سِفْر التثنية
الدَّرس السابع والأربعين – الإصْحاح إثنين وثلاثين – الخاتِمة
بَيْنَما نُواصِل في نَشيد موسى هذا من سِفْر التثنية الإصْحاح إثنين وثلاثين، أُريد أن أبْدأ كما فَعَلْنا في الأسْبوع الماضي في تلْخيص بعض المَبادِىء الإلَهِيَّة التي كانت عَمَلاً جارِيًا منذ سِفْر التَّكْوين. هذه المَبادِىء هي في طَليعة ما يَتِمّ إعْلانه والتَّنَبُّؤ به في الكَلِمات الشِّعْريَّة لنَشيد موسى.
لقد تَحَدَّثْت من قَبْل عن الرّابِط الذي يَجمع كَلِمَة الله معًا من سِفْر التَّكْوين إلى سِفْر الرؤيا، وهذا الرّابِط هو نِظام عَدالَة الله. في العِبريّة العَدْل هو ”مشباط“.
لقد أَخْبَرْتُكم في مُناسبات عديدة أن يسوع قد أَرْضى نِظام عَدالَة الله لغَرَضٍ مُحَدَّد، وأن ذلك كان خِطْوَة من الخُطوات العديدة التي تُشَكِّل العَمَلِيَّة الشاملة لتاريخ خَلاص البَشَريَّة (وهي عَمَلِيَّة لم تَكْتَمِل بعد). مُصْطَلَح ”راضٍ“ لا يعني ”مُلْغى“ ولا يعني ”أُنْهِيَ“. إذا قام شَخْص ما بِسَرِقة بَنْك وتمَّ القَبْض عليه لاحِقًا، وحُوكِمَ مُحاكمة عادِلة، وأُدين وأُرْسِل إلى السِّجن، يُقال إنه قد تمّ إرْضاء نِظام العَدالَة الأمْريكي لدينا. من الواضِح أن المُجْرِم المُدان الذي انتهى به الأمْر في السَّجْن لم يؤدِّ إلى إلغاء نِظام العَدالَة لدينا، بل إن نِظام العَدالَة قد تحقَّق عند إثبات ذَنْبه وإعلان العُقوبة المُسْتَحقة عليه، مما أدّى إلى إرضاء العَدالَة. بل إن الغَرَض والهَدَف من نِظامنا القضائي (إرْضاء النِظام) قد تحقَّقَ نتيجةً لإتْمام عَمَلِيَّة العَدالَة المَرْجُوَّة منه.
أقول لك هذا لأن الكثير من مَذاهب الكنيسة السَّائدة اليوم تُعْلِن بِصَوْت عالٍ أن نِظام عَدالَة الله قد أُلْغِيَ لِصالح المَحَبَّة والغُفْران الشَّامِلَيْن بِسَبَب آلام المسيح على الصَّليب. وهكذا لا يُمْكِن للمُؤمِن عَمَلِيًّا أن يَرْتَكِب أي خطأ يتطلَّب تأديب الله لأن الله لم يَعُد يُوَزِّع العَدْل، بل الرَّحْمة فقط. ولكي نَخْتَصِر القَوْل في مُعالجة هذه العَقيدة الخاطِئة أخَذتُكُم إلى سِفْر الرؤيا خمسة عشر حيث كُنّا في خِضَمّ الإصْحاحات التي تُصَوِّر انْسِكاب غَضَب الله على العالَم وشَعْبه خلال الأيام الأخيرة من الضِّيقة العظيمة (أو رُبَّما بَعدها مُباشَرَةً)، وفي تلك الآيات وَجَدْنا أن الشَّعْب المُخْلِص لله كان يُنْشِد نَشيد موسى هذا بالذّات الذي نَدْرسه كَنَشيد انْتِصار وتَذَكُّر لِوَعْد الله بالعَدْل لشَعْبِه " أمِّيمه". أَقْتَرِح أن يكون العِنْوان البَديل الجَيِّد لهذه الأُنْشودة هو ”نَشيد عَدالَة يَهْوَهْ“ لأنَّنا نرى فيه وَجْهَيْ توازُن العَدالَة: لِطْف الله وقَسْوَته، خَلاصه وهَلاكه، بَرَكات الرَّب ولَعْناته، ومُكافأتنا وعِقابنا.
لم يَنْتَهِ نِظام عَدالَة الله عندما طَوَيْنا الصَّفْحة من سِفْر عزرا (الذي ينهي سِفْر التَّوراة) إلى سِفْرِ مَتّى (الذي يبدأ العهد الجديد). كما أن نِظام عَدالَة الله لم يَنْتَهِ عند الجُلْجُلَة. في الواقع لقد قيل لنا بِشَكْلٍ لا لُبْس فيه في العهد الجديد أن جميع البَشَر، بمن فيهم المُؤمِنون، سيُدانون في النهاية. استمع إلى بطرس واحد:
الكِتاب المُقَدَّس اليهودي الكامِل واحد بطرس أربعة على أربعة عشرة: " إِنْ كُنْتُمْ تُهانون لأَنَّكُم تَحْمِلُونَ اسْمَ الْمَسِيحِ، فَطُوبَى لَكُمْ! لأَنَّ رُوحَ الشَّاكِينَا، أَيْ رُوحَ اللهِ مُسْتَقِرٌّ عَلَيْكُمْ! ". خمسة عشرة: " لاَ يَتَأَلَّمَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ لأَنَّهُ قَاتِلٌ أَوْ سَارِقٌ أَوْ فَاعِلُ شَرٍّ أَوْ مُتَدَخِّلٌ فِي شُؤُونِ الآخَرِين" . سِتّة عشرة: "وَلَكِنْ إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَتَأَلَّمُ لأَنَّهُ مَسِيحِيٌّ فَلاَ يَخْجَلْ، بَلْ لِيَجْعَلْ مَجْدَ اللهِ بِالطَّرِيقِ الَّذِي يَحْمِلُ هَذَا الاِسْمَ. . سبعة عشرة: "لأَنَّهُ قَدْ جَاءَ وَقْتُ ابْتِدَاءِ الدَيْنونة. إنها تبدأ بأهْل بيت الله؛ وإذا كانت تبدأ بنا، فماذا ستكون النَّتيجَة بالنِّسْبة لأولئك الّذين يَعصون بُشرى الله السارة". ثمانية عشر: "إذا كان البار بالكاد يَسْلَم فأين يَنْتهي الأشرار والخُطاة".
حتى أَهل بيت الله (الّذين يَقْبلون المسيح، الكنيسة) سيَقِفون أمام الله في الدَيْنونة. لكن على أي أساس سَنُدان؟ بأي مِعيار سنُحاسَب على حياتنا أمام خالِقنا؟ حسنًا، لن يكون الأمْر مَبْنِيًّا على ما إذا كنا نَثِق في يسوع أم لا، لأن عائلة الله التي يتحدَّث عنها بُطرس هم المُؤمِنون. بل سيُحاكَم المُؤمِنون على أساس نِظام عَدالَة الله الرّاسِخة منذ زمن طويل، وقوانين وأوامِر التَّوراة التي وَضَعها في جبل سيناء. والآن ستكون عواقِب تلك الدَيْنونة مُخْتَلِفة تمامًا بالنِّسْبة لنا عن أولئك الّذين لَيْسوا مُؤمِنين. كل أولئك الّذين لا يؤمِنون سيُعانون من الهلاك الأبَدي. لن يُعاني أي مُؤمِن من الهلاك، بل نحن المُؤمِنين ستُفتح لنا حياتنا، وستُعرَض علينا أعمالنا (أو قِلَّة أعمالنا)، وسيُحْصي ربَّنا ثمار حياتنا، والّذين منا الّذين يقومون بأقل الأعمال الصالحة ويُنتجون ثمارًا قليلة سيُمنحون أقل المكافآت، والّذين أنْجَزوا منا وِفْرة من الأعمال الصالحة ذات الثمار الكثيرة سيُعْطون أعظم المكافآت.
اعْلَموا أن جميع الثِّمار التي يُمْكِن أن تُجْنى هي نتيجة طاعة الله. لا يُمْكِن للْمَرْء أن يُنْتِج ثِمارًا صالحة بِعِصْيان وصايا الرَّب؛ لذلك فإن أعْمالَنا وثمارنا هي بطريقة ما مقياس الطاعة والمَحَبَّة التي سَيَسْتَخْدِمها يَهْوَهْ ليُديننا نحن شَعْبه. لا يُقاس الثَّمر بِحَجْم حساباتنا المَصْرفية أو حتى حَجْم عائلاتنا أو تَجَمُّعاتنا. بل هو ذلك الجِزْء من حَياتنا الذي أنْتَج خَيْرًا دائمًا لمَلَكوت الله بِتَوْجيهٍ من الرّوح القُدُس.
لكن كَلِمَة ”دَيْنونة“ تَحْتاج إلى فَحْصها لكي نَفْهَم ما تَعْنيه في الواقِع. لقد أَصْبَحَت الدَيْنونة تعني (في يَوْمِنا هذا) شَيْئًا سَلْبيًّا دائمًا؛ إذ يُنظَر إلى الدَيْنونة (على الأقل في الدِّيانة اليهوديَّة المَسيحِيَّة) على أنها مُرادفة للغَضَب أو العِقاب، وهذا ليس كذلك. وهكذا عندما نَسْمع أن العالَم سيُدان، فإننا عادةً ما نَفْتَرِض أن هذا يعني أن العالَم سيَتَحَمَّل تِلْقائيًا غَضَب الله. وعلاوة على ذلك فإننا نَتذمَّر عندما نَسْمع أن المُؤمِنين سيُدانوا (أو نأتي بِنَوْع من الاعْتِذار المَجازي لنَقول أن هذا ليس ما يَقوله الكِتاب المُقَدَّس في الواقِع) لأنَّنا يُمْكِن أن نَحصل على بعض الصُّوَر الذِّهْنيَّة الغريبة لما يَحْدُث عندما نُصادف كَلِمَة ”دَيْنونة“ في كتبنا المُقَدَّسة.
ومن المثير للاهْتِمام أن الكَلِمَة العبرية التي تعني العَدْل (ميشبات) يُمْكِن تَرْجَمَتها أيضًا إلى دَيْنونة. العَدْل والحِكْم هما في الأساس نفس الشَيء. والفِكْرة في الكِتاب المُقَدَّس هي أن الشَخْص يوضَع أمام المُشَرِّع ليَتِمّ فَحْصه ثم يَتِمُّ النُّطْق بالحِكْم. لا يوجد أي افْتِراض للذَّنْب في كَلِمَة ميشبات. لذلك عندما يَقِف المُؤمِن أمام الله في الدَيْنونة فإننا نَعرف مُسبقًا جِزْءًا من الحِكْم: نحن الّذين نَثِقُ به يُعلِنُ بَراءتنا (بِسَبَب عمل يسوع على الصَّليب). أما الجِزْء المُتَبَقّي من الحِكْم بالنِّسْبة للمُؤمِن فهو فقط مُسْتوى (أو رُبَّما غِياب) المُكافأة التي له أو لها بعد الحياة الأبَدية؛ ولكن هذا الحِكْم رُبَّما يكون مَصْحوباً بِمَسْحة من الحزن لأنَّنا جميعاً سنرى أيضاً تَقْصيرَنا في أن نكون مُطيعين وأوْفِياء مَعْروضاً أمامنا (والنَّتائج الفَظيعة التي تَسَبَّب فيها).
لذلك بَيْنَما نُواصِل دِراسة نَشيد موسى، آمَل أن نتمكَّن ونحن نُصادِف كَلِمَتَيْ الدَيْنونة والعَدْل أن نأخُذها بطريقة أكثر حِيادية، وهي الطريقة التي قُصِدَت بها. لأنه كما سنرى قريبًا أن التَّعْريف الصَّحيح للدَيْنونة يؤثِّر أيضًا بِشَكْلٍ كبير على المقاطِع في الكِتاب المُقَدَّس التي تَسْتخدم كَلِمَة إنجليزية أُخْرى شائعة الاسْتخدام، ”الإنْتِقام“.
دعونا نقرأ مَرَّةً أُخْرى الكَلِمات المُتَبَقّية من نَشيد موسى. افْتَحوا أناجيلكم على سِفْر التثنية إثنين وثلاثين.
أَعيدوا قراءة سِفْر التثنية إثنين وثلاثين على ثلاثين الى ثلاثة وأربعين
في وقت سابِق في هذه القصيدة اللّاهوتِيَّة كان المَوضوع هو الماضي (ماضي بني إسرائيل). ابتداءً من الآية ثلاثين تبدأ الإشارة الزَّمَنِيَّة بالانْتِقال إلى المُسْتَقْبل. ويَطرح الرَّب سؤالاً بَلاغيًّا حول كيف يُمْكِن لمُحارب واحد أن يَهْزم ألفًا من الخُصوم، وعشرة مُحاربين يَهزمون عشرة آلاف من الخُصوم؟ وبِعِبارة أُخْرى كيف يُمْكِن لقُوَّة مُعادية أقلّْ عدداً أن تَهزم بني إسرائيل الأقوى والأكثر عدداً (مع إلَههم العظيم) ما لم يَكُن إله بني إسرائيل نفسه قد سَلّمهم لذلك العَدُو؟ بالطَّبْع الإجابة المُتوقَّعة هي أنه لا يُمْكِن أن يَحْدُث ذلك بأي طريقة أُخْرى، ولذلك فإن هذا أمْر لا يجب أن يَفهمه بنو إسرائيل فَحَسْب، بل يجب أن يُدركه غزاة بني إسرائيل لكي لا يصفقوا لأنفسهم أو يَنْسِبوا نَجاحهم العسكري ضُد بني إسرائيل إلى آلِهتهم الأدنى.
ولكن على الرّغم من أن الرَّب سَيَسْتَخْدِم أعداء بني إسرائيل لِسَحْق شَعْبه كَعِقابٍ إلَهي، إلا أن الرَّب سَيَسْتَخْدِم كل ذلك أيضًا للخلاص. ولأن العَدُو سوف يَتَباهى ويَتَفاخر ويُعامِل بني إسرائيل بِقَسْوة، فإن الرَّب سيُحَوِّل غَضَبه عن بني إسرائيل ويَتَّجِه نحو العَدُو. إن عِنَب أرض الميعاد الذي أَنْتَج ذات مَرَّة مثل هذا النَّبيذ الرائع والفَرَح لبني إسرائيل، سيُصْبح سُمًّا ومَرارة للعَدُو عندما يُحاول أن يَسْتمتِع بما كان قد خُصِّصَ حَصْريًّا لشعب الله. يُقال لنا في الآية أربعة وثلاثين أن الرَّب قد خَزَّن هذا النَّبيذ المَسْموم للعَدُو، وأنه قد خُزِّن في مَخْزَن الآب. من الطَّبيعي أن يكون النَّبيذ المَسْموم مجازي واسْتِعارة للعِقاب الذي سيَقع على مُضْطهدي بني إسرائيل.
تشرح هذه الآيات: أ) أن هذا السيناريو سيَحْدُث، ب) أن النَّتيجَة ستَحْدُث كما تنبّأ عنها. علاوة على ذلك (ج) أن الرَّب قد وَضع خَتمه على ذلك بمعنى أنه مؤكَّد، وأنه وَحده لديه إمْكانيَّة الوُصول إلى أداة غضبه (استِعارة العِنَب المَسْموم) التي سيتمّ استِخدامها ضدّ العَدُو.
كان تَشْبيه المَخْزَن الذي يَختِم عليه صاحِبه مألوفًا لدى الناس في هذا العَصْر. فقد كان من عادة مالِك الأرض أو المِلْك أن يَخْتِم أقْفال مَخازنه بالطِّين أو الشَّمْع المَطبوع بِخَاتمه الشَّخْصي. من الواضِح أن مِثل هذا الخَتِم يَعْمل بِمَثابة إنذار لشَخْص قد يَرْغب في الدُّخول، بأن المُحْتَويات تعود لشخص قَوي مُعَيَّن، وبالتالي فهو تحذير لغير المُصَرَّح لهم بالابتعاد. لكن الخَتِم هو أيضًا علامة مِلْكِيَّة تُحَدِّد من هو الشَخْص القَوي الذي له الحق الوحيد في المُحْتَويات المُخَزَّنة.
لدَيْنا العديد من المواضِع في كل من العَهْدَيْن القديم والجديد التي تتحدَّث عن شيء ما ”مَخْتوم“ من قبل الرَّب. إذَن فالفِكْرة هي أن الشيء الذي أُعْلِن عنه كَحَدَثٍ مُسْتَقْبلي هو أمْرٌ مَحْسوم ولا يُمْكِن لأي شيء أن يُغَيِّره، وأن الرَّب وَحْدَه هو الذي يُقَرِّر وَقت وظُروف كَشْفه. لذلك في الآية الخامسة والثلاثين تَسْتَمِرّ الفِكْرة في أنه في اللَّحظة التي يَخْتارها الرَّب سيَفْتح مَخْزنه الشَّخْصي المَمْلوء بالغَضَب المُخَزَّن ويُفرغه على من يَسْتحِقّه؛ وهذا لأن كل الإنْتِقام والجَزاء له وَحْده.
إذَن نحن هنا أمام كَلِمَة ”الإنْتِقام“ التي ذَكَرْتُ أنها مُرْتَبِطة بالعَدْل والدَيْنونة. ولكن دَعوني أقول لكم أيضًا أن كَلِمَة انْتِقام هي اخْتِيار سَيِّء للكَلِمات لتَرْجَمة الكَلِمَة العبريَّة الأصْلِيَّة المُسْتَخْدَمة، نكاح. من هذا المَقْطع نَحصل على العِبارة المَسيحِيَّة الشَّهيرة ”الإنْتِقام لي يَقول الرَّب“. الإنْتِقام بالطَّبْع يعني الإنْتِقام من شَخْص ما بِغَضَبٍ شديد؛ لقد أسأتَ إليَّ، لذا سأنْتَقِم منك الآن.
لذلك عادةً ما يُقدَّم سِياق هذا المَقْطع على أنه بِموجَب نِظام عَدالَة الله فإن العَدُوّ الشِّرّير الذي أساء إلى شعبه، بني إسرائيل، سيَخْضَع للإلَه الذي سيَقْتَصّ منه على طُرُقه الشِّرّيرة (نوع من قَصاص العَيْن بالعَيْن)، وأن الله هو وَحده من يَفعل ذلك؛ ولكن هذا يَغفل عن فهم المقصود.
فالنكاح يَحْمل معنى مُخْتلفًا عن الإنْتِقام. فقد كان الإنْتِقام هو الطَّريقة المُعْتادة التي كانت الأُسْرة الشَّرق أَوْسَطِيِّة القديمة تتعامل بها مع من أساء إلى أحد أفراد الأُسْرة أو أَلْحَقَ الأذى بأحَد أَفْرادها. كان مَفْهوم الثأر يَسْتَنِد إلى القَبَلِيَّة والوَثَنِيَّة وهو نَتيجة طبيعيَّة للثأر الدَّمَوي. كانت العائلة مُلْزَمة بِموجب العرْف القديم بِمُلاحقة من أساء إليها أو أساء إلى شَرَفها وإلّا فَقَدَت المزيد من الشَّرَف. في قِصَّة ابْنَيّ يعقوب، سمعان ولاوي، اللَّذان قادا غارة قاتِلة على مدينة شكيم العاجِزة، كانت الغارة بغَرَض الإنْتِقام من ابن مَلِك شكيم الذي ألْحَق العار بعائلة يعقوب بِاغْتِصاب ديناه. لم يَكْتَفِ يعقوب بالتَّنْديد بأبْنائه على الفَوْر بِسَبَب هذا الإنْتِقام الجائر، بل أيضًا، وهو على فِراش المَوْت (بعد عقود) لَعَنَ سمعان ولاوي بدلًا من أن يُباركهما. وهذا يَدلّ على أن شَخْصيَّة الله لا تُوافِق على الإنْتِقام. حتى أن إنْشاء مُدُن الملجأ في أرض الميعاد وفَّرَ مَلاذًا آمِنًا لأولئك الّذين قد يكونون ضحايا الإنْتِقام.
إن دوَّامة العُنْف التي لا تَنْتَهي التي نراها في الشَّرق الأوسط اليوم تَدور حول الإنْتِقام والثأر بين العائلات والقبائل والطوائف الدينية. أخونا العربي في المسيح، طاس، هَرَب من الضّفة الغربية إلى الولايات المتحدة الأمْريكية منذ سنوات عديدة (عندما كان لا يزال مُسْلِمًا) بِسَبَب ثأرٍ دَمَوِيّ كان سَيودي بِحَياتِه بالتّأكيد في نِهاية المَطاف. لذا، فبَدَلاً من أن تعني كَلِمَة " نكاح" الإنْتِقام، يقول مَنْدِنْهال إنها تعني ”المُمارسةْ التَّنْفيذيّة للسُّلْطة من قِبَلِ أعلى سُلْطةٍ شَرْعِيَّةٍ لِحِماية رَعاياه“. وبِعِبارة أُخْرى فإن الإجْراء المُتَّخَذ هو لغَرَض الدِّفاع وليس الإساءة. سوف يَسْكُب الله هذه المَصائب (المَخْزَن المَليء بالخَمْر المَسْموم) على غُزاة بني إسرائيل حتى يتوقَّفوا عن إيذاء بني إسرائيل ويُطْلقونَهم؛ وبذلك ينجو بنو إسرائيل ولا يتمّ القضاء عليهم. المعنى هو اتِّخاذ إجراء ضدّ شَخْص شرِّير لِمَنْعه من إلْحاق المَزيد من الأذى بأحَد مواطِني المَلِك. فالمَسْألة هي حِماية ودِفاع عن النَّفس من مُعْتَدٍ، وليس انْتِقامًا من مُعْتدٍ. الغَرَض الأكبر هو إفادة المُواطن وليس مُعاقبة العَدُو (رغم أن العِقاب يَلْعَب دَوْرًا بالتأكيد).
لذلك رُبَّما يَجب علينا أن نُعيد التَّفْكير في اسْتِخْدامنا لتلك العِبارة التي نُحِبّ أن نَسْتَخْدمها كَعصا ”الإنْتِقام لي يقول الرَّب“. لأن الرَّب في الحقيقة لا يقول إنه يَنْتَقِم. بل إن من حَقِّه أن يتَّخِذ أي إجْراء يراه ضَروريًّا لحِماية خاصَّته من الناس الّذين ليسوا من أتْباعه.
دَعونا أيضًا نُطَبِّق هذا المَفْهوم نَفْسه على نِظام عَدالَة الله. عَدالَة الله هي أنه سَيَفْعل كل ما يَلْزَم لِحِماية أتْباعه من الأشرار. إنه لا يَفْرَح بِتَدْمير الأشرار. يَسْتند نِظام العَدالة الذي أقامَه على حماية أولئك الّذين يَثِقون بالرَّب حتى لو كان ذلك يعني إيذاء أو تَدْمير الآخرين الّذين قد يُحِبُّهم (كل الناس هم من خَلْقِهِ) ولكنَّهم اخْتاروا ألّا يَكونوا جِزْءًا من شَعْبه، وبالتالي يُمْكِن أن يُشَكِّلوا تَهْديدًا لِشَعبه.
وكما سَيُطَبِّق الرَّب العدالة على العَدُو، سيُنْصِف شعبه، لكن الحِكْم والعواقِب ستكون مُخْتَلِفة تمامًا. هنا يَعود حَديثنا السّابق عن "المِشْبات" (العدالة والحكم) ليَبْرُز من جديد. في الآية السادسة والثلاثين نتعرّف على مُصْطَلَح جديد هو جزء من عَمَلِيَّة نِظام عَدالَة الله: الدّين، وهو يعني ”أن تحكم“ أو قد يعني، ”أن تترافَع في قَضِيَّة“. وهو لا يعني الحِكْم بمعنى أن الله يُنزل العِقاب (المعنى المُعْتاد ولكن الخاطئ للدَيْنونة)، بل يعني اتِّخاذ قرار والبَتّ في قضيَّةٍ ما، سواءً كان الحِكم لصالح أو ضدّ الطَّرَف المَعْني.
يَتِمّ تَطْبيقه هنا فيما يَتَعَلَّق بِبَني إسرائيل، ولكنّه نفس المُصْطَلَح المُسْتَخْدَم في ”الحِكْم“ على العَدُو. عندما يَقِفُ شَخْص مُتَّهَم أمام قاضٍ يُمْكِن أن يُعلِن أنه مُذْنِب أو بريء حسب الأدِلَّة. لذلك عندما يُحكَم على عَدُو الله بالإدانة وفقًا لنِظام عَدالَة الله، يكون هناك عِقاب. وعندما يُحاكَم شعب الله وفقًا لنِظام عَدالَة الله ويكون بريئًا، فهناك حِماية. وهكذا، فإن الكِتاب المُقَدَّس اليهودي الكامِل فيه صِياغة مُمْتازة لوَصْف ما يَحْدُث هنا على أفْضَل وَجه: ”سيَحْكُم الله على شَعْبِه مُشْفقًا على عِباده“. سينْظُر الله في القَضِيَّة المَرْفوعة ضدّ شَعْبِه وسيَحْكم (أي سيُقَرِّر) أنه سَيُشْفِق عليهم. سيَنْظُر الله في القَضيَّة ضدّ عَدُو بني إسرائيل وسيَحْكم(أي سيُقَرِّر) أنه سيُؤذيهم من أجل حِماية شَعْبِه.
دَعونا نعود إلى الوراء ونُعيد تَحديد سِياقنا؛ يقول الله أن بني إسرائيل سيتخلّوا عنه، لذلك سيُعاقبهم عن طريق عَدُو سيَغْزوهم ويَنْفيهم من أرض الميعاد. ولكن في مَرْحلة ما سيَرى الرَّب أن العِقاب قد حَقَّق النَّتيجَة المَرْجُوَّة وسُرْعان ما سيَكون شعْبه مُسْتَعِدًّا للتَّوْبة والعَوْدة إليه واسْتِعادة خَلاصه. لذلك سيتوقَّف عن مُعاقبة شَعْبه وبدلاً من ذلك يُحَوِّل هذا الغَضَب نحو العَدُو كَوَسيلةٍ لِوَضْع حدّْ لِعِقاب بني إسرائيل الذي أمَرَ به الله.
كيف سيُقرِّر الله متى يَحين الوقت الذي يوقِف فيه عقابَه التّأديبي ضدّ بني إسرائيل ويُعيد َتْوجيهه بدلاً من ذلك نحو العَدُو؟ تُكمل الآية سِتَّة وثلاثين: ”….عندما يرى (الله) أن قُوَّتهم (قُوَّة بني إسرائيل) قد تلاشت، ولم يبقَ منهم عبدٌ ولا حرّ“. من الواضِح أن عبارة ”ولم يبقَ أحد“ من بني إسرائيل لا يُمْكِن أن تعني حَرْفيًّاً أن كل بني إسرائيل قد ذهَبوا وإلا لانْقَرَضَ بنو إسرائيل ولما بقِيَ أحد ليُخَلَّص. بدلاً من ذلك فإن المُصْطَلَح هو تعبير عبري آخر يعني بِشَكْلٍ أو بآخر أن البَقِيَّة الباقية من بني إسرائيل قد اسْتَنْفَدوا كل طاقَتهم، لقد وَصلوا إلى نقطة العَجْز التّام والاعْتِماد الكامل على الله. في الواقِع لقد تم الطَّعن في التَّرْجَمة المُعْتادة لـ ”لم يبقَ أحدًا عبدًا أو حرًّا“، ويقول العديد من عُلَماء اللُّغة العِبرية الآن أن العِبارة يجب أن تُقرأ ”ولم يبقَ أحدًا حاكمًا ومساعدًا“.
وهكذا فإن القَصْد من ذلك هو أن بني إسرائيل في حالة من الفَوْضى لِدَرَجَة أنها بلا قِيادة؛ حُكّامها ومُوَظفوهم الّذين قادوا بني إسرائيل إلى هذا المأزَق قد ماتوا الآن وذَهَبوا وهكذا فإن بني إسرائيل يَتَحرَّكون مِثْل سفينة تائهة وَسَط أمواج عاتِية. وهكذا هم مستَعِدُون أخيرًا لقُبول دَفَّة جديدة ومُقَدَّسة: قيادة يَهْوَهْ إلَههم.
ولكن ادْرِكوا أن بني إسرائيل (المَفْدِيُّون من الله) أُرْسِلوا جميعًا إلى المَنْفى بعيدًا عن الله، من قِبَل الله، لأنهم تَخلُّوا عنه فِعْليًّا بِعِصْيانهم وعِبادتهم للأوثان. أولئك العِبْرانيّون الّذين ماتوا في ذلك المكان الغَريب (أثناء وُجودهم في المَنْفى) وكان فِداؤهم قد أُلْغِيَ، ظلُّوا مُنْفَصِلين عن الله إلى الأبد. المَحْظوظون الّذين عاشوا خلال المِحْنة الطويلة ورأوا خَطأ طُرُقهم عادوا إلى أحْضان الله التي تَنْتَظِرهم ليُجَدِدوا فِداءهم. من ناحِية، هذا مثال جَيِّد لأُناس نَعْرفهم جميعاً مِمَّن لم يَقْبَلوا الله وماتوا في تلك الحالة مُقابل أولئك الّذين كانوا مَحْظوظين بما فيه الكِفاية ليَعيشوا فَتْرة كافِيَة لِيَروا أخيراً وَضْعهم المَيْؤوس منه ويَقْبَلوا خَلاصه رُبَّما قبل أيام أو ساعات فقط من انْتِهاء فُرْصَتهم بالمَوت.
من ناحِية أُخْرى هذا أيضاً يُشْبِه المَوْقِف الذي تَحدَّثنا عنه في يعقوب خمسة الأسْبوع الماضي حيث كان هناك أخ في المسيح (مُؤمِن) ضلَّ عن الحق (عن خَلاصِه) وحَثَّ يعقوب المُؤمِنين الآخرين على أن يلْحَقوا به لأنه إن مات ذلك الأخ الضَّال في تلك الحالة فإن مَصيره بالانْفِصال الأبَدي عن الله قد حُسِم.
وفي الآية سبعة وثلاثين يقول الله (ساخرًا الى حَدٍّ ما): ”فبماذا نَفَعَتْكم إذن تلك الآلِهة الأُخْرى التي عَبَدْتُموها؟ بما أنها كانت تعني لكم الكثير، وبما أنَّكم كُنْتُم لا تُعيرونني اهْتِمامًا كبيرًا لِدَرَجَة أنكم حَسَبْتُم أنها ستكون أكثر نَفْعًا لكم، فماذا حدث وأين هي تلك الآلِهة الآن؟ من الذي كان يأكُل دِهْن ذبائحكم ويَشرب تقديمات المشروب؟ وبِعِبارة أُخْرى، عندما بدأ بنو إسرائيل يَذْبَحون لتلك الآلهة الزّائفة الذَّبائح التي كان يَنْبَغي أن تكون ليَهْوَهْ، هل ظَهَرت تلك الآلِهة لتَحْميكم عندما اقْتَرب العَدُو؟ كان من المُفْتَرَض أن يكونوا دِرْعًا لكم، لكنَّهم فَشِلوا.
لذلك، يقول الرَّب، هل تَرون الآن أنه لا يوجد إلَه غَيْري؟ أنا الذي أنْقَذْتكم من مصر، وأَعْطَيتكم حياة جديدة، وأَدْخَلتكم إلى أرض الميعاد، ثم سَلَّمْتكم إلى أعْدائكم عندما أَصْبَحْتم غير مُخْلِصين لي. لا توجَد آلِهة أُخْرى لديها السِّلطة أو القُوَّة لِفِعْل مثل هذه الأمور لكم أو ضِدَّكم كما يَفْعَل يَهْوَهْ. ولا يُمْكِن لأي آلِهة أُخْرى أن تَمْنَعني من الشُّروع في إنْزال غَضَبي على من أَخْتاره.
يُرجى المُلاحظة: من الواضِح أن هذه العِبارات من الله مَجازِيَّة. فالله لا يُفَكِّر بِطَريقة مُتَسَلْسِلَة مثل البَشَر؛ فهو لا يَتأرْجَح مَزاجه ولا تَتَقلَّب عواطفه. لا يَمْلك الله سَيْفًا لامِعًا حَرْفيًّا أو يدًا جسدية لِحَمْلِه، لأنه روح وليس له جَسَد مادي. لكن لا يُمْكِن أن يُقال كلام أَصْدَق عن العلاقة بين الرَّب وبني إسرائيل والآلِهة الزائفة ممّا قَرأناه للتَّوْ.
لنَنْتَقِل إلى الآية الثالثة والأربعين. ما تقرأه في الكِتاب المُقَدَّس اليهودي الكامِل يمثل الغالِبِيَّة العُظْمى من تَرْجمات الكِتاب المُقَدَّس. لكنَّ اكِتِشاف وإعادة إنْشاء مَخْطوطات البَحْر المَيِّت أَضافت دَسيسة كبيرة إلى هذا الدُّعاء الأخير من نَشيد موسى الذي يَدعو الأُمَم (تذكَّر، بِحِكْم التَّعْريف، علينا أن نُضيف ذِهْنِيًّا كَلِمَة ”الأُمَميِّين“ إلى الأُمم) إلى الابْتِهاج بما صَنَعَه الله. يستخدم الكِتابُ المُقَدَّس اليهودي الكامِل، مثل العديد من الكُتُب الأُخْرى، النص الماسوري للكِتاب المُقَدَّس العِبري كَمَصْدَر لِوَثيقة العهد القديم. تم إنشاء النصّ الماسوري حوالي عام تسعمئة بعد الميلاد.
تم إنشاء التَّرْجَمة السَّبْعينية (التَّرْجَمة اليونانيّة الأولى للكِتاب المُقَدَّس العِبري) قبل قَرْنين من الزَّمن، وتَسْتَخْدمها بعض تَرْجَمات الكِتاب المُقَدَّس كوثيقة مَصْدرية. بالطَّبْع من يستطيع أن يقول أي مَصدر كان أكثر صِحَّة بين النَّص الماسوري والنص السَبْعيني (على الرّغم من أن الاخْتِلافات طَفيفة جدًا بِشَكْلٍ عام). السّؤال بالنِّسْبة لنا هو أيّ وثيقة مَرْجَعِيَّة كان لها الصِّياغة الصحيحة بدءًا من الآية ثلاثة وأربعين؟ حسنًا، لِحِسْن الحظّ أن مَخْطوطات البَحْر المَيِّت حَسَمَت التَّعادُل. مَخْطوطات البَحْر المَيِّت هي بالضَّبْط تقريبًا مثل السَّبْعينيَّة.
وإِليكم ما تقوله مَخْطوطات البَحْر المَيِّت في تلك الآيات الأخيرة من نَشيد موسى، وأنا أَطْلُب منكم أن تَنْتَبِهوا جَيِّداً
إبتهِجي أيتها السماوات،
ولْيَنْحني له جميع أبناء الله
أيتها الأمم، افرحوا مع شعبه،
وَلْيَتَعَزَّزْ بِهِ جَمِيعُ المَلاَئِكَةِ الإلَهِيَّة
جازوا الرّافِضين له،
فهو سيُطَهِّرُ أَرْضَ شَعْبِهِ.
إذَن كما تَرون هناك مَعلومات أكثر بكثير في النُّصوص المَكْتوبة قبل ألف سنة (مَخْطوطات البَحْر المَيِّت) ممّا هو موجود في النَّص الماسوري. لماذا حُذِفت هذه الآيات في النَّص الماسوري؟ تَحَدَّثْنا عن هذا الأمْر قبل أسْبوعَيْن. على الرّغم من أنها مُجَرَّد تَكَهُّنات، إلّا أنه من المُحْتَمَل أن يكون ذلك بِسَبَب العِبارة العِبْرية الإشْكاليَّة جدًا التي تَظْهر في الأصل، لكن الماسوريّين حَذَفوها: اسْجدوا له جميع بني إلوهيم (اسجدوا له جميع أبناء الإله).
أَجِد أنه من المُثير للاهْتِمام أنه مُباشَرَةً بعد الآيات الوارِدة في نَشيد موسى حيث يَسْخَر الرَّب الإله بِشَكْلٍ رَهيب في سؤالِه لبني إسرائيل عن الخَيْر الذي قَدَّمَته لهم تلك الآلِهة الأُخْرى (الآلهة التي فَضَّلوها على يَهْوَهْ)، أن نَجِد هذا الخِطاب الذي يقول أن على بني إلوهيم (أبناء الإلَه، الكائنات الإلَهِيَّة) أن يَسْجِدوا ليَهْوَهْ. باخْتِصار، يَعْتَقِد الكثيرون أن عُلَماء اليهود الّذين صاغوا النُّصوص الماسوريَّة لم يَكونوا إلاّ يَتْبَعون تَقْليدًا تَطَوَّرَ بإزالة كل ذِكْر لبني إلوهيم في الكِتاب المُقَدَّس لأن اعْتِبار أن هناك كائنات أُخْرى يُمْكِن أن تُعبَد كآلهة (مع أنه من الواضِح أنها ليست آلهة وأنها تحت سيطرة يَهْوَهْ)، كان أساس سُقوط بني إسرائيل باسْتِمْرار في عِبادة الأوثان.
رأيي (وأُشَدِّد على رأيي) هو أن بني إلوهيم (الكائنات الإلَهِيَّة) التي تَحَدَّثَ عنها سِفْر التَّكْوين، الكائنات الإلَهِيَّة التي تُخْبرنا الكتب المُقَدَّسة أن الله عيَّنها على كل أُمَّة على الأرض، كانت ولا تزال حقيقيَّة ومؤثِّرة جدًا على كل أُمَّة. تذكَّروا أننا نَظرنا إلى سِفْر دانيال حيث كان أحد هؤلاء من يني إلوهيم الذي يُدعى أيضًا أمير فارِس قد مَنع ملاك الله من المَجيء إلى دانيال في بابِل، ولم يَكُن هناك سوى رئيس الملائكة الأمير ميخائيل الذي جاء وحارَب أمير فارس الرّوحي هذا الذي مَكّن ملاك دانيال من التَّحَرُّر منه. هناك روح آخر كان له سُلْطان على اليونان مَذْكور أيضًا في نَفْس المقاطِع.
أعْتَقِد أنه، على الأرْجَح، على مَرّ القُرون، على الأقل بعض هؤلاء الأُمَراء الرُّوحيّين الّذين كان لهم سُلْطة على الأُمم الوثنيَّة ( بني إلوهيم) سَمَحوا واسْتَمْتعوا بأن تتمّ عِبادتهم كـ ”آلهة“.
لم يكونوا آلِهة، لكنَّهم كانوا يَتَمَتَّعون بِسُلطةٍ ومَظْهَرٍ رائعَيْن لِدَرَجَة أنه من السَّهْل أن نَتَخيَّل أن شعب الأُمَّة التي لهم سُلْطة عليها يَسْجدون لهم ويَعْتقدون أنهم آلِهة. بعد كل شيء لدينا حوادِث عديدة في الكِتاب المُقَدَّس حيث يَظهر ملاك الله، والأمْر الغَريزي الذي يَفْعَله الشّاهد هو أن يَسْجِد أمام الملاك ويَبْدأ بِعِبادَته (سُرْعان ما يقول الملاك لذلك الشَّخْص أن يَتوقَّف عن ذلك).
لذلك نَجِد هنا في التَّضَرُّع الذي يُنْهي نَشيد موسى في كل من السَّبْعينية وفي مخْطوطات البحر المَيِّت من سِفْر التثنية، نَجِد التَّعْليمات بأن السَّماوات وبني إلوهيم والملائكة والأُمَميِّن (الأُمم) يَجب أن يَسْجدوا جميعًا ليَهْوَهْ. وبِعِبارة أُخْرى، ليس بني إسرائيل فقط بل الجميع يجِب أن يَخْضَعوا للرَّب. بالنِّسْبة لي، هذه الكَلِمات الأخيرة من نَشيد موسى هي على الأرْجَح مُلَخَّص قصير لِجَميع أنواع الكائنات العاقِلة التي خَلَقَها الرَّب، وفي نوع من الاحْتِفال بالنَّصر يقول الرَّب لِجَميع كائناته المَخْلوقة، الرّوحية والجَسَدِيَّة، أن الرَّد المُناسِب على ما حَدَث للتَّو (إنقاذُهُ لبني إسرائيل مَرَّة أُخْرى) هو أن تَتذكَّر هذه الكائنات الرّوحية والبَشَريَّة مكانها في التَّرْتيب السَّماوي وبالتالي أن تَسْجد لِخالقها، يَهْوَهْ، الذي هو فَوْقَ الجميع وفوقَ كل شيء.
بِدايةً من الآية الرابعة والأربعين لدَيْنا نصّ فَرْعي للقصيدة. لقد جَرَت العادة في ذلك العَصْر على أنه عندما كان المَلِك يُدْلي بإعْلانٍ ما كان يَكْتبه، ثم تؤكِّد السِّجِلّات التّاريخيَّة أن مُسَجِّل الإعلان قد نَفَّذ هذا الإعلان وقدَّمه للشعب كما أُمِر.
وبما أن يسوع كان بِصَدَد تَوَلّي قِيادة بني إسرائيل فقد ظَهَر مع موسى لِيَتْلو كل الكَلِمات (كل الدبار المُعْطاة له من الله) على شعب إسرائيل. يُحَذِّر موسى الشَّعْب من أن يأخُذوا ”كل هذا الكلام“ الذي قالَه لهم نِيابةً عن يَهْوَهْ على مَحْمَل الجَدّ. تُشير ”كل هذه الكَلِمات“ إلى التَّعْليم بأكْمَلِه (كل ما نُسَمِّيه سِفْر التثنية) وليس فقط نَشيد موسى. إن بَقاء بني إسرائيل كأُمَّة يَعْتَمِد على قُبول شعب الله لهذه التَّعْليمات والأوامِر على أنَّها حق ثم طاعَتها.
يا له من تَحْذير رَصين لنا نحن المؤمِنون باليوم الأخير؛ تَحْذير لأولئك الّذين يُشَكِّلون الآن بني إسرائيل الروحِيِّين مُضَمَّن في الآيَتَيْن الأخيرتَيْن من سِفْر التثنية إثنين وثلاثين. يقول موسى للشَّعب أن ما قاله لهم ليس تافِهًا أو فارِغًا. هذه الدبار (هذه الكَلِمات) مُرادفة لكَلِمَة ”الأوامِر“؛ الدبار، الأوامِر، يجب اتِّباعُها وليس أن تُحال إلى اقْتِراحات أو مُجاملات أو خِيارات. والتَّحْذير هو أن الثِّقة بالرَّب واتباع أوامِره هي الحياة نَفْسها. تذكَّروا أن الحياة والبرَكة هما الغَرَضان الإيجابِيّان للنّاموس بَيْنَما المَوْت واللَّعَنات هما الغَرَضان السَّلْبِيّان.
يا كَنيسة، لقد قَلَّلْنا من شأن وصايا الله عبر القرون، ولم يَحْدُث أكثر من ذلك في المائة سنة الأخيرة. لقد وَصَلْنا إلى دَرَجة أنه غالبًا ما يَتِمّ تَعْليمِنا أن الطّاعة لنَواميس الله هي في الواقِع أمرٌ سَيِّئ في الأساس، لقد حَوَّلْناها إلى دلالة سلبيَّة مثل "التَّزَمُّت القانوني". تَخَيَّلوا: لقد أصْبَحْنا مَفْتونين جدًا بِعَقائدنا ومُثُلنا العليا، مُغرَمين جِدًّا بِشَخْصيَّتنا الفريدة ومُقْتنعين بِصلاح قُلوبنا، لِدَرَجَة أن طاعة أوامِر الرَّب المكتوبة تُعتبَر معارضِة للمسيح! هنا يقول الرَّب من خلال وَسيطه موسى أن شَرائعه، تَوْراته، هي الحياة لِشَعبه وأي طريق آخر هو (بِطبيعة الحال) مَوت لِشَعبه. أقول لكم يا إخْوَتي وأخَواتي في المسيح؛ أنتم أيضًا شعبه، اخْتاروا الحياة! اخْتاروا أن تَصْغوا إلى هذا التَّحْذير. اخْتاروا أن تكونوا مُطيعين للرَّب. في الواقِع إن موسى على وَشَك أن يَكْتَشف أنه حتى بصفته ثاني أعْظَم وسيط على الإطْلاق (في المرتبة الثانية بعد يسوع)، فهو أيضًا خاضِع لهذا التَّحْذير.
والدَّليل على ذلك نَجِده في الآية الثامنة والأربعين عندما يأمُر يَهْوَهْ موسى بِالصُّعود الى جبل نيبو وهناك سيَلْفظ أنْفاسه الأخيرة. وكما مات هارون قبل سِتَّة أشهر من اليوم السابِق على قِمَّة جبل حور، كذلك سيَموت موسى على جبل نيبو. هناك أهَمِّية كبيرة للمَوت على مكان مُرْتفع. فالأماكِن المُرْتَفِعة، قِمَمْ الجِبال وما شابَهَها، كان القُدَماء يَعْتَقِدون أنها مَسْكَنْ الآلِهة. كما بَيَّنْت لكم أن أقْدَم لَقَب للإلَه الذي أُعْطِيَ لنا في الكِتاب المُقَدَّس هو إل شداي، أي إلَه الجبل. حتى لَقَب الله الذي نَجِده مُحَبَّبًا جدًا، الصَّخْرة، تسور بالعِبريّة، لا يعني صَخْرة مثل كِتْلة صَخْرِيَّة، بل يعني جَرْفًا صَخْرِيًّا يَطِلّ على الوِديان والسُّهول المُمْتَدَّة تَحْته. كانت مَذابح الآلِهة توضَع دائمًا على أعلى قِمَّة جُغْرافيَّة مُمْكنة في المنطقة التي يعيش فيها الشَّعْب. أن تَموت وتُدْفَن في مكان مُرْتَفِع يعني أن تموت وتُدفن بالقرب من الله. لقد دعا الرَّب بنَفْسه موسى أن يأتي إلى المكان المُرْتَفِع في جبل نيبو لأنه كان أعلى قِمَّة في منطقة موآب حيث كان بنو إسرائيل يُخَيِّمون الآن. لم يُوَفِّر لموسى مَنْظرًا بانوراميًّا لأرض الميعاد التي لن يَدْخُلَها أبَدًا فَحَسْب، بل كان شَرَفًا عظيمًا أن يَدْعوه الله إلى قِمَّة الجبل ليأتي ويكون بِقُرْبه.
مات كلاهُما قبل دُخول أرض الميعاد، نتيجة ”اهْتِزاز الإيمان“ مع الرَّب وفقًا للآية واحد وخمسين. لقد ناقش العُلَماء والحاخامات اليهود الطَّبيعة الدَّقيقة لِمُخالفة موسى للرَّب لمدة ثلاثة آلاف سنة. تذكَّروا أنها تَنْبَع من الوقت الذي كان فيه بنو إسرائيل في البرِّيّة عندما احتاجوا إلى الماء وأمَر الرَّب هارون وموسى أن يُكَلِّما الصَّخْرة ويأمُرانها بإخْراج الماء. وبَدَلاً من ذلك تكلَّم موسى إلى الشَّعْب وضَرَب الصَّخْرة. هذا العمل الخاطئ فَشِل في تأكيد قداسة الله، وكانت النَّتيجَة قاسِيَة بما فيه الكفاية حتى أن وَسيط الله الأول، موسى، والكاهِن الأعظم الأول، هارون، لن يَدْخُلوا أرض راحَتهم، أرض كنعان.
أَتَساءل: هل يُمْكِن أن يكون الهَدَف من العُقوبة الرَّهيبة ضدّ موسى وأخيه هو أن الوسيط البَشَري الوحيد الذي كان بإمكانه أن يقود شعب الله إلى أرض الله الموعودة كان يجب أن يكون وَسيطًا كامِلًا. رُبَّما كان المَقْصود أن نرى أن الطَّبيعة الدَّقيقة للمُخالفة غير مُهِمَّة على الإطْلاق، بل المَقْصود أنه كانت هناك مُخالَفة. في الواقع في حين أن المُخالفات التي ارْتَكبها موسى وهارون كانت، بالنِّسْبة لبني إسرائيل العاديِّين أو بالنِّسْبة لنا اليوم أو حتى بالنِّسْبة لأرْقى العُقول اللّاهوتِيَّة التي أُنْتِجت على الإطلاق، مُخالفات بَسيطة نِسْبِيًّا، لذلك فإن أن يأمُر الرَّب بِعِقاب قاسٍ كهذا لِمِثل هؤلاء الرِّجال العُظَماء لا يبدو مُتَناسِبًا. لا يبدو أنه يوجد تناسُب بين الفِعل والنَّتيجَة.
كان موسى رَجُلاً مُمَيَّزًا للغاية. على الرّغم من أن رئيس الكَهَنة غالبًا ما يُشار إليه كَوَسيط، وحتى يَهوشَع كان يَنْظر إليه البعض على أنه وَسيط بديل لبني إسرائيل (يحلّ محلّ موسى)، إلا أن موسى في الواقِع كان أعلى بكثير من هَذَيْن الإثْنَيْن. لم يَكُن لهارون ولا ليَهوشع منصبًا يَقْتَرِب من مَنْصب موسى. لم يَحْصل أي منهما على امْتِياز التَّحَدُّث إلى الله وَجْهًا لِوَجْه. لم يُسمح لِيَهوشع أبَدًا بالدُّخول إلى قِدْس الأقْداس مثل رئيس الكَهَنة وموسى؛ وحتى في ذلك الحين لم يَكُن رئيس الكَهَنة يَدْخُل إلا مَرَّة واحدة في السَّنة في يوم الغُفْران بَيْنَما كان موسى يَذْهب أمام تابوت العهد بانْتِظام.
ومع ذلك كان مَطْلب الله من موسى هو الكَمال؛ وبما أن موسى كان ابْنًا لأبَوَيْنِ بَشَرِيَّيْن، يَحْمل معه نَزْعة شِرِّيرة وطبيعة خاطِئة جاءت مع سُقوط آدم، لم يَسْتطع أن يفَي بالمِعْيار. كانت مُخالَفَة ضَرْب الصَّخْرة خَطيئة. حتى لو أرَدْنا أن نُسَمِّيها أَصْغَر خطيئة، فقد كانت خطيئة. حتى أصْغر خطيئة حَرَمَت موسى من أن يكون مُخَلِّصًا لبني إسرائيل. لذا، بَدَلاً من ذلك، أعْقَب هذا انْتِظار ألف وثلاثمئة عام حتى وُلِد رَجُل لم يَكُن له أَبْ بَشَري؛ رَجُل تمَّ الحَبَل به إلَهيًّا واسْتَطاع أن يَفي بمِعْيار وسيط يَهْوَهْ الكامِل. كان هذا الرَّجُل هو يسوع. كان بإمْكانه أن يكون مُخَلِّصًا لبني إسرائيل لأنه فَعَل شيئًا لم يَسْتَطع موسى أن يَفْعَله؛ لم يَرْتَكِب يسوع حتى أصْغَر مُخالفة، ولا أصْغَر خطيئة. كان كامِلاً. لقد اتَّبع النّاموس تَمامًا، بالرّوح التي كان من المُفْتَرَض أن يَتْبَعه بها بالضبط.
موسى هو مِثال ومثال يُحتذى به، ولو اسْتَطاع أي إنسان حَيّ اليوم أن يَصِل حتى إلى نَفْس الدَرَجَة من الكمال، لَنَظَر إليه الناس بِرَهْبة، ولكن حتى هذا لا يَكْفي لإرْضاء نِظام عَدالَة الله.
أن يَعْتَقِد أَيّْ إنسان أن قلوبَنا نَقِيَّة لِدَرَجَة أننا نَسْتَطيع أن نتجاهَل أصْغَر شريعة من شرائع الله من دون عواقِب، حتى وإن كنا قد افْتُدينا؛ أو أننا صالِحون وأبْرار لِدَرَجَة أننا لسنا بِحاجة إلى يسوع لِيُكَفّر عن نَقْصنا وخَطايانا؛ هذا الإنسان يَسير في طريق أكيد إلى مُواجَهة مع الخالق.
في الأسْبوع القادِم سنَبْدأ الإصْحاح ثلاثة وثلاثين، مُباركة موسى الوِداعِيَّة لبني إسرائيل.