سِفر التثنية
الدرس السادس والأربعين – الإصْحاح إثنان وثلاثين – تابع إثنين
لطالما كان الهدف الرَّئيسي لِدَرس التَّوْراة هو إظْهار أن العهد القديم ليس مُلْغيًا أو غير ذي صِلة، بل هو حيّ وأساسي لِفَهْمنا لله ومُخَطَّطه، ومُعاصِر لِزَمَننا. لا يوجد قِسْم من التَّوْراة يُجَسِّد هذا المَبْدأ أفضل من نَشيد موسى هنا في الإصْحاح إثنين وثلاثين من سِفْر التثنية. لذلك سوف نَسْتمرّ بِبِطْءٍ وبِشَكْلٍ شامِل من خلال هذا القِسْم القصير من سِفر التثنية الذي سمّاه بعض عُلَماء الكِتاب المُقَدَّس شريعة داخل شريعة، فهو مَلِيء بالمعاني والتَّعْليمات والقيمة اللّاهوتِيَّة. يُتيح لي هذا أيضًا وَقتًا لاسْتِخْلاص بعض المبادئ الإلَهية التي تَعَلَّمناها خلال مَسيرتنا.
لقد تَعَلَّمنا خلال الوقت الذي قَضَيْناه معًا أن كل شرائع التَّوْراة وأوامِرها تَرْتَكِز على أساس الوصايا العَشَر، وأن الوصايا العَشَر أساسَها التَّعليم الأساسي أن نُحِبّ يَهْوَهْ إلَهنا بكل عُقولنا ونُفوسنا وقُوَّتنا، وأن نُحِبَّ قَريبنا كما نُحِبّ أنْفُسْنا. وبالطَّريقة نَفْسها، فإن خِطَّة الله الهائلة والمُعَقَّدة (والمُبْهَمَة من نَواحٍ كثيرة) لفِداء البَشَريَّة تقوم على نِظام عَدْله. ونِظام عدله يتلخَّص في اللَّعْنات من ناحية والبَرَكات من ناحية أخرى؛ لَعَنات لأولئك الَّذين يَكْرَهونه ويَعْصونه، وبَرَكات لأولئك الَّذين يُحِبّونه ويُطيعونه. يُشَكِّل نِظام عدالة الله أساس ما يَعْتَمِد عليه كل مؤمِن في خلاصِنا. عندما ذهب يسوع المسيح إلى مَوْته كان ذلك حتى يُرْضى نِظام عدالة الله، وهذا هو نِظام العدالة نَفْسه الذي يَظْهر في نَشيد موسى.
دَعونا نَسْتَجْمِع قِوانا قبل أن نَمْضي قُدُمًا بأن نَتَذكَّر أن نَشيد موسى هذا سيَقِف شاهدًا على بني إسرائيل إلى الأبد. هذا النَشيد القويّ الذي يتحدَّث عن غَضَب الله ورَحْمَته ليس مَرْسومًا مؤقتًا أو زائلًا يَسِنُّه الرَّب. لكن الكنيسة الحديثة لا تَعرف إلا القليل عن مَضْمون أو معنى هذا النَشيد لأنها نَأت بِنَفْسها عن بني إسرائيل والتَّوْراة لأكثر من ألف وثمانمئة سنة، رافِضةً أن تأخُذ شرائعَ الله وأوامِره على مَحْمَل الجَدّ، وفي النهاية مَحو بني إسرائيل والشَّريعة من أفْكارنا ولاهوتنا. وهكذا نَميل إلى رَفْض هذا النَشيد النَبَوي لِموسى على أنه ليس لنا أو على الأقل كان لِتَدْبيرٍ ماضٍ. وهذه العَقْلية هي في المقام الأول نتيجة لِنَظَر المسيحيّة إلى أي نطق كِتابي إلَهي على بني إسرائيل واعْتِقادهم أنه إذا كان النُّطق لعنة فإن بني إسرائيل وحدهم يَتحمّلون تلك اللَّعنة، وإذا كان نِطقًا للبَرَكة فإن الكنيسة قد اسْتَوْلَت على تلك البَرَكة بَدَلًا من بني إسرائيل.
لقد دَرَسْنا العديد من إصْحاحات العهد الجديد التي لا تَرْفض مثل هذه العقيدة الخاطِئة والضّارَة فَحَسب لإنما كما هو الحال مع رومية إحدى عشر نَجِد أن الطريق الوحيد المتاح للأُمَمِيِّين لكي يُصْبِحوا جِزْءًا ممّا يُسَمّى ”كنيسة“ يسوع المَزْعومة هو أن يُصْبِحوا أساسًا ما يُسَمّيه الرسول بولُس بني إسرائيل الرّوحيين أو الحَقيقيّين ليس بَدَلًا من بني إسرائيل المادّيين الأرضيِّين (يهود اليوم) ولكن إلى جانب بني إسرائيل الجَسَديين الأرضيّين. علاوة على ذلك، فإن الاسْتِعارة في الكِتاب المُقَدَّس المعروفة جيدًا عن تَطْعيم غصْن من شجرة أخرى ولكن مُشابهة (الأُمَمِيّين) للشجرة الأصليَّة (بني إسرائيل) تُستخدَم لإظهار هذا التَّحَوُّل الرّوحي الذي يَمُرّ به الإنسان عندما يَخْتار أن يَتْبَع المسيح ويَقْبل خَلاصه كلّه كَإتمام لعهود الله لبني إسرائيل ولبني إسرائيل وحدهم.
إليكم الأمْر: طِوال دِراستنا منذ سِفْر التَّكوين واحد على واحد لقد صِغْتُ واسْتَخْدَمتُ مُصْطَلَح ”حقيقة الإزْدِواجيَّة“ لأوضِحَ (قَدَر اسْتِطاعَتي) هذه العلاقة الغامِضة والتَّوازي بين العالَم الرّوحي والعالَم المادّي، السَّماوي والأرضي، المَلْموس وغير المَلْموس، المَرْئي وغير المَرْئي. هذا التَّوازي في مُقَدَّمة نَشيد موسى. من نَظْرةٍ أوْسع، ما نَجِده هو أن التاريخ المادّي ومُخَطَّط الله السَّماوي دائري؛ هناك نِقْطة بِداية حيث كان كل شيء من البُعْد الرّوحي فقط، ثم من هذا البُعْد نَشأ البُعْد المادّي، ثم من ذلك الوقت فَصاعدًا يَتوازى البُعْدان (الرّوحي والمادّي) أحَدُهما مع الآخر مثل الجانِبَيْن الأيْمن والأيْسر لِزَوج من قُضْبان السِّكَك الحَديديَّة. هذا يَعني أن كِلاهما مَطْلوب، يَسيران جَنْبًا إلى جَنْب، وهما ليسا مُتَّصِلَيْن جَسَدِيًّا (بل يجب أن يكونا بِطَبيعتهما وَوَظيفتهما مُخْتَلِفَيْن عن بَعْضهما البعض) ومع ذلك فَهُما يأتِيان من نَفْس البِداية، ويَتبعان نفس المسار، ويَصِلان إلى نفس النِّقْطة في نفس الوقت لِنَفس الهَدَف النِّهائي.
ما نَجِدُهُ أيضًا هو أنه بينما بدأ الوجود كلّه روحِيًّا بَحْتًا (الكَلِمَة كانت عند الله قبل بِداية الكَوْن المادّي)، عندما لم يَكُن البَشَر بعد مُجَرَّد فِكْرة في ذِهْن الرَّب، وعندما كانت نَواميسه وأوامِره مُثُلاً إلَهية فاعِلة فقط في العالَم الرّوحي لأنه لم يَكُن هناك عالَم مادي بعد، تَحوَّلَت تلك المُثُل الرّوحية في النِّهاية إلى حَقائق مادِّيّة عند خَلْق يَهْوَهْ لِلْكَوْن. إن فِكْرة وجود كائنات مَخْلوقة من الكائنات التي يُمْكِنها أن تَخْتار أن تُحِبّ الله أو لا تُحِبّه كانت في وقت من الأوقات مُمَثَّلة فقط بالمَلائكة (ورُبَّما بعض الأنواع الأخرى من الكائنات الرّوحية) في العالَم الرّوحي، ولكن بعد ذلك خُلقت كائنات موازية من الكائنات (تسمى البَشَر)، أوَّلُها آدم. لكن البَشَر كانوا جَسَدِيِّين في جَوْهرهم (نحن) ؛ لذلك لدينا الآن مَجْموعة مُوازية من الكائنات: مَلائكة العالَم الرّوحي وبَشَر العالَم المادّي. كِلا الفَريقَيْن مَوْجودان في الوقت نفسه، وكِلاهما خُلِقَ لِخِدْمة الله، وكِلاهما مُنِحَ حرية كافية لِيَخْتار أن يَكون مع الرَّب أو ضِدَّه، وأن يَبْقَى معه أو يَتْرُكه بإرادته.
لكن الأمْر يَزْداد غُموضًا لأنه كما يُمْكِن للملائكة في بعض الأحيان أن يُظْهِروا جانبًا مادِّيًا (مع أن حالَتَهم الطَّبيعِيَّة هي كَكائنات روحِيَّة) كذلك الإنسان المادّي له جانب روحي (مع أن حالتنا الطبيعية هي ككائنات مادِّية). ونَجِد في خِطَّة الله للفِداء أنه في حين أن العوالِم الرّوحية والمادِّيّة مُخْتَلِفة إلى ما لا نِهاية ولكن مع مُرور الوقت فإن الخِطَّة هي أنه بطريقة غامِضة سوف يَنْدَمِج العالَمان في النِّهاية. بينما نُتابع الكِتاب المُقَدَّس من سِفر التكوين إلى سِفر الرؤيا نرى أنه في البداية كانت كل الأشْياء من المَجال الرّوحي، ثم أُضيفَ المجال المادّي ولكن ظَلَّ مُنْفَصِلاً عن المجال الرّوحي، بل في الواقع أُقيمَت حواجِز بين الرّوحاني والمادّي. ثم أُعْطِيَ النّاموس الرّوحي كما كان يُمارس في السَّماء للبَشَرِيَّة المادِّية على جبل سيناء (التَّوْراة). ومع ذلك فإن النّاموس على الأرض كان يُمارَس في المقام الأوَّل كسِلْسِلة من الطُّقوس المادِّية والشَّعائر التَّقْليديّة التي كانت تُحاكي وتوضِح فقط أصْلَها السَّماوي لأن الإنسان في ذلك الوقت لم يَكُن لديه القِدْرة على فِعْل أي شيء أكثر من ذلك.
في زَمَن الله بدأ الهَدَف من النّاموس للبَشَرِيَّة يتجلّى حيث تَحَوَّلَ بِشَكْلٍ واضِح عن الطُرُق المادّية والأرضيّة البَحْتة التي كان يُمارَس بها نحو العَوْدة إلى شَكْلِه السَّماوي الرّوحي الأصْلي عند مَجيء المسيح وبعد ذلك بِوَقْتٍ قصير حلول الرّوح القُدُس في البَشَر. إن الأحْداث الضَّخْمة المُتَمَثِّلة في يسوع الذي جَلَب النّاموس المادّي إلى تَحقيق روحي ثم حُلول روح الله في الإنْسان المادّي كانت عَلامات بارزةْ ومُعْتَرف بها في العَمَلية التي لم تَكْتَمِل بعد لِدَمْج العوالِم الرّوحِيَّة والجَسَدِيَّة (في وقتٍ ما في المُسْتَقْبل) في عالَمٍ واحدٍ مُتَّحِد.
إن مَلَكوت الله الذي نَقْرأ عنه في الكِتاب المُقَدَّس ونأمَله في قُلوبنا هو في الواقع ذلك العالَم المادّي والرّوحي المُتَّحِد الذي سيأتي. بِمُجَرَّد أن أصْبَح الرّوحُ القُدُس حاضِرًا في البَشَر، قيل إن مَلَكوت الله (العالَم المُتَّحِد الرّوحي والجَسَدي) أصبح الآن حاضِرًا على الأرض (ذهب يوحنا المَعْمَدان ذو الشَعْر المُبَعْثَر يُعْلِن أن مَلَكوت الله قد اقْتَرَب قبل رِسالة يسوع مُباشَرةً). ومع ذلك فحتّى اليوم هو مَلَكوت لم يَكْتَمِل بعد؛ إنه مَلَكوت في طَوْر الصَّيْرورة. إنه مَلَكوت يتشكَّل جِزْئيًّا ولكن ليس بالكامِل، وهو حالِيًّا مُمَثَّل في البَشَر الجَسَدِيِّين (المؤمِنين) الَّذين هم في طَوْر الوصول الى الكَمال من الله حتى نَتَمَكَّن من الانْدِماج الكامِل مع الروح المِثاليّة. إنها عَمَليّة يُصْبِح فيها جَوْهَرُنا وكِياننا الجَسَدي الطَّبيعي أكثر روحانِيَّة وأقلّْ جَسَدِيِّة. في الواقع، يُخْبِرنا الكِتاب المُقَدَّس عن وقت في المُسْتَقْبل عندما يكون للبَشَر نَوع مُخْتَلِف تمامًا من الجَسَد والجَوْهر عمّا لدينا الآن؛ سيكون جَسَدًا روحِيًّا (لِعَدَم وُجود مُصْطَلَح أفْضَل) لا يَخْضَع لتأثير الزَّمَن أو التآكل (على غِرار الملائكة). إنه نَوع من الجَسَد الذي سيكون قادِرًا على التَّنَقُّل في هذا العالَم المُدْمَج (في النِّهاية) بين العالَمَيْن المادّي والرّوحاني. وهذا لأن دائرة تاريخ الإنسان وتاريخ الله الخَلاصي تصل في النهاية، بعد آلاف السِّنين، إلى مَعْناها الأعْمَق واكْتِمالها التّام، فنَجِد أنْفُسْنا بِشَكْلٍ أساسي نعود إلى نِقْطة البِداية عندما كان كل ما هو مَوجود رُوحاني بِطَبيعته، عندما كان هناك عالَم واحد فقط تُوجَد فيه كل الكائنات (وليس عوالِم روحيَّة وجسدية مُنْفَصِلة)، وقَبْل أن تُوجَد أُمور مثل الشَّرّ والخَطيئة والمَوْت.
لقد أخَذْتُكُم في هذا الطَّريق لأبدأ الأمور اليوم لأنَّني أُريدُكم أن تُفَكِّروا طويلاً ومَلِيًّا في ماهِيَّة نَشيد موسى. أُريدُكم أن تَفْهَموا لماذا قضى بعض من أعْظَم العُقول اللَّاهوتيَّة المسيحيَّة واليهوديَّة عُمْراً من الدِّراسة التي تَرَكَّزَت على كَشْف النِّقاب عن أعْماق الإصْحاحات الأربعة الأخيرة فقط من سِفر التثنية. ومع ذلك، فإن أكثر ما يُبْهِرني هو كيف أن تَنَبُّؤات نَشيد موسى تَبْلغ ذِرْوَتها بالنَّسْبة لنا في سِفْر الرؤيا. وأقول هذا ليس على سبيل الموعِظة البلاغِيَّة الرّاقِيَة أو على سبيل التَّشْبيه الجَيِّد. افْتَحوا أناجيلكم على سِفر الرؤيا أربعة عشرة. سوف نقرأ بِدْءاً من سِفر الرؤيا أربعة عشرة على أربعة عشرة، ثم نَسْتَمِرُّ في رؤيا خمسة عشرة.
اقرأوا سِفر الرؤيا أربعة عشرة على أربعة عشرة حتى خمسة عشرة على أربعة
ما الذي يقوله سِفر الرؤيا خمسة عشرة على ثلاثة عن التَّرْنيمة التي يُنْشدها أولَئك الَّذين يوصَفون بأنهم جُيوش الله وهم يَهْزمون الوَحْش وصورَته وأولئك الَّذين أخَذوا رقَم إسْمه؟
تَرْنيمتان: نَشيد موسى (سِفر التثنية إثنان وثلاثين، بالضَّبط ما نَدْرُسه) ونَشيد الحَمَل. والفِكْرة بالطَّبْع هي أن مُحارِبي الله يُنْشِدون نَشيد موسى كنَشيد انْتِصار، وكَذِكْرى لِوُعود الله القديمة بالفِداء والدَّيْنونة التي قَطَعها الله قبل وفاة موسى بوقت طويل. لذلك نرى الآن أن نَشيد موسى ليس مُنْقَضِيًا بِمُجَرَّد مَجيء المَسيح، أو في يومِنا هذا، أو حتى في وقت هَرْمَجدون، أو أنه يَنْطَبِق على بني إسرائيل فقط، بل إنه يَنْطَبِق على العالَم كلّه، وفي هذا الحَدَث في سِفْر الرؤيا خمسة عشر انْطبق نَشيد موسى على العالَم المُرْتَدّ الذي قَرَّر الوُقوف ضُدّ الله، واخْتار بَدَلًا من ذلك الانْحِياز إلى المسيح الدَّجّال (الوحش) الذي يُسَيْطِر عليه الشَيْطان. وكما يوضِح نَشيد موسى، سيَكون هناك دَمار لا شَفَقة فيه لأولئك الَّذين يُعارِضون الله وشَعْبَه، وستكون هناك رَحْمة وخَلاص غير مَحْدودَيْن لأولئك الَّذين يَقِفون مع الله وهم شَعْبه. ومن المُفارَقات أن الله سيَسْتَخْدِم الأشْرار كأداة لمُعاقبة شَعْبِه لكي يَعودوا إليه ويُخَلَّصوا، ثم سَيُهْلِك هؤلاء الأشرار أنْفُسَهُم لإيذائِهم شَعْبه في عَمَلِيَّة العِقاب!
الآن كما عَلَّمْتُكَ على مرّ السِّنين أنه من حقائق الكتاب المُقَدَّس أن نُبوءات الله تَحْدُث ثم تَحْدُث مُجَدَّدًا (أحيانًا أكثر من مَرَّة). وهذا بِسَبَب طبيعة دَوَران التاريخ الذي يُعيد نَفْسَه. إن نَشيد موسى هذا يَتَنَبَّأ عن المَنْفِيِّين الثلاثة من بني إسرائيل، ولكن بعد ذلك بَيْنما تَتَحرَّك عَمَلِيَّة تَحويل الله العالَم إلى مَلَكوت الله في الزَّمَن، كذلك يَتَحَوَّلُ نَشيد موسى ليَتَعامل ليس فقط مع بني إسرائيل الجَسديِّين ولكن مع بني إسرائيل الرّوحيِّين أيضًا. إن نَشيدَ موسى لا يَشْرح فقط هَلاك أولئك السُّكان المادّيين (الأُمَم والشُّعوب) الَّذين يُعارِضون الله، بل يَشْرَح على مُسْتوى آخر هَلاك أولئك السُّكان من الكائنات الرّوحيّة الشِرّيرة (الشَّياطين، الملائكة السَّاقِطين) الَّذين يُعارِضونَه. ولكنَّنا نَشْهَد أيضًا في نَشيد موسى تأديب الله لِشَعْبِه وسماح الله لِشَعْبِه بالابْتِعاد عنه. هذا أيضًا أمْرُ نَبَوي، ومِثْل تَدْمير أعْداء الله ومَنْفِيّي بني إسرائيل، سيَتَكرَّر هذا الأمْر وسيَتَحَقَّق أخيرًا تَحْقيقًا كامِلاً في نِهاية الأيام.
أتمنّى أن تَتَلقّوا هذا: لقد تَعَلَّمنا كثيرًا أن الله لن يُعاقب الشَّعب الخاص به ولن يَسْمح له بالإبْتِعاد عنه. لا يوجَد على الإطْلاق أي سَنَد في الكتاب المُقَدَّس لهذا الادِّعاء؛ إنه مُجَرَّد عَقيدة وتَقْليد من صِنْع الإنسان يُعْطينا راحَةً زائفة. إن نَشيد موسى يَجْعَلنا شُهودًا على أن المُفْدِيِّين يُصْبِحون غير مُفْديِّين….. يقول ذلك بِوُضوح. لقد حُذِّرنا مِرارًا وتِكْرارًا في العهد الجديد من أن نَفْعل نَفْس الشَّيء، لأن العواقِب ستكون واحِدة. يُعاقِب الله أولئك الَّذين كانوا مُخْلِصين له ثم ابْتَعدوا عنه، على أمَل أن يَعودوا إليه بعدما يُواجِهوا ما يكفي من الألم والتَّجارِب التي تَفْتَح أعْيُنهم على خَطاياهم وتَهَوُّرهم؛ ولكن إذا لم يَعودوا ويَظَلّوا في ضَلالهم، فَحينها سيكون ذلك مَصيرَهم النِّهائي، مَصيرَهم مَحْسوم إلى الأبد. إنَّه اخْتِيارَهم، حتى عِباد الله أنْفُسهم لا يُصْبِحون روبوتات بلا عَقل يَفْقِدون حُرِّيّة الاخْتِيار…. لأي إخْتِيار. يا إلَهي، حتى الملائكة في السَّماء (الَّذين يَتَمَتَّعون بِقَدَرٍ من الحرِّية أقل تُواضُعًا ممّا نَتَمَتَّع به نحن) كان لهم الخِيار في خِدْمة الله أو التَّمَرُّد، كما هو واضِح من وُجود الشَيْطان وجُيوشه.
هل يَسْتَطيع أي شَخْص أن يَمْنَعكَ من قُبول المسيح؟ هل يُمْكِن لأي شَخْص أو أي شَيْطان أو أي شيء أن يُعيق طَريقك إلى الخلاص؟ يقول العهد الجديد لا. بالمُقابل هل يُمْكِن لأي شَخْص أو أي شيء أن يُجْبِرك على قُبول المسيح؟ لا مَرَّةً أخرى. الإخْتِيار، في كِلِتا الحالَتَيْن، يَقَع دائمًا على عاتق الفَرْد وليس على أي شَخْص آخر غير هذا الفرد. وكما جاء في سِفْر يوحَنّا، لا أحد ولا أي شيء يَسْتَطيع أن يأخُذك من يَدْ الله بِمُجَرَّد أن تكون هناك؛ ولكن لَدَيْك الخِيار.
من الواضِح أن الإشارة إلى ”لا أحد“ تعني شَخْصا آخر غَيْرك في كل الظُّروف. إنَّنا نُحِبُّ أن نَتَحَدَّث عن حُرِّيَتنا في المسيح، وإرادَتنا الحُرَّة غير المُقَيَّدة، ولكن هل تَنْتَهي هذه الحُرِّية والإرادة الحُرَّة عندما يَتَعَلَّق الأمْر بالقُدْرة على السَّيْر مع المسيح أو الإبْتِعاد عنه، على عَكْس ما كان لنا من حُرِّيّة قُبوله أو إنْكاره في البِداية؟
يُكَرِّر يعقوب أخو يسوع (رئيس الكنيسة قبل تَدْمير الهَيْكَل على يد الرّومان عام سبعين ميلادي) هذا المَبْدأْ في رِسالَته الوحيدة المُسَجَّلة إلى جماعة الكنيسة في أورشليم:
الكِتاب المُقَدَّس اليهودي الكامِل يعقوب خمسة على تسعة عشر: " "أَيُّهَا الإِخْوَة، إِنْ ضَلَّ أَحَدٌ بَيْنَكم عَن الْحَقّ فَرَدّه أَحَد، فَلْيَعلم أَن مَنْ رَدّ خَاطِئًا عَنْ ضَلال طَرِيقه، يُخَلِّص نَفْسًا مِن المَوْت، وَيَسْتُر كَثْرَة مِنَ الْخطَايا.".
الأُخْوة في هذا المَقْطع هم المؤمنون (هذا هو الشَّعب الوحيد المُخاطَب في هذه الرِّسالة كلّها). فالذي يَتيهُ عن الحقيقة كان لديه الحقيقة في وقت من الأوقات، إذ لا يُمْكِن أن تَتيهَ من مكان لم تَكُن فيه. إن الشَخْص الذي يَرْتَدّ عن الله يعود إلى كَوْنه خاطِئاً (بِحَسَب يعقوب)، والمَوْت الذي يُخَلَّص منه هو بالتأكيد ليس مَوْتَهُ الجَسَدي لأن كل البَشَر، سواءً كانوا مُخَلَّصين أو مُدانين، قد عُيّنوا للمَوْت مَرَّة واحدة. المَوْت يُشير إلى المَوْت الأبَدي الرّوحي، موت الأشرار. لدينا في كَلِمات يعقوب هذه مثال الأخْ المسيحي الذي عَرف حقيقة الله ولكنه انْحَرَف عنه، وبالتالي ابْتَعَد عن فِداء الله، وهو على طريق المَوْت الرّوحي ما لم يَسْتَطِع أخ آخر أن يَجْعَله يعود إلى رِشْده ويَرْجع إلى الله بِطَريقة ما. لا شيء يُمْكِن أن يكون أكثر وُضوحًا. هذا الأخ التّائه يَفْعل بالضَّبط ما تمّ التحَدُّث عنه والتَّنَبّؤ به في نَشيد موسى. بالتأكيد لديه فِرْصة للعَودة إلى الله؛ لكنه سيموت خاطئًا بلا رجاء ما لم يَفْعَل، بِغَض النظر عن وَضْعِه السَّابق.
دَعونا نَسْتأنِفُ دِراستنا لِنَشيد موسى هذا العَميق والوثيق الصِّلة بالمَوضوع في الآية إثنين وعشرين. سنَدْرس بعض الأجْزاء الصَّغيرة هذا الأسبوع.
أعِد قراءة سِفر التثنية إثنين وثلاثين على إثنين وعشرين حتى ثلاثة وثلاثين
يَتحدَّث هذا الجِزء الأوَّل عن نيران غَضَب الله وسَخْطه غير القابل للإشباع على بني إسرائيل. دَعوني أَضَع ذلك في السِّياق الصَّحيح حتى نَكون واضِحين: يَهْوَهْ يُعلن الحَرْب على شَعْبِه المُفدي لأنهم الآن قد نَبَذوا فِداءهم لصالِح إضافة آلِهة كاذِبة وغير آلِهة إلى عِبادتهم. لا أقْصِدُ التَّكْرار، ولكن علينا أن نُدْرِك أن بني إسرائيل لم يَتَخلّوا عن الله تَمامًا بِمَعْنى أنهم قالوا ”لا أؤمِن بأن يَهْوَهْ إلَهي“، بل كان الطريق المُعْتاد للارْتِداد هو أنَّهم اسْتَمَرّوا في إعْلان وَلائهم لإلَه بني إسرائيل، حتى أنَّهم كانوا يَحْتَفِلون بأعْياده وذَبائحه وطُقوسه وحَمّاماته الطَقْسِيَّة وما إلى ذلك إلى حدٍّ ما، ولكنهم في الوقت نفسه بدأوا في دَمْج آلِهة أخرى ومُمارسات عِبادة غيرْ مُصَرَّح بها في حياتهم. لقد خَلَطوا بين هذا وذاك، القليل من هذا والقليل من ذاك. كانت عَقْلِيَّتهم على ما يبدو هي عدم قَطْع الروابِط؛ دَعونا نُعْطي إله إسرائيل وكل من هذه الآلِهة الأخرى ما يَكفي من وَلائنا حتى نَتَمَكَّن من إبْقاء خِياراتنا مَفْتوحة. حسنًا لقد أحْبَط الرَّب ذلك وقال إن فِعْل مثل هذا الأمْر هو التَّخَلّيِ عنه في عَيْنَيْه؛ وهو وَحْده الذي يَحْكم على من يَقْبَله بارًّا أو غير بارّ، لذا فإن ما كان يَعْتَقِده كل إسرائيلي عن مَكانته أمامه كان غير ذي أهمية .
من الأفْضل لنا أن نتذكَّر أنه في العهد الجديد عندما يتمّ التمييز بين بني إسرائيل والعالَم، أو بين المؤمنين والعالَم، فإن العالَم يمثل الأشْرار والمُرْتَدِّين. العالَم هو أولئك الناس والأشياء التي لا تَنْتَمي إلى الله ولا تطيعه. وقد حُذِّرنا أن المؤمن لم يَعُد من هذا العالَم رغم أنه في هذا العالَم. وبِسَبَب هذا المَبْدأ الإلَهي يجب ألا نَرْتَبِط بأشياء هذا العالَم، بل أن نَبْقى مُنْفَصلين ونَرْتَبِط بالله حصرياً. ”العالَم“ هو مُجَرَّد طريقة العهد الجديد لقول "أولئك الَّذين لا يَنْتَمون إلى الله" …. أو بالعبرية لو-أمي أي لا شَعب، ليس شَعْبي. لذلك كمؤمِنين عندما نَبْدأ في خَلْط ومُطابقة اتِّحادنا بالمسيح مع طُرُق ”العالَم“، نُصْبِح لو-عامي، لسنا شعبه، نحن نَتخلَّى عن الله في نَظَر الله.
إن أحْدَث مِثال على الرَّدة الوقِحة لبعض المؤمنين هو عَقيدة الرَّخاء الجديدة التي أصْبَحَت مُنْتَشِرة في كل مكان. ليس هناك أي خَطأ في أن يسعى العالَم إلى الثَّرْوة كَسَبَب لِوُجوده وهَدَفه الأوَّل لأنه ليس لديهم ما يَرْجونه سِوى القليل من الأمَل. ولكن عندما يَضَع المؤمِن شرائع الله وأوامِره جانبًا لِغَرَض صريح هو كَسْب الثروة، فهذه مُشْكِلة. لكن الأسْوأ من ذلك هو أن تَجْعل الكنيسة المؤسَّسِيّة من كَسْب الثروة ليس فقط مَسْعى مُقَدَّسًا مُفْتَرَضًا بل أيضًا كَبِطاقة تقييم لتَحْديد الصِحَّة الرّوحية لِجَسَد الكنيسة المحلِّية والفَرْد المؤمِن. في الواقع أن الكِتاب المُقَدَّس بأكْمَله من البداية إلى النهاية، يَذهب إلى حدّ كبير لتَوْضيح أنه في حين أن الثَّرْوة المادِّية ليست خطأ في حدِّ ذاتها إلا أن الثَّرْوة المادِّية ليست تَعْريف الله للرَّخاء ولا أن الأشرار دائمًا فُقَراء والأبْرار دائمًا أغْنِياء مادِّيًّا. لذا فإن كل جانِب من جوانِب عقيدة الازْدِهار التي يتم التَّبْشير بها في أُمَّتنا هو عَمَليًّا عَكْس مَبادئ الكِتاب المُقَدَّس ويَجِبُ أن نَتَجَنَّبها.
في دَرْسِنا الأخير ناقَشْنا هذه الإشارة إلى أن غَضَب الله هو نار تَحرق إلى أعْماق شيول وأن هذا بلا شكّ (على أحد المستويات) إشارة إلى جهنَّم. علاوة على ذلك فإن الرَّب هو الذي أَوْقَدَ نار جهنَّم ويوقِدها الآن لأنها مَوْجودة هناك ليَسْتَخدمها في تَدْمير الأشرار.
كما تُوضِحُ الآية الثالثة والعشرين، ”سَأَجْعَلُها عَلَيْهِمْ نَارًا“. أيُّها الناس، هنا عَقيدة شائعة أُخرى يَجِب إعادة النَّظَر فيها. لقد سَمِعتُ أنه قيل مِرارًا وتِكرارًا أن الله لا يُسَبِّب الشَّر أو المَصائب التي تُصيب الناس، بل الشَيْطان هو الذي يفعل ذلك لأن الله هو إلَه المَحبَّة فقط. لن تَجِد ذلك في الكِتاب المُقَدَّس. هناك عَقيدة قِياسِيَّة أخرى هي أنه عندما يَتَعَلَّق الأمْر بالمفدِيّين من الله (مِثلي ومِثْلك) فإن عِقابه الوحيد على الإطْلاق قد يكون بِبَساطة السَّماح بِحُدوث كوارِث طبيعيَّة لنا، والتي كان من المُمْكن أن يَمْنَعها بِشَكْلٍ خارِق للطَّبيعة لو لم يتمّ تأديبنا. حَسَنًا، مَرَّة أخرى، هذا بِبَساطة لا يَعْكس كتابات الكِتاب المُقَدَّس. إن نَشيد موسى ما هو إلا مَوْضع واحد من مواضِع كثيرة في الكِتاب المُقَدَّس يوضِح فيها الرَّب أنه سيُحدِث مُصيبة لأولئك الَّذين يَتَمَرَّدون عليه……. العابِد وغير العابِد على حدٍّ سواء. وبالطَّبْع هنا في نَشيد موسى نَحْصَل على سَرْد لِما سيُحْدِثه الرَّب، بل إنه يُساوي أن الرَّب يَسْتَخْدم كل سِهامه الحربيَّة ضد بني إسرائيل. إن إطلاق السَّهْم ليس كارثة تَحدُث بِشَكْلٍ طبيعي، بل يتمّ ذلك في حالة غَضَب ويُقصَد به الأذى. والله يَقْصد تمامًا أن يؤذي شَعْبه عندما يَبْتَعِدون عنه بالدَّرَجة والطَّريقة التي فَعَلها بنو إسرائيل.
يقول إنه سيُنْزل مَجاعات رَهيبة وأَوْبِئة مُميتة، وأن أرض الميعاد السّابِقة الخاصة ببني إسرائيل ستَجْتاحها مَخْلوقات خطيرة وسامَّة. بالإضافة إلى ذلك سيُهاجمهم أعْداؤهم (هذه هي فِكْرة الحديث عن السُّيوف)؛ وسيكون الرُّعْب من كل ذلك عظيمًا جدًا لِدَرَجة أن الجميع، الأطفال الرُّضَّع والشَّباب والفَتَيات غير المُتَزَوِّجات (أي العذارى)، والمُسِنِّين سيَموتون حَرْفِيًّا من الخَوْف والقَلَق. ليس لدينا وقت للذَّهاب إلى هناك الآن ولكن انْظروا الى الإصْحاحات الوُسطى من سِفر الرؤيا بينما يقوم الوَحْش بِعَمَلِه القذِر، ثم عندما يَصِبّ الله غَضَبه في الأحكام الواحد والعشرين (سَبْعُ أَختام وسَبْع قُدُر وسَبْع أبواق) ونَحْصل على نفس الصُّورة بالضَّبط باسْتِخْدام كَلِمات مُتَطابِقة تقريبًا.
إذَن لَدَيْنا هنا الجانِب السَّلْبي لنِظام عدالة الله. هنا في نَشيد موسى لدينا لَعَنات النّاموس تتحقَّق، تمامًا كما في سِفر الرؤيا نرى أيضًا لَعْنات النّاموس تَجْري في مَسارها. العَدالة ليْست عَدالة إذا لم يَكُن هناك حقّ ولا باطِل. إن لم يَكُن هناك مُكافأة للأبْرار ولا هَلاك للأشرار، فلا عدالة إذًا. إذا كان هناك رَحْمَة فقط ولا عِقاب أبدًا، فأين العَدْل؟ لا تَظُنّوا أبدًا أن نِظام عدالة الله قد تحَوَّل إلى تهاوُن أو تسامُح كَجَدّ يَغْمز بِعَيْنِه تجاه الخطيئة والعِصْيان، سواءَ كان ذلك للمؤمِن أو للوثَني.
ولكن في الآية سِتة وعشرين نبدأ في رؤية الجانِب الآخر من مَفْهوم العدل، الجانب المُقابل للغَضَب. تُظهِرُ لنا الآية ستة وعشرين ذلك الجانِب من الله الذي رُبَّما نَتَمنّى جميعًا أن يكون الجانِب الوحيد المَوْجود فيه: الرَّحْمة والمَحَبَّة. هناك يُقال لنا أن الله فَكَّر في مَحو بني إسرائيل بالكامِل ولكنه قرَّر ألا يَفْعل ذلك بِسَبَب قَلَقِه من أن العَدُو الذي يُرسله الى بني إسرائيل سيَمْنح نَفْسَه الفَضْل في النَّصْر. وبِعِبارة أخرى، بينما يتمّ إظْهار الرَّحْمة والمَحَبَّة إلى حدٍّ ما، فإن ذلك يَحْدُث كَنَتيجة طبيعيَّة لإنْقاذ الرَّب لِسِمْعَته (وهو مَوْضوع نَراه في مُناسبات عديدة في الكِتاب المُقَدَّس). وكَمِثالٍ واحِد على ذلك، يَقول واحد صموئيل إثني عشر ”…. من أجل اسْمه العظيم (سَمِعْتَه)، لن يتخلَّى عن شَعْبه أبدًا…“. المَغْزى من هذا هو أن الرَّب له غَرَض مُزْدَوِج في إنزال غَضَبِه على بني إسرائيل: الغَرَض الأول هو مُعاقبة شَعْبه، بني إسرائيل، على عدم إخْلاصهم له على أمَل أن التَّأديب سيَجْعَلهم يَعودون إلى البِرّ. الغرض رقم إثنين هو إظهار قُوَته وقِدْرته المُطْلَقة على سائر أُمَم الأرض الأخرى؛ إذا سَمَحَ للأُمَّة المُهاجِمة أن تنال الفَضْل في ذلك، فالخَوْف هو ألا تَرى الأُمَم الأخرى أن زوال بني إسرائيل كان من فِعْل يَهْوَهْ. وهكذا تَظُنّه الأُمَم ضَعيفًا وعاجِزًا عن الدِّفاع عن بني إسرائيل (كإلَههم) بَدَلًا من أن يكون قَويًّا وقديرًا وقادرًا على مُمارسة سُلْطَته على جميع الأُمَم وكل الأشياء. إسْم الله وقَداسته يَعلو على كل شيء.
في الآية الثامنة والعشرين من المُثير للسُّخْرية أنه بينما قال موسى في الآيات القليلة السّابقة أن بني إسرائيل لم يعد لديهم أي حِكمة وإلا لما تَركوا الله، فإنه الآن يُطَبِّق نفس الشيء على أعداء بني إسرائيل. أنه لو كان لديهم أي حِكمة على الإطْلاق لَعَلِموا أنهم لم يكونوا سِوى أداة في يَد يَهْوَهْ. تمامًا كما يُحَذِّر موسى بني إسرائيل من أنهم عندما يَزْدَهِرون بِسَبَب بَركات الرَّب، لا يَنْبَغي أن يُهَنِّئوا أنْفُسهم على حسْن حَظِّهم وكأنهم أسياد أنْفُسهم.
بل بالأحْرى، يقول الرَّب، يَنْبَغي على هذه الأُمَم التي ستَشْعُر بالانْجِذاب نحو مُهاجمة بني إسرائيل أن تسأل نَفْسها كيف أمْكنها أن تُحَقِّق مثل هذا الأمْر بينما كان بنو إسرائيل في الواقع أكبَر وأقوى. كان يَنْبَغي على العدو أن يشك في أن ”صخرة“ إسرائيل، تسور، جبل خلاصِهِم، يَهْوَهْ، قد سلمت إسرائيل بِبَساطة وأسلمتهم لأعدائهم. لماذا يَنْبَغي أن يَظِنّوا ذلك؟ لأن ”صَخْرة“ الأعداء المَزْعومة (إلَههم) لا تُساوي إله بني إسرائيل، ويجب أن يكون هذا بَديهيًّا الآن.
إذًا حتى هذه النّقطة في نَشيد موسى قد ذَكَر الرَّب أولاً ما فَعَله من أجل بني إسرائيل، ثم كيف ارْتَكَبوا الزِّنا ضِدَّه، وبعد ذلك كيف أنه سيُسَبِّب مَصائب عظيمة على بني إسرائيل كَعِقاب. سيَشْمُل هذا العِقاب المَجاعات والحروب والأمْراض وخِسارة المحاصيل ثم أخيرًا النَّفي من أرض الميعاد على يَد عَدو مُهاجِم. ثم أوْضَح نَشيد موسى بعد ذلك أن الرَّب قَرَّر أنه من أجل سِمْعَتِه الخاصة لن يَفْعل ما يَسْتَحِقّه بنو إسرائيل عن حق، وهو أن تتم إبادَتهم بالكامل وألا يُعتَبَروا شعبًا مَرَّة أخرى.
في الآية إثنين وثلاثين، والآن بعد أن هاجَمَهم أعداء بني إسرائيل وسخِروا منهم وتَفاخروا بأنهم بِقُوَّتهم هم الَّذين قَهَروا بني إسرائيل، قرَّر الله أن يُدين العدو لأنه كان قاسِياً جداً مع شعبِه وغافِلاً عن سِيادة إلَه الكَوْن. لذا فقد قرَّر الرَّب أن العَدُو الذي اسْتَخْدمه لِضَرب بني إسرائيل سَيُعاني من نفس المَصير الذي لاقاه شعب سَدوم وعَمورة قبل ذلك بِقُرون عديدة.
من المُثير للاهْتِمام بالنِّسْبة لي أن ما يَجري وَصْفه في الآيات من إثنين وثلاثين الى أربعة وثلاثين هو هذا: نفس كُروم العِنَب والحُقول في كنعان التي أنْتَجَت طَعاماً وَفيراً وصِحِّياً لبني إسرائيل لن تُنْتِج الآن سوى المَحاصيل الرَّديئة للجموع الغازِية. إن الإشارة إلى العِنَب المسموم هي اسْتِعارة، وليست حَرْفية (لم تَكُن كُروم العِنَب ستُنْتِج سَمّ الأفاعي حرْفيًا). إنها حقيقة بَسيطة من حقائق التاريخ أنه بعد أن قاد يسوع بني إسرائيل إلى كنعان، منذ ذلك الوقت فَصاعِدًا كلَّما تمّ نفي بني إسرائيل تَدَهْوَرَت الأرض المُقَدَّسة بِسرعة. توقَّفَت الكُروم والبَساتين في أرض الميعاد عن الإنْتاج، وأصْبَحَت الحُقول مُسْتَنْقَعات في بعض المناطِق وأرضًا يابِسة قاسِية في مناطق أخرى، ولم تَعُد المراعي قادِرة على إعالة الكثير من الماشِية والأغْنام كما كانت للعِبْرانيِّين. تَمَتَّع المُحْتَلّون لِفَترة من الزمن بما كان يَزرعه بنو إسرائيل من عِنَب وفواكه وزيتون وما شابه ذلك من خَيْرات جَيِّدة، ولكن في وَقت قصير بدأ التَّدَهْور، وأصْبَحَت إسرائيل في الأساس مكانًا مُناسبًا فقط للبَدو والتُّجّار للتَّجَوُّل فيها، ثم فيما بعد لتَجَمُّع الجّيوش بِسَبَب مَوْقعها الاسْتْراتيجي بين القارَّتَيْن الأفْريقيّة والآسْيَوِيَّة وكَمُفْتَرَق طُرُق تِجارية.
يُمْكِن للمَرْء أن يرى صُوَرًا تعود إلى مُنْتَصَف القَرْن التاسع عشر (عندما اخْتُرِع التَّصوير الفوتوغرافي لأول مَرّة) لأراضي بني إسرائيل التي كانت في وقت من الأوْقات جميلة ومُثْمِرة، ولكن في وقْت الصورة كانت الأرض مُحْتَلَّة في مُعْظمها من قِبَل العَرَب وبالتالي كانت شِبْهُ بارِدة ومَعْدومة. يُمْكِن للمَرْء أيضًا أن يقرأ رِوايات عن خَيْبَة أمَل الصَّليبيِّين من حالة المكان عند وُصولهم وكِفاحهم لِجَعل قِطَع الأرض التي مَنَحَها لهم البابا كَمُكافأة على مُشاركتهم في الحَمْلة الصَّليبيَّة صالِحة للاسْتِخْدام في إنتاج الغذاء.
بعد الحَرْب العالَميَّة الأولى عندما بدأ العديد من اليهود بالهِجْرة إلى فِلَسطين لِبدْء حياة جديدة بعيدًا عن مُعاداة السَّاميّة المُتَفَشِّية في أوروبا، وَصَلوا إلى مكان كانت الزِّراعة وتَرْبِية المواشي فيه شِبْه مُسْتَحيلة في البداية؛ ولكن في وقت قصيرٍ نِسْبِيًّا ازْدَهَرت الصَّحاري، وأصْبَحَت المُسْتَنْقَعات حُقولًا للقمح والشَّعير، وأُعيدت زراعة البساتين والكُروم ورِعايتها، وأصبحَت إسرائيل اليوم مُزَوِّدًا صافيًا للغِذاء للدُّوَل المُحيطة بها. في الواقع، كان قِطاع غزة الذي تم تَسليمه للفلسطينيّين منذ وقت ليس بِبَعيد أحد المناطِق الزِّراعية الرَّئيسية في إسرائيل كلّها. ولكن منذ هذا التَّسْليم، أصبح من الضَّروري الآن اسْتيراد الغِذاء إلى غزة لكي يتمكَّن الفلسطينيّون من البقاء على قيد الحياة لأنهم لا يَسْتطيعون زِراعة ما يكفي من الحُقول والبَساتين التي تَتْلف بسرعة. ومن الطَّبيعي أن يَتِمّ إلقاء اللَّوْم على بني إسرائيل، رغم أن ذلك يبدو غير مَنْطِقي. ولكن بطريقة ساخِرة نوعًا ما هم على حق: لأنه عندما لا يكون شعب الله على أرض الله، فإن الأرض تُصْبِح أرضًا بورًا لِمَن لا يَنْتمي إليها.
سَنَتَوَقَّف هنا اليوم ونَبْدأ من الآية أربعة وثلاثين في المَرَّة القادِمة.