لديهِم الله يمكنُهم التَخلّي عن الله (لا يُمكنُك التَخلّي عن شيء لم يكُن لديك أبدًا).
الأُمَميّون والباحثون عن الله لا يُتهَّمون أبدًا بالتَخلّي عن الله لأنّهم لم يكُن لديهِم الله في المَقام الأول. أولئك الذين لديهِم الله هم المَفديّون. والخُطوة الأولى نحو التَخلّي عن الله هي إدخال ”الأشياء الغَريبة“ في حياتِنا: الأشياء التي لا مَكان لها في أسلوب حَياة المؤمن المُفتدى. هنا في الآية السادسة عشرة كانت الإشارة أكثر تَحديداً بشأن المُمارسات الثقافية العالَمية في تلك الفَترة، التي كانت تَشمل حَرْق البخور والصلاة للآلهة الأجنبية، أو امتِلاك أصنام خَشبية أو حَجَريّة؛ ولكن هذا ليس كل شيء. فهي تَقول أيضًا أنّ إسرائيل أغضبَتْه (أي أَغضَبَت الله) بالأرجاس. ما هو الرَجَس؟ الكَلِمة بالعبرية هي "توهيفا" وتَعني مُعاشرة أي شيء نَجِس غير عادي أخبَرَت التوراة بَني إسرائيل أنّه ليس لهُم. إنها تُشير إلى استِخدام الأطعِمة النَجِسة، والذبائح النجِسة، والنَشاط الجنسي النجِس، والاختِلاط غير اللائق بالبُذور أو الحيوانات، والاختِلاط غير اللائق بين خُيوط ثوب، والمِثلية الجِنسيّة، وما إلى ذلك. تَذكَّر أنه في سِفْر الخروج وسِفْر اللاويين على وَجه الخُصوص (وفي أسفار التوراة الأخرى أيضًا) كانت هناك خَطايا مُعيَّنة تُعتبَر سيئة للغاية في نَظَر يَهوَه، وقد وُصِفت هذه بأنها رَجاسة.
ويَمضي النَشيد لِيوضِح أنهم كانوا يُضَحّون أيضًا للشياطين والآلهة التي لم يَعرفوها، وحتّى الآلهة الجديدة التي جاءت حَديثًا (آلهة لم يُكرِّمها آباء إسرائيل وأجدادُهم). هذه ليسَت قائمة بمُصطلحات موازِية للآلهة الباطِلة؛ هذه قائمة بالأشياء الغَريبة التي قدَّمَت لها إسرائيل ذبائح خاطئة. أجِد القائمة مُفيدة للغاية لأنّها تتضمَّن عددًا من أنواع الآلهة (إنْ صَحّ التعبير). تَشمَل القائمة الشياطين، وهي بالتأكيد ليسَت من نَسْج خَيال الناس. مَوضوع الشياطين مَوضوع طويل ومُعقَّد ولن نتطرَّق إليه الآن. لكن اعْلَم أنّ هذه كيانات روحية حَقيقية تُعارِض الله بحُكم تَعريفها. إنّها كيانات روحية شريرة ونقرأ عن يشوع نفسِه وهو يتعامَل مع هذه الأرواح الشِرّيرة في أكثَر من مناسبة. حقًا، مَع ذلك، حتّى مُصطلح ”شيطان“ ليس صَحيحًا تمامًا هنا. الكَلِمة العبرية المُستخدَمة هي شيد وهي تُشير بشكلٍ عام إلى أرواح الموتى. سنَجِد إشارات في الكتاب المقدَّس إلى شيديم شيول، الأرواح من مَكان الموتى. أنا لا أقترِح أنّ هذا يُشير فقط إلى الأرواح الشِرّيرة على أنّها أرواح الموتى؛ ولكن الفِكرة هي أنّه بما أنّ المَوت هو أقصى دَرجات النَجاسة، فإنّ التعامُل مع روح الموتى هو أسوأ نَوع من الاقتِران مع كَيان شرير يُمكِن تخيُّلُه.
الآن دعوني أتوقَّف هنا للحظة فَقَط؛ إنّ مُمارسة استِشارة أرواح الموتى مُنتشِرة حاليًا وشائعة بما فيه الكِفاية لدَرَجةٍ أنّه لن يفاجئني إذا كان بَين أفراد العائلة هناك أحَد يَعتقِد أنّه من المُربِح الذهاب إلى وَسيط روحاني ومُحاولة الاتِّصال بِروح أحد أفراد العائلة الراحِلين. لدينا برامج تلفزيونية كامِلة، مُكرَّسة لأولئك الذين يَبذلون كل ما في وِسعهِم للتواصُل مع أرواح الموتى وبكلّ المقاييس يَنجَح البَعض في ذلك. هذا هو بالضَبط ما يَجري الحديث عنه هنا في الآية السابعة عشرة، وهو ليس مُضحِكًا ولا يَنبغي أن يقوم به المؤمِنون. لا تتورَّطوا أبداً في مِثل هذا الأَمِر لأنّ الرَب يَجدُه من بين أَسْوَء الأشياء التي يُمكِن أن تَفعلوها، وهو يَحسِبها كأنَّكم قد تَخَلَّيْتُم عنه لصالِح روح الموت تلك.
المُصطلَح التالي الذي نواجهُه هو ”غَير الآلهة“ ولكنَّ ترجمتَه الحَرْفية هي ”لا آلهة“ لو-إلوهيم. هذا يُشير إلى نَسْج خيال الناس الخَصْب (أو الميول الشريرة الخَصْبة). إنّهم يَعتقدون أنّهم يَتعاملون مع إله أو نَوع من الكائنات الروحية ولكنَّهم ليسوا كذلك؛ إنَّهم ببساطة يَخلِطون بين أفكارِهم المُنحرِفَة والواقِع. ثمّ هناك نوع من الكَيانات الروحية الّتي قد يَرتَدّ إليها العبرانيون ويَعبدونَها تُسمّى ”آلهة لم يَعرفوها قط“؛ هذه آلهة غَريبة لا عَلاقة لها بإسرائيل. وأخيراً، كما قال أحَد المُعَلِّقين، هناك نوع من الآلهة الحَديثة؛ أو إذا استَخدَمنا تَعبيراً أمريكياً عامّياً آلهة حديثة العَهد. لن أتَظاهَر بأنني أعرِف بشكلٍ قاطِع كل التَفاصيل الغامِضة التي تُحيط بهذه الكيانات الروحية التي هي حَقيقية، أو الخَيالات الروحية التي لا وجودَ لها في الواقِع. ولكن كما تَعلَّمنا من أيوب، ودانيال، ومَقاطع أخرى في الكِتاب المقدس، هناك كائنات روحية غامِضة بني إلوهيم وخَلَقها يَهوَه وَوَضَعها في موقِع السُلطة على مُختلف الأُمَم وممتلكاتِها من الأراضي المُرتبِطة بها. على الرّغم من أنها ليسَت كائنات مُستقلّة تمامًا، ولا هي مَخلوقة ذاتيًّا، إلا أنّه من الواضِح أنّ بعضَها قد انقلَب على الله ولا يُنفِّذ مشيئتَه. هناك الكثير من الأفكار التي تَعود إلى آلاف السنين بين الحُكماء العبرانيين بأنّ بعضَ هذه الكائنات الإلهية (الّتي لا بُدّ أنها كانت تتمتَّع بقوَّة هائلة) سَمَحتْ لنفسِها بأنْ تعتبِر نفسَها آلهة وأرادَت أن تُعبَد؛ وسيكَون من السَهل أن نرى كيف يُمكِن للوثنيين بشكلٍ خاص أن يَنْظُروا إلى ”أبناء الله“ هؤلاء على أنَّهم آلهة حَقيقييّن من دون اعتبارِهم كائنات روحية خاضِعة.
ومَع ذلك، هناك أيضًا إشارة ضِمْنِيَة إلى الإقليميَّة هنا، وبالطَبع نحنُ نَعلَم أنّه كان من الشائع بين القُدماء الاعتِقاد بأنّ جميع الآلهة كانت إقليميَّة؛ وقد قيل لنا صَراحةً في سِفْر التكوين أن الرَب وَضَع ”أبناء الله (بني إلوهيم) على مُختلفِ الأُمَم (الاستثناء الوَحيد هو إسرائيل). إذًا، في حين أنّ هذه الكائنات الإلهيّة ليسَت آلهة حقيقية بأيِّ حال من الأحوال، إلّا أنّها مَوجودة بالفِعل، وهي إقليميّة بحُكْم تَعريفها، وقد يَستغِلّ بَعضَها خُرافات الشعوب وميولَها الشريرة ويَسمَح لنفسِه بأن يُعبَد كآلهة. نَجِد العديد من الأمثلة في أسْفار العهد القديم والعَهد الجديد لملائكةٍ تُحذِّر الناس من عبادتِهم (على الرُّغم من أنّ مَظهرهُم وقواهُم لا بُدّ أن تَكون رائعة). حتّى الحواريّون حَذَّروا من فِعل الشيء نفسِه تجاهَهم بعد أن قاموا بمُعجزةٍ ما وَسَقَط الناس غريزيًا أمامَهم مَغلوبين على أمْرِهم. لذا فإنّ التَفكير في أنّ أحَد ”أبناء الله“ هؤلاء الذين ترأّسوا أُمَّةً أو أخرى فَضَّل أن يُعتبَر إله لتلك الأُمّة، بدلاً من أن يَكون عَبْداً للرَب، ليس أمراً مُستبعَداً.
ثمّ يَعود النَشيد في الآية الثامنة عشرة ليَتَّهِم بني إسرائيل بأمرٍ غير طبيعيّ: أنَّهم نَسَوا ذاك الذي أعطاهم الحياة. هو الصَخرة التي خَلَقتهُم، والصَخرة التي أتَتْ بهِم إلى أرض الميعاد. هي تتحدَّث عن الله الذي أنجَبَهم، ولكنّها تتحدَّث أيضًا عن الله الذي وَلَدهُم. إنه يَجعَل الله أمَّ إسرائيل وأباها. هل يمكنكَ أن تَنسى من هُما والداك اللذان وَلَداك؟ أيمكنكَ أن تتخيَّل أن تَرفُضَهما تمامًا وتُعطي الفَضْل في وجودِك لشَخصٍ آخر؟ لذلك بالإضافة إلى كل شيء آخر فَعَلَته إسرائيل هذا يَعني أنّ بني إسرائيل يُخالِفون أيضًا الوَصيّة بإكرام أبيهِم وأمِّهِم (أي من وِجهة نَظَر روحية هو يَهوَه). وتذكَّر أنّ عُقوبة إهانة الوالدين هي الأشَدّ: المَوت.
وهكذا يَبدأ قُسْم من نشيد موسى بأفظَع الآثار؛ إنه يتحدَّث عن شَعبٍ مُفتدى اتَّخذ قرارًا بالتَخَلّي عن فاديه، وَرَدًّا على ذلك يُقَرِّرُ الله أن يُسَلِّمَه إلى الشَرّ. دَعوني أصيغُ ذلك بعِبارات أكثَر حداثة: أن يبتعِد عن خلاصِه. واسمَحوا لي أن أكون واضِحًا جدًا؛ هذا الخَلاص كان له بالفِعل، وكان يتمتَّع به. المُشكلة هي أنّه في خِضَمّ خلاصِه قرَّر أن يُشارِك في الرَجَس. فبالإضافة إلى اتِّحادِه مع الله أدخَلَ نفسَه في اتّحاد مع الأشياء الشريرة النَجِسة. هل ظَنَّ بصُدْق أنّ الله سيَبقى في اتِّحاد مَعه في ظِّل هذه الظروف؟ يَبدو ذلك. وكَم منّا يَعتقِد بأمانةٍ أننا نَستطيع أن نُصلّي صلاة الخَلاص، ونَدعو باسم يسوع، ثمّ نُشارِك في كل أنواع الرجاسات؛ وأننا نَستطيع أن نتَّحد مع كل أنواع الأشياء النَجِسة التي نعرِف أنّه لا يَنبغي لنا أن نفعَلهَا وأنّ الرَب سيَغمِز ويَغُضَّ الطَرْف. عن الكتاب المقدس اليهودي متّى الإصحاح سبعة الآية اثنين وعشرين فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ سَيَقُولُ لِي كَثِيرُونَ: ”يَا سَيِّدُ، يَا سَيِّدُ! أَلَمْ نَتَنَبَّأْ بِاسْمِكَ؟ أَلَمْ نَطْرُدِ الشَّيَاطِينَ بِاسْمِكَ؟ أَلَمْ نَصْنَعْ مُعْجِزَاتٍ كَثِيرَةً بِاسْمِكَ؟ ثلاثة وعشرين حِينَئِذٍ أَقُولُ لَهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ: مَا عَرَفْتُكُمْ! ابتعِدوا عني يا عامِلي الإثم! “
تَقول الآية التاسعة عشرة: ”لأَنِّي بِتَرْكِي أَزْدَرِي بَنِيَّ وَبَنَاتِي، يَقُولُ الآبُ. سأخفي وَجهي عنهُم. الوَجْه هو بانيم بالعِبرية، وهو لَفظة اصطلاحيّة تَعني ”الحُضور“. سوف يُخفي الله حضورَه عن شعبِه. أينَ وَجه الله (حضوره) في شعبِه اليوم؟ لقد قيل لنا أنّ حُضور الله الذي معنا هو روخ هاكودش، الروح القُدُس. إذا كان الروح القدُس فينا، فإنّ الله حاضِر معنا بحُكم التَعريف. إذا لم يكُن الروح القدُس حاضِرًا فينا، فبالتَعريف الله ليس حاضِرًا معنا ويَقول هنا: وقد أزَلتُ حضوري من شَعبي لنرى ماذا سيَحدُث لهُم. هذه عبارةٍ َلاغية بالطَبع (من الواضِح أنّ الله يَعلَم ما سيحدُث). تَعني أنّه بما أنّ هؤلاء الناس يَعتقدون أنَّهم يَعرفون الكثير، ويَعتقدون أنّ كلّ بركاتِهم قد أتَت من مَصدر آخر على أي حال، فستَكون صَدْمَة كبيرة لهُم عندما يَتمّ سَحْب حضور الله وحمايتِه وبَرَكاتِه التي أصبَحَت من المُسلَّمات لدَرجة أنّها أصبَحَت الآن بلا قيمة بالنِسبة لهُم. وبالطَبع هذا النَمط نَفْسُه والفِكرة نفسُها يتمّ التَعبير عنها بشكلٍ جيّد في آيات العَهد الجديد التي قرأتُها للتوّ في إنجيل مَتّى سَبعة حيثُ يَسمَع الناس المَصدومون تمامًا (الذين كانوا في أذهانِهم مؤمنين آمِنين وسَليمين) يشوع يَقول لهُم أنه على الرّغم من حَقيقة أنّهم أعلَنوا عَلانية أنّه هو الَمسيح، بل واستَدعوا اسمَه للقيام ببعض الأعمال، إلاّ أنّهم كانوا في الواقِع ”عامِلين بالإثم“ (لم يَتبعوا نواميس الله) ولذلك تبرّأ مِنهُم يشوع. دَعوني أكون واضِحًا: هؤلاء الناس ظَنّوا أنّ بإمكانِهم الصَلاة والتَحدُّث بالكلام، والعَيش بين جَماعة المؤمنين، ولكن بَعد ذلك يَسيرون كما يَحلو لهُم دون أي اعتِبار لوصايا الله (وهذا هو مَعنى عدَم احتِرام الناموس بالطَبع). وكما رأينا سابقًا فإنّ مِثل هذا الأمر يَعتبِرُه الله تَرْكًا له. يا قوم، هذه ليسَت استِعارة؛ كما أنّها ليس من قواعِدي، بل هي ما يَقوله الكتاب المقدَّس. لا يَهُمّ يَهوَهْ عدَم اعتقادِنا أننا تَخلَّينا عَنه عندما أضَفْنا هذه الأشياء الشرّيرة إلى حياتِنا، وعِندما قرَّرنا أن نَتَّحِد مع الأشياء النَجِسة التي أعلنَها مُحرَّمة علينا. الرَب هو الذي يَضَع التَعاريف والحدود؛ إنها ليسَت مسألة تفاوُض. الحُريّة عند الرَب ليست حريّة أن نَعصيه أو أن نَجعَل حضورَه (الذي يسكُن فينا) يتَّصِل بالخطيئة والدَنَس. يتحدَّث بولُس الرسول مرارًا وتَكرارًا عن هذا الأمْر.
نَتيجة لغِياب أمانة إسرائيل ليَهوَه، قرَّر الله أن يؤدِّب إسرائيل بإزالة حِمايتِه ثمّ تَعريضِها لهُجوم الأعداء وكلّ أنواع الكوارِث الطبيعية. يَعْكُس الرَب بروتوكول الحَرْب المقدَّسة فبَدَلاً من أن تُهاجِم إسرائيل وتنتصِر و يمهِّد لها الله الطَريق، ستُهاجَم وتَخسَر وبدلَاً من أن تُقيم في أمان وسَلام في أرض راحتِها، ستُعاد إسرائيل إلى أرض عبوديَّتِها تحت سُلطة سَيّدٍ قاسٍ.
الآية واحِد وعشرون تَتَلاعَب بالألفاظ لتَوضيح وِجهة نَظَر فهي تَقول إنّه بما أنّ إسرائيل أغاظَت الله (أثارَت غيرتَه) بتَخَلِّيها عَنه وتَحويل عواطِفها إلى لو– ألوهيم (غَير الآلهة)، فإنه سيُغيظُها الآن بإزالة وجودِه وتَحويلِها إلى لو- أمّي (غير شعب). بعِبارة أخرى، سيُعاقِب الله إسرائيل بالمِثل. الآلهة التي لجأت إليها إسرائيل لم تكُن كائنات روحية مُخلِصة ليَهوَه، لذلك سيُسَلِّم إسرائيل إلى شَعب قاهِر غير مُخلِص ليَهوَه. ربما يُفهَم مصطلح ”غَير شَعب“ بشَكل أفضَل في لُغَتِنا العامية الحديثة بقولِنا غَير شَعبي أي الأُمَم، خاصَةً في ذلك العَصر. كان (الشَعب) هُم بَنُو إسرائيل، بينما كان الأُمييّن (غير الشَعب) هُم الكلّ عَداهُم. إذَن ليس بالضَرورة أن تَكون أُمَّة بعينِها (مِثل أُمَم أدوم أو كنعان أو الحثيين) هي التي يُشار إليها على أنَّها غَير الشعب المَعني، بل الأُمَم بشكلٍ عام.
في كِتابات الأنبياء من قرون لاحِقة نقرأ عن هذا التَحذير النَبَوي الذي تحقَّق أخيرًا. اقلِبوا أناجيلكُم إلى سِفْر هوشَع. سنَقضي بِضْع دقائق فقط اليوم في دراستِه.
اقرأ هوشع الإصحاح واحد الآية واحد والإصحاح اثنان الآية ثلاثة
عاشَ هوشَع وكَتَب خلال مُنتصَف القَرْن الثامن قبل الميلاد. كانت إسرائيل أُمَّةً مُنقسِمة (منذ وفاة المَلِك سليمان) لحَوالي مئة وخمسة وسبعين إلى مئتي سَنة. كانت هناك مَملكتان تَعيش فيهِما أسباط إسرائيل، المَملكة الشمالية والمَملكة الجنوبية. تُطلِق على المملكة الشمالية مُعظم الأناجيل اسم ”إسرائيل“، على الرّغم من أنّ هذا الأمْر بَعيد عن الحقيقة. كانت تُسمّى في الواقِع إفرايم أو إفرايم-إسرائيل لأنّ عَشَرة أسباط من بَني إسرائيل كانوا يَعيشون هناك وكان إفرايم هو الحاكِم. كانت المَملكة الجنوبية تُدعى يَهوذا بسبَب السِبطَين اللذين كانا يَعيشان هناك (بنيامين ويهوذا)؛ كانت يَهوذا هي القبيلة الحاكِمة الأكبَر والأكثَر قوَّة.
كانت أفرايم-إسرائيل مِنطَقَة كوارِث سياسيَّة؛ فقد كانت تَشمَل سِلسلة كامِلة من الملوك الأشرار الذين قادوا الشَعب إلى كل أنواع الرَدَّة. حتّى أنّهم وَصَلوا إلى النُقطة التي (كما هو الحال مع إسرائيل اليَوم) حيثُ كان جزء لا بأس به من السُكّان (وقيادتِهم) يَرغبون في ألاّ يَكونوا شَعبًا مُخصَّصًا لله، بل أن يَكونوا شَعبًا يُشْبِه ويتصرَّف مِثل جيرانِهِ إلى حَدٍ كَبير. كانت يهوذا أفضَل باعتِدال فقط؛ فعلى الأقَلّ استَمرَّت سُلالة داود في الحُكم، وبشكلٍ عام أظهَر يهوذا رَغبَة في الحِفاظ على لقبِه كشَعب الله (على الرّغم من تَردُّدِه المُستمِرّ إلى مناحي عِبادة الأصنام).
كان هوشَع يُحذِّر الشَعب العبِراني (وتَحديدًا مملكة الشمال) من أنّ الرَب سيُحقِّق أخيرًا ما هدَّد به في نَشيد موسى. ومن المؤكَّد أننا نرى في سِفْر هوشع هذا التَوضيح ذات الصِلَة بإنزال غَضَبِه على أفرايم-إسرائيل، والذي تمّ تَجسيدُه مجازًا في تعليماتِه لنبيِّه هوشع بأنْ يَتزوَّج من عاهِرة (وهذا يُساوي بالنسبة لله الاتِّحاد الشَبيه بالزواج بين أفرايم-إسرائيل الذي كان يَلعَب دور العاهِرة مع جارِه الوثَني، العَشيق غير الشَرعي). ثمّ تُنجِب زوجة هوشع العاهِرة هذه ثلاثة أولاد: يزرائيل بمَعنى يَزرَع الله، لو– رخمة بمَعنى لا رَحمة، ولو- عمي بمَعنى ليسَ شَعبي. والفِكرة هي أنّ الله يَقول في نَشيد موسى أنّ زِنى إسرائيل سيؤدّي إلى أنْ يزرَع الله البَلاء بين إسرائيل (يزرعيل) وأنّه لن يَرحَم شعبَه لو–روشاما وسيَتحوَّل أفرايم-إسرائيل إلى غَير شَعب ممّا يؤدّي إلى أن يُصبِح لو–عمي مع مرور الوَقت. وبِعبارة أخرى سيَفقِد هويّتَه كشَعب الله نتيجَةً لمُعاشرته لغَير شَعب. بالطَبع دَرَسنا للتوّ مَصدر الحُكم في نشَيد موسى في سِفْر التثنية الثاني وثلاثين. إنّ الرَب يُحوِّل أفرايم-إسرائيل إلى غَير شَعب بحيثُ يُصبِح أعضاء أفرايم-إسرائيل أيضًا لو-عمي (غَير شعب) لأنّهم انصَهَروا في الوَسَط الأمَمي للإمبراطورية الآشوريَّة.
ولكِن في سِفْر هوشع الإصحاح الثاني (كما سنَرى لاحِقًا في نَشيد موسى)، من أجلِ حِماية اسمِه القّدوس (أي سُمعتِه) سيَرحَم يَهوَهْ أفرايم-إسرائيل، وفي النهاية سيَدعوه مرَّة أخرى عمي شَعبي، وروشاما (مُشْفِقًا عليه، مُعطيًا إيّاه الرَحمة)؛ فيَعود له فداءه.
دعونا نَعود إلى سِفْر التثنية الثاني وثلاثين ونَنتهي اليَوم.
لدَينا الآن إشارة مُذهلة أخرى لا تُخطئها العَين؛ تَقول الآية الثانية والعشرين أنّ ناراً قد اشتَعلت من غَضَب الله وأنّ هذه النار ستَشتعِل إلى أعماق شيول، إلى أسفَل أحشاء الأرْض، حتّى تحت قاع الجِبال والتِلال. شيول هو العالَم السُفلي؛ إنه القَبِر، ما يأتي من الجَسَد و/أو الروح بمجرَّد مَوت الإنسان ودَفْنِه. مَعنى ذلك أنّ كل الذين أدارَ الله لهُم (في هذه الحالة إسرائيل) سيُرسَلون إلى قَبرٍ (شيول) مَليء بالنار التي جاءت من غَضَبِه. يجِب أن تَكون صورَة العالَم السُفلي المليء بالنار مألوفةً لنا جَميعًا.
لكن هل فكَّرتَ يومًا من أينَ أتَت نيران الجَحيم؟ من الذي أشْعَل النار؟ من الذي يُبقيها مُشتعِلة؟ ما هو الغَرَض من تِلك النار؟ إنّ جُهنَّم مكان للعذاب، وقد يَكون الشَيطان وشياطينُه مَنفيّين هناك لبَعض الوَقت، لكنَّه ليس نادِيًا لهُم؛ إنّهم يَكرهونَه. إنَّهم يريدون أن يَسكنوا الجَنّة. إنّ الله هو الذي طَرَد إبليس وجَحافلَه المُتمرِّدة من السماء، والله هو الذي أوقَد نيران جُهنَّم، وهذه النيران هي مَظهر مادي لغَضَبِه الروحي. يوقِد الرَب الإله القدير نيران جُهنَّم تمامًا كما جاء هنا في سِفْر التثنية. والغرَض من النار هو إهلاك المَوتى الآثمين، وحتّى عالَم الأرواح الآثم في نهاية المَطاف. النار هي للهلاك الأبَدي.
سنُكمِل نشيد موسى الأسبوع القادِم.