سِفْر التثنية
الدَّرْس الثامن والأربعون – الإصْحاح ثلاثة وثلاثين
نَقْتَرِب بِسُرعة من نِهاية دِراسَتنا المُتَعَمِّقة للأسْفار الخمسة الأولى من الكِتاب المُقَدَّس. أنا مُتأكِّد من أن الكثيرين منكم قد أدْرَكوا الآن تمامًا مدى أهَمِّيّة أن نَضَع أساس إيماننا بالمسيح على التَّوْراة، وأن نَضَع العهد الجديد الذي يُقَدِّم لنا مَسيحَنا على رأس ذلك.
ولَكِنّي أعْرف أيضًا من خلال حديثي مع بَعْضكم أن هذا لم يَكُن طَريقًا سَهِل اكْتِشافه، وأنه كان مؤلِمًا في بعض الأحيان أن نُدْرك أنَّنا في الماضي كُنّا نَعْتَمِد في كثير من الأحيان على تَعاليم مَدْفوعة بأجِنْدات مُعَيَّنة كَنِقاطٍ مَرْجَعِيَّة لإيماننا بَدَلًا من كَلِمَة الله كما هي. أعْلَم أيضًا أن آخرين منكم رُبَّما لا يزالون غير مُقْتَنِعين الى حَدٍّ ما على الأقلّ باسْتِمْرار صَلاحيّة شريعة موسى التي تُشَكِّل جِزْءًا لا بأس به من التَّوْراة؛ وآخَرون منكم لا يَشْعُرون بالارْتِياح الشَّديد من الابْتِسامات والكَلِمَات المُوَجَّهة إليكم من أولئك الذين يَعْتَقِدون أنكم انْقَلَبْتم على المُعْتَقدات التي طالما اعْتَنَقَتْها الكَنيسة السائدة أو حتى أنكم رُبَّما خَفَّفْتم من ثِقَتكم بِيَسوع المسيح وبَدَلًا من ذلك تَتَبَنّون شَكْلًا قديمًا من أشكال التَّبْرير الذاتي الذي أُثْبِت أنه مُدَمِّر للكثير من اليهود لأكثر من ألفين وخَمْسمئة عام.
لقد صادَفتُ مؤَخَّرًا شيئًا قد يُخَفِّف من انْزِعاج البعض، ويَفْعَل شيئًا آخر للباقين منكم: التَّحَقُّق من صِحَّة ما تَعَلَّمْتموه ويَمْنَحُكم الحماس والفَرَح والالْتِزام لِتَعَلُّم المزيد من العهد الأصلي للكِتاب المُقَدَّس على الرَّغم من جُهود الكثيرين لإخراجِكم عن مَساركم.
أحَد عشرات المَصادر التي أسْتَخْدِمُها لإعداد دروس التَّوْراة هذه هو تفسير الكتاب المُقَدَّس العالمي. أعتقِد أنه يُمْكنني أن أقول دون مُخاطرة كبيرة بالاخْتلاف أنه في عالم الأكاديميِّين المَسيحيِّين تُصنَّف هذه السِلْسِلَة التَّفْسيريّة كأفْضل وأكْمَل عمل في مجال البحث والتفسير للكِتاب المُقَدَّس الذي تم إنجازه في القرن العشرين ولم يتفوَّق عليها أي عمل مُنْفَرِد. تتألَّف سِلْسِلَة التفسيرات هذه من إثنين وخمسينَ مُجلَّدًا مُنْفَصِلاً يَبلغ مجموع صفحاتها أكثر من ثلاثين ألف صفحة. وقد قام بِكِتابتها وتَحريرها أفْضل العُقول من نِخْبة اللّاهوتيّين واالعُلَماء المَسيحيِّين. ما يَجعلها فريدة من نَوْعها ليس فقط عمق كل مجلَّد، ولكن أيضًا مَزيج من المجالات المُتَخصِّصة لكل من المُساهمين. هذه ليست سِلْسِلَة ذات تَوَجُّه ليبِرالي أو مُحافظ. إنها بِبَساطة تحاول أن تَكشف للعِلْمانيّين ورجال الدّين أحْدَث المفاهيم المُسْتَقاة من الكِتاب المُقَدَّس بطريقة مُباشرة دون أن تتجاهل الصُّعوبات أو أن تَسْتَخْدِم الرُّموز لِحَلِّها.
كاتب دِراسة سِفْر التثنية المُكَوَّن من مُجَلَّدَيْن والذي يَقْتَرِب طوله من ألفي صفحة هو دوان ل. كريستنسن. يتمتع د. كريستنسن بخلفيَّةٍ جَيِّدة؛ فقد تلقّى تَدْريبه الأوّل من المدرسة اللّاهوتيَّة المَعْمَدانيّة الأمريكيّة، ثم تلقَّى تَدْريبًا مُتَقَدِّمًا في معهد ماساتشوستس للتِّكْنولوجيا، ثم انْتَقَل إلى هارفارد للحصول على درجة الدُكتوراه في اللّاهوت، ثم أضاف إلى تلك الإنجازات فترة طويلة في الجامعة البابَوِيَّة في روما ثم الجامعة العبرية في القِدْس.
أقول لكم كل ذلك لأُثْبِتَ لكم أن ما أنا على وشك أن أَقْتَبِسه لكم يأتي من عالِم مسيحي أُممي مُتَمَرِّس تلقى تعليمه على مجموعة متنوعة من وجهات النظر اللاهوتية، وهو يُعتبر من أعظم علماء العهد القديم المعاصرين. لذا، اصبروا معي وأنا أقتبس لكم فقرة أو فقرتين من المجلد الثاني من دراسته لسفر التثنية في تَفسير الكتاب المقدس العالمي.
يقول دوان كريستنسن ما يلي "إن سِفْر التثنية ثلاثة وثلاثين وأربعة وثلاثين هي القِراءات التَّقْليديّة في ليتورجيا الكنيس في عيد سمشاط التَّوْراة (الاحْتِفال الذي يَحدث بين اليهود عندما تَنتهي الدَّوْرة السَّنوية لقراءة التَّوْراة من البداية إلى النهاية). من الأفضل للمسيحيّين أن يَسْتعيدوا بعضًا من ”فرح التَّوْراة“ في العبادة العامة. لقد أساء الكثيرون قِراءة تَعاليم يسوع في مَوْعِظته على الجبل. عندما قال يسوع: ”سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاء ِ…… أَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ.“ في سِفْر مَتّى، لم يَكُن يستبدل التَّوْراة. كان يَتحدّى فقط الطريقة التي كانت تُفسَّر بها التَّوْراة في المجالِس الحاخامية في عَصره. كان يسوع يُفَسِّر النَّص كما هو مَكْتوب، لأنه عند تَفْسيره بِشَكْلٍ صحيح، لا يوجد فيه ما يَتعارض مع رِسالته الإنجيلية.
يُتابع البروفيسور كريستنسن التَّوْراة هي أُسْلوب حياة ومَصْدَر المعنى وفرح لليهود والمَسيحيِّين على حَدٍّ سواء. لم يَكُن القَصْد من التَّوْراة أن تكون شيئًا خارِجًا عنا، لا يَفهمه إلا المُتَخَصّصون المُدَرَّبون تدريبًا عاليًا. كان على كل فَرد من أفراد الجماعة أن يتعلَّم التَّوْراة؛ والرِسالة عَمَليَّة للغاية. لَخَّص يسوع الأمْر جيدًا عندما سُئِل: ”أَيُّ وَصِيَّةٍ فِي التَّوْراة هِيَ أَعْظَمُ وَصِيَّةٍ؟ فقال له: ”تُحِبُّ الرَّب إِلَهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ“. هَذِهِ هِيَ الْوَصِيَّةُ الْأَعْظَمُ وَالأولى. والثانية مثلها: ”تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ“. عَلَى هَاتَيْنِ الْوَصِيَّتَيْنِ يتَعَلَّق كُلُّ النَّاموس وَالأَنْبِياء“.
إن النَّاموس (التَّوْراة) وَالأَنْبِياء، التي أشار إليها يسوع في هذه المُناسبة، تُشَكِّل نِصْف الكِتاب المُقَدَّس المسيحي بالكامِل كما نَعْرفه اليوم وكلّها مَبْنِيَّة على هذين التَّعْليمَيْن الأساسيَّيْن في سِفْر التثنية. من الأفضل لنا أن نَتعرَّف أكثر على كَلِمَات التَّوْراة، كَدَليل للحياة السَّليمة بالطريقة نَفْسها التي عاش بها يسوع وعلّم تلاميذه. وهل هناك طريقة أفضل للقيام بذلك من إدْراج القراءة العَلَنيَّة المُنْتَظِمة للتوراة مرَّةً أخرى في سياق العِبادة المسيحيَّة“.
في هذا العالَم الذي نَعيش فيه والذي يَتَّسِم بالشِّعارات، يَسْتَمْتِع المسيحيّون بارْتِداء أَسْوار المِعْصَم التي تَطْرح السؤال ….. ماذا كان يسوع سيَفْعَل؟ يُجيب الدكتور كريستِنْسِن على هذا السُّؤال بِطريقة أساسِيَّة بِقَوْله أن يسوع كان سيُشَجِّعُنا على عَيْش حياة التَّوْراة وتعليم مبادئ التَّوْراة. كونوا مُطْمَئِنِّين، يا طُلاّب التَّوْراة، أننا نَفعل ذلك بالضَّبْط (على الرغم من عدم كمال ذلك) وأَنَّكُم جِزء من نَهضة لا تقل عن نهضة الأيام الأخيرة داخل الكنيسة لإعادة كلمة الله، كلها، وجعلها مركز حياتنا وعبادتنا. لكن المَقْصود أيضًا أن نَتعلَّم أن نُمَيِّز، ثم نَنْبُذ كل ما ليس من الله بل من البَشَر فقط. ما يَتطلَّبه الأمْر هو الاسْتِعْداد لأن يُشَكِّلنا الرَّب ويُصْقِلَنا. هذا التَّشْكيل الإلَهي يَتضمَّن التَّقْليم؛ إنه يعني إزالة الأشياء المَيِّتة والتي تموت من حياتنا (لكنَّها دافئة ومألوفة ومُريحة) حتى يُمْكِنُ اسْتِبْدالها بِنُمُوّ جديد وحَيَوي.
كما يقول الدكتور كريسْتِنْسِن بِبَلاغة، ما هي أفْضَل طريقةٍ يُمكن أن تكون من أن يَتَعَمَّق المؤمِن بالتَّوْراة ويَراها على حَقيقتها؛ طريق الخَيْر والحياة كما حَدَّدها الخالِق. لا تُخْطِئ: التَّوْراة ليست مَوْجودة لتُخَلِّصَنا. يسوع يَفْعَل ذلك. ولكن بِمُجَرَّد أن نُخَلَّص ونُفْتَدى بِدَمِه الفادي، ماذا يُمْكِن أن تكون اسْتِجابتنا المُناسِبة غير أن نَخْدمه بالطَّاعة؟ وأين يُمْكِننا أن نَجِد ما هي الطَّاعة غَير كَلِمَته المَكْتوبة؟ إذا نَظَرْنا إلى قلوبِنا كمَصْدَر لإرادَتْه لحياتنا، أو بَحَثْنا في فَلْسفات البَشَر (مهما بَدَت رائعة) عن الحدود والقُيود التي يَجِب أن نَعيش فيها حتى نَتَمَكَّن من العَيْش في وِئامٍ مع يَهْوَهْ، فإنَّنا سَنْكون قد شَرِبْنا من ماءٍ عَكِر تمامًا.
افْتَحوا أناجيلَكم على سِفْر التثنية الإصحاح ثلاثة وثلاثين.
اقرأ سِفْر التثنية الفصل ثلاثة وثلاثين كله
إن نَشيد موسى في سِفْر التثنية إثنين وثلاثين ومُباركة موسى التي قَرَأْناها للتَّو في الإصحاح ثلاثة وثلاثين يُشَكِّلان معًا ما يَرْقى إلى أن يكون آخر كَلِمَات موسى لِشَعْب إسرائيل. ولكن لا يَسَعُنا إلا أن نُلاحظ أن هناك تَبايُنًا حادًّا بين رِسالَتَي هاتين القَصيدَتين.
إن نَشيد موسى هو في الأساس تاريخ فِداء بني إسرائيل، والفِداء يَدور حول نِظام عدالة الله. إنه مَليء بالتَّحْذيرات ويَعْرض مُسْتَقبَلا مُظْلِمًا لبني إسرائيل إذا اتَّبَعوا الطريق الحَتْمي تقريبًا لِعِبادة الأصْنام والتَّمَرُّد على يَهْوَهْ. ولكن بَرَكَة موسى تُقَدِّم إمكانيَّة وأمَل مُسْتَقبَل سعيد مع الوَفْرة والازْدِهار الإلَهي؛ وهي تَفْعَل ذلك في إطار سِلْسِلَةٍ من الإعْلانات النَّبَوية المُتَعَلِّقة بكل سِبْط من أسباط بني إسرائيل على حِدَة.
تُقَدِّم هذه الرِّسالة المُشَجِّعة والمُتَفائلة جانبًا من موسى لم يَرَه بنو إسرائيل على الأرْجَح قبل هذه اللَّحْظة. لقد أمْضى السَّنوات الأربعين الأخيرة من حياته مُحاوِلاً قِيادة شَعْب قاوَم تلك القِيادة في كل خِطْوَة. لقد أشْرَفَ على إعْطاء التَّوْراة وتنفيذ الشَّريعة خلال تلك الفَتْرة بأكْمَلها، مُسْتَخْدِمًا العصا أكثر بكثير من الجَزْرة لأن شَخْصِيَّة هذا الشَّعب العَنيد الذي كان يَحْكمه كانت تتطلَّب ذلك. رأى الشَّعب أن موسى هو الشَّخص الذي وَبَّخَهم وأَرْشَدَهم. تمامًا كما هو الحال مع نِظام القانون الجِنائي الحديث لدينا، فإن المَسْؤولين عن إقامة العَدْل يتعامَلون بِشَكْلٍ حَصْري تقريبًا مع ناحية المُلاحقة والعِقاب من المُعادَلة؛ فالبَرَكات التي تأتي من النِظام القضائي الأمريكي تتجلَّى بِشَكْلٍ أساسي في غياب العِقاب فقط ولا تَتَضَمَّن المُكافأة على فِعْل الصَّواب.
في مُعْظَم الأحيان كان الله يُوَزِّع النِّعَم، وموسى يُوَزِّع العواقِب على سوء السُّلوك؛ فالله هو الذي وَضَعَ الشَّرائع وموسى هو الذي يُطَبِّقها. هل من العجيب أن موسى بعد سنوات في الصَّحراء يقود هذه الأُمَّة المُتَحَفِّظة المُكَوَّنة من ثلاثة ملايين نَفْس، أن يَضْرُب موسى بِغَضَبٍ صَخْرة ليُخْرِجَ الماء بَدَلًا من أن يُكَلِّمها عندما كان بنو إسرائيل عطْشى وبَعيدين عن أي مَصْدَر ماء مَعْروف. لقد كان موسى يَتوق إلى القليل من الفَضْل والامْتِنان لجَعْل حياة هؤلاء العِبْرانيِّين أسْهَل؛ ولكن بَدَلًا من ذلك كان هو المُتَلَقّي عادةً للتَّذَمُّر والشَّكْوى اليَوْمِيَّة لِجَعلِ بني إسرائيل يَتخطّون العلامة التي وَضَعَها الرَّب، وليس موسى.
يبدو كما لو أن موسى كان دائمًا حامِل التَّحْذيرات الإلَهية الرَّهيبة وَوكيل لَعْنات الله. لقد كان دائمًا رَصينًا وجادًا لأن مُهِمَّته وهَدَفه كانا عِبْئًا كبيرًا على عاتِقِه الذي كان يَحْمِله على كَتِفَيْه. لذلك فَكَوْنه قادِرًا على إلْقاء خِطاب الوَداع الذي كان يتحدَّث أخيرًا فقط عن الأمَل والفَرَح والبَرَكَة والمُسْتَقبَل الرائع كان بلا شكّ راحةً كبيرة له، ومن المُرَجَّح أن الشَّعب تَساءل عن هَوِيَّة هذا الرَجُل الذي كان يتحدَّث إليهم بهذه الطريقة الآن بعد كل هذا الوقت. لقد كان موسى هو والِد بني إسرائيل طوال الأربعين سنة الماضِيَة، وبالتالي كان عليه أن يَتصرَّف على هذا النحو. ولكن بينما كان يسوع على وَشَك أن يَتَسَلَّم عَصا القِيادة ويتولَّى دَوْر الأب الصارِم لبني إسرائيل، كان بإمكان موسى أن يتحوَّل إلى جَدّ بني إسرائيل العَطوف ويَسْتَمْتِع ببني إسرائيل في الساعات القليلة الأخيرة من حياته.
أولَئك الذين هم أجْداد يَعْرِفون بالضَّبْط ما أتَحَدَّث عنه؛ وأولَئك الّذين لم يَنالوا مثل هذه النِّعْمة من الله قد لا يَعْرِفون. الآباء والأمَّهات هم أصْحاب الثقل في الأسْرَة؛ فمِن مَسؤوليّة الآباء والأُمَّهات أن يُنَظِّموا البُنْيَة ويَضَعوا الحُدود لأبْنائهم. يَجِب على الآباء والأُمَّهات أن يَضَعوا القواعِد ثم يُتابِعوا من خلال التأكُّد من طاعَتها؛ ولكن يَجِب أن يكونوا أيضًا هم الَّذين يُنَفِّذون العُقوبات على المُخالفات. ويتمّ وَضْع هذه القواعِد للصِّغار الذين بِطَبيعتهم لا يُطيقون الانْتِظار لاخْتِبارها وعادةً ما لا يُحِبّون القواعِد مهما كانت. وللأسَف فإن القاعِدة السَّائدة (بِسَبَب هذه الدّيناميكية) هي أن على الآباء والأُمَّهات أن يَطْلُبوا من أبْنائهم احْتِرامًا أكثر من الحُبّ؛ وعادةً من أجْل الحُصول على هذا الاحْتِرام يَجِب أن يَكْتَسِب الطِّفل قَدْرًا صِحِّيًّا من الخَوْف من العواقِب التي قد تترتَّب على مُخالفة واضِع القانون القَوي: الأب.
من ناحية أخرى، يكون الأجْداد أكثر اسْتِرْخاءً بشأن عمليَّة التَّعامل مع تَرْبِية الأطفال بأكْمَلها. لقد أصْبَحَ لدينا أخيرًا قِدْرةٌ أفْضَل على التَّعامل مع ما يَهِمّ وما لا يَهِمّ؛ لقد رأيْنا كل شيء وأصبح شِعارنا ”هذا أيضًا سَيَمرّ“. لا يتعيَّن على الأجداد التَّعامل مع إرْساء الانْضِباط أو تَنْفيذه أو رُبَّما حَجْب قِطْعة الشوكولاتة الثانية. ئحن نَميل إلى اصْطِحاب الحَفيد المُتَمَرِّد الذي لا يزال يَعْتَقِد أن بإمكانه رَمي لَفَّةٍ كاملة من ورقِ التْواليت غير المفتوحة في المِرحاض (على الرَّغم من النتائج نفسها للمرة التاسعة على التَّوالي) ونُخبرهم عن الوقت الذي غسلنا فيه دزِّينة من أفضل قُمْصان والِدِنا البيضاء، مع اثنين من الأقلام الحِبْريَّة التي نَسينا إزالتها من الجُيوب.
أو سَنَقِف عند الزاوية حيث لا يَسْتَطيعون سَماعنا ونُعْجب بإبْداعهم وهم يَضَعون خِطَّة لِصُنْع نادٍ كامل مع نار مُخَيَّم من داخل شاحِنة الجَدَّة الصغيرة. يتمتَّع الأجداد بِمَنْظور مُخْتَلِف عن مَنْظور الآباء والأُمَّهات في الحياة.
لقد أصْبَح موسى الآن جدّ بني إسرائيل، ولِفَتْرة وَجيزة جدًا يُمْكِنه أن ينظر إلى بني إسرائيل بِعُيون مليئة بالعِشْق والرَّجاء والرَّحْمة ويَتْرك القلَق والتَّأديب لِشَخْص آخر.
تُوضِح الآية الأولى أنه لم يَكُن موسى هو الذي كَتَب كَلِمَات هذه الآية الثالثة والثلاثين لأنه يتحدَّث عن موسى بضميرالغائب، ويتحدَّث عنه بِصيغة الماضي. إنها مَكْتوبة مثل شَخْص يتذكَّر خِطاب جيتيسْبيرغ بعد أن اسْتَسْلَم لِنْكولْن لِجُروحه.
نَجِد في هذه الآية الأولى لَقَبًا مُهِمًّا (لم يُستخدَم من قبل) لموسى؛ فهو يُدعى ”رَجُل الله“. يقول بعض العُلَماء أن هذا اللَّقَب الذي لم يُستخدم من قبل لموسى هو دليل على أن مُحَرِّرًا عبرانيًّا أضاف الإصْحاح الثالث والثلاثين من سِفْر التثنية بعد حياة موسى بِوَقْت طويل، ولكن هناك تَفْسير آخر أبْسَط بِكَثير. إن ”رَجُل الله“ ما هو إلّا طريقة أُخرى لِقَوْل ”نَبي“، وسنَرى العديد من الأنْبِياء في الكِتاب المُقَدَّس يُطلَق عليهم تَحديدًا لَقَب ”رَجُل الله“. لقد شَغَل موسى مَنْصِب وَسيط بني إسرائيل الفريد، ولكن الآن وقد انْتَهى زَمانُه كان من المُناسِب أن نَكْشف عن سِمَة أخرى لِموسى وأقواله، وهي أن الكَلِمَات التي قالَها كانت نَبَوِيَّة في كثير من الأحْيان. كان موسى بالفِعْل نَبِيًّا، رَجُل الله.
إن خِطاب الوِداع الذي كان موسى على وَشَك التَّحَدُّث به يُشْبِه الى حَدٍّ كبير بَرَكَة البَطْرِيَرك العَظيم يعقوب على فِراش المَوت لأبنائه، أسْباط بني إسرائيل كما هو مُسجَّل في سِفْر التَّكوين. مثل بَرَكَة يعقوب تأخذ بَرَكَة موسى عَددًا من الأشكال. بعض البَرَكات تُشْبِه تَنْصيب البِكْر كَسُلْطة وَطَنِيِّة جَديدة؛ والبَرَكات الأخرى هي الأمَل لمُسْتَقبَل سعيد. غالبًا ما تكون هذه البَرَكات أوْصافًا لِطَبيعة وشَخْصِيَّة القبائل المُخْتَلِفة، كما ستكون في الأراضي المُخَصَّصة لها في كنعان، وبعضها التِماسات إلى يَهْوَهْ من أجل أن تكون مَصائر القبائل مَضْمونة ومَحْمِيَّة بِشَكْلٍ خارِق للطَّبيعة.
على نحو مُناسِب، قبل أن يَبْدأ موسى في النُّطْق بمُبارَكته على شَعْبه وهو على فِراش الموت، فإنه يُعطي الفَضْل حيث يَجِب أن يكون الفَضْل: إلى الله المَجيد الذي لا مَثيل له الذي كوَّن بني إسرائيل والذي وافَق أن يكون إلَهَهم وفاديهم. لِفَهْم غرض وسياق الآيات العديدة الأولى نحتاج أن نرى أن ما يَتمّ وَصْفه هو اقتراب يَهْوَهْ من مَناطق البَرِّيّة التي تقع في المقام الأوّل جنوب أرض الميعاد. إن الصّورة المَرْسومة لنا هي صورة يَهْوَهْ القادِم من جبال هذه الصَّحاري الجّنوبية لكي يُنْقِذ بني إسرائيل من أيْدي مِصْر القاسية، ثم يَفْتَديهم لِنَفْسه كشَعْبه. ولذلك فإن هذه المقاطِع تتحدَّث عن سيناء (شبه جزيرة سيناء وجبل سيناء)، وسير (المِنْطَقَة والجبل) في أرض أدوم، وعلى الرَّغم من التَّرْجمة المُعْتادة ”جبل باران“، فإن جبال باران هي المشار إليها (لم يتمّ تَحديد أي قِمَّة جَبَليَّة مُحَدَّدة تُسَمّى جبل باران).
بعد ذلك هناك إشارة إلى مَكان يُسَمّى ريبيبوث-كوديش يَظهر في كل من مَخْطوطات البحر المَيِّت وفي السَّبْعينيَّة (التَّرْجمة اليونانية الأولى للكِتاب المُقَدَّس العبري)، ولكن لم يتمّ تقديمه كمكان في النُّصوص الماسوريّة لذلك لن نَجِده مَوْصوفًا بهذه الطريقة في الكِتاب المُقَدَّس اليهودي الكامِل. ريبيبوث تعني ”أعداد لا تُحصى“، وبالتالي فإن عنوان المكان هو ”أعداد لا تُحصى مُقَدَّسة“. وهكذا يأخُذ النّصّ الماسوريّ عبارة ريبيبوث- كودش وبَدَلًا من أن يَجْعلَها مكانًا، يَجْعلها عِبارة حَرْفِيَّة: ”أعداد لا تُحصى مُقَدَّسة“ (وهكذا يُعطينا صورة ذِهْنِيَّة عن كائنات ملائكيَّة). ولكن فِكْرة أن الله يَقْتَرِب من أرض الميعاد مع عدد لا يُحْصى من المَلائكة عندما يكون المَقْطَع بأكْمَلِه عن المناطق الصَّحْراويَّة التي اجْتازَها بنو إسرائيل للوصول إلى كنعان لا تَتَناسب بِبَساطة. من المؤكَّد تقريبًا أن هذا يَتحدَّث عن مِنْطَقَة قريبة من قادِش (وليس الملائكة)، لأن قادِش تقع في بَرِّيَة باران، على حدود سعير.
بالنِّسْبَة للآيات العديدة التالية في سِفْر التثنية ثلاثة وثلاثين، يُمْكِن أن تبدو تَرْجَمات الكِتاب المُقَدَّس المُتَنوِّعة مُخْتَلِفة الى حَدٍّ كبير عن بَعْضها البعض. إن بَرَكَة موسى هذه مليئة بالعِبارات الغريبة التي حَيَّرَت عُلَماء اللُّغة، بل إن بعض الكَلِمَات العِبْريَّة لا تَظْهر في أي مكان آخر في الكِتاب المُقَدَّس، ممّا يَجْعل مَعْناها مَوْضِع شكّ كبير. عَلاوةً على ذلك، تبدو بعض العِبارات في غير مكانِها وأحْيانًا خارِج سِياقِها، لذلك واجَهَ مُتَرْجِمو الكِتاب المُقَدَّس ومُفَسِّروه وقتًا عَصيبًا لِلْغاية هنا. لن نَدْخُل في كل احْتِمالات تَفْسيرها لأنه حتى أكْثرها قُبولاً هو مُجَرَّد إجْماع على التَّكَهُّنات. هذه واحِدة من المَرّات التي يَبْدو فيها أنه حتى أقْدَم وثائق الكِتاب المُقَدَّس التي بين أيْدينا قد تُعَرِّض نَصّ هذه الآيات بالذات للتَّحْريف (وإن كان ذلك بِطَريقة بَسيطة نَوْعاً ما) مثل خَطأ إمْلائي لم يُلاحِظه أحَد في نَسْخَةٍ بعد نَسْخَة؛ أو على الأرْجَح أنها كانت مُشْكِلَة أساسِيَّة في التَّرْجَمة العبريّة، وهذا لأن الأبْجَدِيَّة العبريّة الأُولى (ما يُسمّى أحياناً بالعبريَّة الأوّلية) لم تَكُن تَتَضَمَّن حتى بعض الحُروف مثل الألف والهاء والفاء والياء .
لمُساعَدَتك على فَهْم ما يعْنيه ذلك بالنِّسْبَة لنا، تَخَيَّل لو أن كِتاب المَلِك جيمس المُقَدَّس قد كُتب باسْتِخْدام أبْجَدِيَّة مُكَوَّنة من إثنين وعشرين حَرْفًا بَدَلًا من سِتَّة وعشرين حرفًا في العصر الحديث (هذا ليس هو الحال بل مُجَرَّد تَوْضيح لمُساعَدتنا على تَصَوُّر المُشْكِلَة). ثم حاوَلَ شخصٌ ما تَحويل الكَلِمَات الإنجليزية التي تمَّ تَشْكيلها باسْتِخْدام إثنين وعشرين حَرْفاً وَصَوْتاً فقط إلى كَلِمَات إنجليزية تَسْتَخْدِم ستة وعشرين حَرْفاً وصَوْتاً. وفي حين أنه في كثير من الأحيان يكون الأمْر قابِلاً للتَّنْفيذ بِشَكْلٍ مَعْقول ويؤدِّي إلى نتائج جَيِّدة، إلا أنه في أحيان أخرى يَتْرك لنا كَلِمَات وعِبارات غَريبة لا مَعْنى لها بالنِّسْبَة لنا. وهكذا في حين أن التَّحويل من الأبْجَدِيَّة العِبْرِيَّة القديمة إلى الأبْجَدِيَّة الأكْثَر حَداثةً قد حَدَثَ رُبَّما قبل ثلاث آلاف سنة، فإن العِبارات المُتَرْجَمة (ولكن غريبة الصَّوْت) التي نَجِدها هنا في سِفْر التثنية ثلاثة وثلاثين كان لها مَعنى مَفْهوم تَناقَله العِبْرانيّون في ذلك العَصْر؛ ولكن عند أخْذِها بِشَكْلٍ حَرْفي أكثر (لأن التَّقْليد الخاص بالمَعْنى المَقْصود منها قد ضاع) نَجِدُ صُعوبَة في فَهْمِها. لذلك لن نُطيل الحديث هنا.
لكنَّني سأُدْلي بِتَعْليق واحد موجَز. في الآية الخامِسة نُصادف مَرَّة أخرى هذا اللَّقَب الغَريب ”يشورون“، حيث أنه يُشير إلى بني إسرائيل؛ إنه يعني حَرْفِيًّا ”المُسْتَقيم“. الفِكْرة التي يتمّ التَّعْبير عنها في هذه الآيات (رغم الاخْتِلافات العديدة في الصِّياغة الدَّقيقة) هي أنه بين يَشورون (بني إسرائيل) نَشأ مَلِك وحَدَث ذلك خلال اجْتِماع لقيادة بني إسرائيل. هذا التَّعْليق الغامِض هو تَذْكير باليوم الذي جَعَل الله فيه زُعَماء قبائل بني إسرائيل مَلِكًا على بني إسرائيل في حَفْل قُبول العَهْد في جبل سيناء. تَذَكَّروا أن شَعْب سِفر الخُروج قالوا إنه بَدَلًا من أن يكون لبني إسرائيل مَلِكًا بَشَريًّا كما كان لِجميع جيرانِهم، أرادوا أن يكون الله مَلِكًا عليهم.
كان سَبَب هذا القَرار الجَماعي قَرارًا نَبيلًا في قُلوب بعض بني إسرائيل وليس نَبيلًا في قُلوب آخَرين. كان كثير من بني إسرائيل يَثِقون حقًا في يَهْوَهْ، وكان لَدَيْهم على الأقلّ بعض الشُّعور بِقِدرته وسِيادته، ولذلك أرادوا بإخْلاص أن يَحْكِمهم الرَّب من خلال وَسيطهم، مُعْتَقِدين أن ذلك أفْضَل. آخَرون لم يَرْغَبوا في أي قائد عليهم بِسُلْطَة المَلِك. لقد كانوا قد هَرَبوا للتَّوْ من مَلِك مَصر، ولذلك فإن فِكْرة إقامة مَلِك آخر عليهم (بِشَكْلٍ أو بآخر من صِنْع أيْديهم) كانت أكثر مِمّا يُمْكِنْهم تَحَمُّله. عَلاوةً على ذلك، في حين أن بني إسرائيل رُبَّما قَبِلوا مَفْهوم الحاجة إلى مَلِك بَشَري، فمِن الصَّعْب أن نَتَخَيَّل أن القادة كان بإمْكانهم أن يَسْتَقِرّوا على أي من الأسْباط الإثْنَي عشر سيكون له شَرَف تَوْفير هذا المَلِك. كانت القَبَلِيَّة آنذاك كما هو الحال الآن تَتَطَلَّع إلى رَفاهِيَّة أفرادِها قبل أي قَبيلَة أخرى. لذلك فإن القَبيلَة التي يأتي منها المَلِك تَحْصَل دائمًا على رِعاية خاصة، وحِماية إضافيَّة، ومَزايا إضافيَّة، وحِصَّة أكبر من السُّلْطة. وبالتالي، هناك مُناورات قَبَلِيَّة لا تَنْتَهي أبدًا تؤدِّي في كثير من الأحيان إلى حَرْبٍ صَريحة بين القبائل لِتَكون القَبيلَة المُهَيْمِنة التي تُنْتِج المَلِك أو حاكم المِنْطَقَة. الحُروب التي نَسْمَع عنها اليوم في الشَّرْق الأوسط وأفريقيا هي في الأساس قَبَلِيَّة و/أو طائفيَّة. أي أنها مُسْلِم ضدّ مُسْلِم، أو مُسْلِم ضد مَسيحي، أو عائلة مُمْتَدَّة ضدّ عائلة مُمْتَدَّة.
بِدْءًا من المَلِك شاوول، وحتى غَزو الرّومان لبني إسرائيل، نَقْرأ في الكِتاب المُقَدَّس عن سِلْسِلَة من المؤامَرات وجَرائم القَتْل بين زُعَماء قبائل بني إسرائيل وهم يَتَنافَسون على السُّلْطة بِمُجَرَّد أن قَرَّروا أنهم يُفَضِّلون مَلِكًا بَشَرِيًّا على مَلِكٍ إلَهي. إن العالَم اليوم في حالة اضْطِراب لأنه يَرْفُض إلَه إسرائيل ويُريد بَدَلًا من ذلك أن يَسْتَمِرّ في مَسارِنا الفاشِل في حِكْم أنْفُسْنا عن طريق قِيادةٍ بَشَرِيَّة مُعيبة.
دعونا نَنْتَقِل إلى الآية السادِسة التي تبدأ قائمة البَرَكات الفَرْدِيَّة التي يَنْطُق بها موسى على أسْباط بني إسرائيل؛ أوَّل قَبيلَة مَذْكورة هي رأوبين.
من المُثير للاهْتِمام أن المَكان نَفْسه الذي كان موسى يَقِف فيه وَقْت هذه البَرَكَة كان في مِنْطَقَة رأوبين. رأوبين وجاد وحوالي نِصْف العَشائر التي كانت تُشَكِّل معًا سِبْط مَنَسَّى اسْتَقَرَّت على الجانِب الشَّرْقي من نهر الأُرْدُن (ما يُسَمَّى ما وراء الأرْدُن). من ناحِيَةٍ، من المَنْطِقي أن يكون رأوبين أوَّل سِبط يُذكر كان ابْن يعقوب البِكْر. ولكن قَبْل ذلك بِثَلاثة قُرون تَقْريبًا أَلْغى يعقوب حُقوق البِكْر في الميراث التي كانت مُسْتَحِقَّة تقليديًّا لرأوبين لأنه كان على علاقة جِنْسِيَّة مع مُحْظية يَعقوب بَلهة. لذلك بَدَلًا من ذلك انْقَسَم ميراث البِكْر إلى قِسْمَيْن، فذَهَبَ جِزْء منه إلى يَهُوَّذا والجِزء الآخر إلى يوسف (بالفِعل ذَهَب إلى أفرايم ابن يوسف). أُعْطِيَ يَهُوَّذا الحَقّ في حِكْم بني إسرائيل بينما أُعْطِيَ إفرايم الجِزْء المُضاعَف من بَرَكَة البِكْر، أي الغِنى والخَصْب الوفير أكثر من جميع إخْوَته الآخرين.
البَرَكَة هي في شَكلِ تَوَسُّل إلى الرَّب بأن قَبيلَة رأوبين ”تحيا ولا تموت“، بِمَعنى أن لا تَنْقَرِض قبيلة رأوبين من خلال امْتِصاصِ من قِبَل قَبيلَة أخرى من بني إسرائيل أو من خلال احْتِلال قبيلة رأوبين واسْتيعابها من قبل ثقافةٍ أجْنَبِيَّة. بينما نُتابِع حُظوظ قَبيلَة رأوبين في المُسْتَقبَل سنَجِد أنها ستَبْقى بالفِعْل كقَبيلَة مُنْفَصِلة حتى زَمَن القُضاة، كما أنها مَذْكورة في أقْدَم عُصور المُلوك. لكن قبيلة رأوبين تُصْبِح تَقْريبًا فكرة لاحِقة بعد ذلك. أصْبَحَت قبيلةَ رأوبين غير ذات أهَمِّيّة كَكَيان قَبَلي، بِمَعنى أن عَدَد سُكّانها تَضاءَلَ الى حَدٍّ كبير وبالتالي فَقَدَت أي قُوَّةٍ سياسيَّة ذات مَعْنى.
ولأنَّنا نحن الغَرْبيِّين لدينا مثل هذا التَّصَوُّر الهَزيل عن كَيْفِيَّة عَمَل القَبَلِيَّة، اسْمَحوا لي أن أقْطَع الحديث لِأقول بأن ما وَصَفْتُه للتَّوْ بأنه حَدَثَ لقبيلة رأوبين كان مَدًّا وجَزْرًا طَبيعيًّا ومُعْتادًا بين المُجْتَمَعات القَبَلِيَّة. فالقبائل لم ”تَخْتَفي“ فَحَسْب، بل عادةً ما كانت أعْدادُها تَنْحَسِر إلى قَبيلَة مُنافِسة (في كثير من الأحيان بِسَبَب التَّزاوُج). لم يَكُن هناك شيء خارِق للطَّبيعة حول تَحَوُّل قَبيلَة كبيرة إلى قَبيلَة صغيرة أو قَبيلَة صغيرة إلى قَبيلَة كبيرة من خلال نَوْع من الظُّروف السِّياسيَّة أو الاقْتِصاديَّة. فرُبَّما يُصْبح طريق تِجاري يَمُرّ عَبْر أراضيهم مَشْهورًا ويَجْمَعون الضَّرائب والرُّسوم أو قد تُسَيْطِر قَبيلَةً ما على شاطئ بَحْر (مع تَطَوُّر النَّقْل البَحْري) فيُصْبِح ميناءً مِثاليًا كَطَريق تِجاري رئيسي سريع، فتُصْبِح تلك القَبيلَة من التُّجّار الأثْرِياء. ومن ناحية أخرى قد تَجِد قَبيلَة ما (مثل دان) نَفْسها تعيش على حُدود شَعْبٍ عِدْواني مثل الفلسطينِيِّين، ولا تَسْتَطيع مُجاراتهم. لذلك كانت ثَروات القَبيلَة تَرْتَفِع وتَنْخَفِض، ومعها كانت القُوَّة والهَيْبَة أو الانْقِراض. ليس الانْقِراض بِمَعنى أن جينات تلك القَبيلَة قد انْقَرَضَت، بل انْقَرَضَت كَكَيانٍ قَبَلِيّ مُنْفَصِل له حُكومته الخاصَّة.
فالقَبيلَة، في نِهاية المَطاف، هي مُجَرَّد أشخاص يُشَكِّلون عائلة كبيرة مُمْتَدَّة. عندما بدأت القَبيلَة تَفْقُد سَيْطَرتها وأدْرَك أبناء تلك القَبيلَة أنه لا يوجَد أمَل مُتَوَقَّع في أن تَبْقى قبيلَتهم قابِلَة للحياة، كان العديد من أَفْرادها يُفَكِّرون في طُرُقٍ لِحَلّ المُشْكِلَة من حيث صِلَتُها بهم شَخْصِيًّا. وكانت إحْدى الطُرُق هي أن تَتَزوَّج بَناتهم من قبائل أكْبَر وأكثر قُوَّة. والطَّريقة الأخرى هي أن تُهاجِر العائلة بِبَساطة إلى مِنْطَقَةٍ قَبَلِيَّة أخرى وتَعيش هناك. والعَيْش هناك لم يَكُن يَجْعَلْهم تلقائيًّا أعْضاء في قَبيلَة أخرى، ولكنَّه كان يُضيف إلى القُوَّة الاقْتِصاديَّة والعَسْكَرِيَّة للقَبيلَة التي يَعيشون في منطقتها في وَقتها، بِبَساطة عن طريق إضافة المزيد من الأشْخاص، تمامًا كما قلَّلَ من القُوَّة الاقْتِصاديَّة والعَسْكَرِيَّة لقَبيلَة العائلة المُهاجِرة نَفْسها والمِنْطَقَة القَبَلِيَّة. لذلك كانت القَبيلَة عادةً ما تكون قابِلة تمامًا لِقُبول الوافِدين الجُدُدْ المُسالِمين.
نَجِد هذا الشَّيْء نَفْسه يَحْدُث لأسباط بني إسرائيل. ولكن على عكس قبائل العالَم، فإن أسْباط إسرائيل كان مُسْتَقبَلهم مُحَدَّدًا بِشَكْلٍ أو بآخَر من قبل الرَّب الى جانِب سَرير يَعْقوب، وقد أعاد موسى التأكيد على هذه المَصائر هنا في سِفْر التثنية.
القَبيلَة التَّاِلية التي تم تَناوُلَها هي قبيلة يَهُوَّذا. قبل أن نَتَحَدَّث عن يَهُوَّذا، السُّؤال المَنْطِقي الذي يَجِب أن نَطْرَحه هو ما هو الأساس المَنْطِقي (أو إن كان هناك أساس مَنْطِقي ) لأمْر تَرْتيب قائمة القَبائل في بَرَكَة موسى. لا يوجَد إجْماع في هذا الشّأن، ولكن من الواضِح أنه لا تَرْتيب المَعارك العَسْكَرِيَّة (كما يتَّضِح من كَيْفِيَّة وَضْع القبائل في مَجْموعات من ثلاثة حول خَيْمَة الإجْتِماع) ولا تَرْتيب الوِلادات. على الرَّغم من أن قبيلة رأوبين ذُكرَت أوَّلاً، إلا أنَّ يَهُوَّذا بالتَّأكيد ليس الولد الثاني لِيَعْقوب. وعلى الرَّغم من أن أوْلاد لِيا الأرْبَعة الأوائل قد ذُكِروا أوَّلاً، إلا أن التَرْتيب قد اخْتَلَطَ بعد ذلك.
يقول جيفري تيغاي أن المَرْء يَحْتاج إلى خَريطة مَفْتوحة أمامَنا لِفَهْم تَرْتيب القَبائل كما هو مَعْروض هنا، وأن التَرْتيب له عِلاقة بالجُغْرافيا وبِخُطوط الحُدود المُخَصَّصة لكل مِنْطَقَةٍ قَبَلِيَّة. بِدْءاً من رأوبين (المِنْطَقَة التي يَقِف فيها موسى حالِيًّا) فإن القَبيلَة التالِيِة المَذْكورة هي يَهُوَّذا، حيث سَيَعْبُر بنو إسرائيل أوَّلاً إلى أرض الميعاد. ثم بَعْد لاوي، يَتْبَع تَرْتيب البَرَكات القَبَلِيَّة مَسارًا يَتَّجِه شِمالاً عبر بِنْيامين، ثم إلى المناطِق المُتاخِمة لأفْرايم ومَنسّى (أسْباط يوسف)، ثم زِبولون وجارتها إلى الشَّرق، إيساخار. بالاسْتِمْرار شَرْقًا نُشاهِد تَرْتيب البَرَكَات في سِفْر التثنية ثلاثة وثلاثين يَعْبُر الأُرْدُن (في مِنْطَقَة شرق الأرْدُن) إلى إقْليم جاد، ثم شمالاً إلى دان، وجَنوبًا من دان إلى نَفتالي، وأخيرًا غَرْبًا إلى آشِر. أمّا لاوي، الذي لم يُعْطَ أي مِنْطَقة، فيَتِمّ التَّعامُل معه بين البَرَكات المُعْطاة ليَهُوَّذا وبنيامين، ولا شَكّ أن هذه هي المِنْطَقَة التي ستوجَد فيها أورشليم يومًا ما وحيث سيَخْدِم كَهَنَة لاوي في الهَيْكَل الكبير.
أما قبيلة يَهُوَّذا، القَبيلَة الحاكِمة التي سيَخْرُج منها المسيح، فقد أُعْطِيَت بَرَكَة يبدو أنها تَتَنَبّأ بِوَقْت الحَرْب وضَرورة أن يَسْمَع الرَّب الإلَه صَلَوات يَهُوَّذا، ويُساعدها في معاركها، ثم يُعيد الجُنود إلى بُيوتهم وإلى عائلاتهم. إن الكَلِمَة المُسْتَخْدَمة لِوَصْف الطَّريقة التي يَتَضَرَّع بها يَهُوَّذا إلى الرَّب، والتي بها يَسْمَع الرَّب ليَهُوَّذا، هي كَلِمَة مألوفة لنا: شيما. شيما تعني السَّمَعْ والطَّاعة، أو الاسْتِماع والعَمَل. وهي لا تُشير إلى الفِعْل السَّلْبيّ الذي يقوم على الإصْغاء وفَهْم الدُّعاء فِكريًّا فقط دون أن يَتَعَدّى ذلك. حتى هذه النِّقْطة في التَّوْراة، كان الدُّعاء هو ”"شيما"، أن يَسْمَع الله ويُطيعه. أما الآن فالدُّعاء هو أن ”يسمعوا“، أن يَسْمَع الله ويَتَصَرَّف نيابةً عن يَهُوَّذا عندما يَطْلُبون منه المُساعدة.
بعد ذلك يتم مُخاطَبة اللّاوِيّين. بما أن اللّاوِيّين هم كَهَنة الله المُخَصَّصون له، فإن البَرَكَة تتركَّز حول دَوْرهم في المجتمع كَمُعَلِّمين لِشَريعة الله ومُقيمين للطُّقوس المُهِمَّة. للمَرَّة الرابعة فقط في الكِتاب المُقَدَّس يتمّ ذِكْر الأوريم والتُّميم. كان هذان حَجَران مَحْفوظان في كيس خاص كان يُعَلَّق على دِرْع صَدْر رئيس كَهَنة بني إسرائيل، وكانا يُسْتَخْدَمان لتَحْديد إرادة الله في أُمورٍ مُعَيَّنة. لقد فُقِدَت على مَرّ القُرون كَيْفِيَّة اسْتِخْدامهما بالضَّبْط وكيف كانا يَدلّان على القرار الإلَهي. حتى المعنى الدَّقيق لِكَلِمَتَيْ الأوريم والتُّميم هو مَوْضع شَكّ. يَعْتَقِد البعض أن الإسْمَيْن يَدِلّان على الحَرْفَيْن الأوّل والأخير من الأبْجَدِيَّة العِبْريَّة.
ما هو بَديهي هو أن نوع الإجابة التي قَدَّمَها الأوريم والتُّميم كانت تَنْحَصِرُ بـ ”نعم“ أو ”لا“.
ومع ذلك، فإن دُعاء موسى هو أن يَبْقى شَرَف اسْتِخْدام الأوريم والتُّميم في أيْدي اللّاوِيّين (أي ”الأُمَناء“ في الآية ثمانية)، وأن يَسْتَمِرّ الله في التَّعْبير عن إرادَته من خلال اسْتِخْدام هذين الحَجَرَيْن حَسَب الاقْتِضاء.
بعد موضوع ”الأوريم والتُّميم“، يُشير موسى إلى اللّاويّين على أنَّهم أولئك الذين تمَّ اخْتِبارهم في مَسَّة ومَريبة. وبعِبارة أخرى فإنه يَجْعل اللّاوِيّين هم أولئك الذين كانوا الهَدَف الحقيقي لاخْتِبار الرَّب في البَرِّيّة في مَحَطَّتَيْ مَسَّة ومَريبة. إذا نَظَرْنا إلى سِفْر الخُروج خمسة عشر على أربعة وعشرين وخمسة وعشرين نرى التالي:
الكِتاب المُقَدَّس اليهودي الكامِل خروج خمسة عشر على أربعة وعشرين : "فتذمّر الشَّعب على موشيه وسأَلوا: ”ماذا نَشْرَب“؟ ". خمسة وعشرين: "فصرخ موشيه إلى أَدوناي فأَراه أدوناي قِطْعة خَشَبٍ مُعَيَّنة، فلما ألْقاها في الماء جَعَلَ طَعْمَ الماء طَيِّباً. هناك وَضَع لهم أدوناي شَرائع وقواعِد للحياة، وهناك اخْتَبَرَهُم.
إذن الفِكْرَة هي أنه بينما كان كل بني إسرائيل يَمُرّون بهذه المِحْنَة، كان اللّاويّون هم في الواقِع الّذين كان الرَّب يَخْتَبِرْهم لِيَرى ما إذا كانوا الاخْتِيار الصَّحيح ليَكونوا كَهَنَته الشَّخْصِيِّين.
كما هو أكثر شُيوعًا ممّا قد تَظِنّ في الكِتاب المُقَدَّس، هناك كَلِمَتان في الآية ثمانية. مَسَّة تعني ”مكان الاخْتِبار“ ومَريبة تعني ”مكان التَّحَدّي“. لذا فإن كَلِمَات هذا الجِزْء من المَقْطع هو: الذين اخْتَبَرْتُموهم في مكان الاخْتِبار، وتَحَدّيْتُموهم في مكان التَّحَدّي“. أُشيرُ إلى ذلك فقط حتى يَتَبَيَّن لكم أن أسْماء الأماكِن والمواقِع في الكِتاب المُقَدَّس تَنْشأ دائمًا تَقْريبًا من شيء ذي أهَمِّيّة حَدَث هناك أو يَرْجَع إلى سِمَةٍ بارِزةٍ في المكان (بئر سبع، سبعة آبار). لذلك على مَرّ القُرون قد يَتَغَيَّر إسْم المكان حيث أن ثَقافة ما أَطْلَقَت على المكان إسْمًا لِحَدَث مُهِمّ في تاريخِها، قد تَفْسَح المجال لِثَقافة أُخرى أَحْدَث لها أهَمِّيّة مُخْتَلِفة حَدَثَت في نَفْس المكان، لذلك يُعيدون تَسْمِيَته بِشَكْلٍ مُناسِب.
الآية العاشرة هي في الأساس نَتيجة لِما حَدَثَ مع لاوي كما ورد في الآية التاسعة. وتعود إلى حادِثة العِجْل الذَّهَبي في سِفْر الخروج إثنين وثلاثين. على الرَّغم من أن هارون هو الذي قاد المُتَمَرِّدين في الواقع في تَشْكيل صُورة العِجْل المَنْحوت، إلّا أن هارون وعائلته هم أيضًا (عندما واجَهَهُم موسى بهذه الخَطيئة الفَظيعة) رَأوا خَطَأَهم وَوَقفوا مع موسى ضِدّ أولئك الَّذين اسْتَمَرّوا في عِبادة العِجْل. ولمّا كان موسى وهارون من اللّاويّين، كان من الطَّبيعي أن يأتي أيضًا أفْرادَ قَبيلتهم (لاوي) ويَقِفوا مَعَهم، ولكن لم يَفْعَل كل اللّاويّين ذلك. وكانت النَّتيجة أن الرَّب أَمَرَ موسى وهارون واللّاويّين الّذين انْضَمّوا إليهما أن يَذْهَبوا لِقَتْل جميع بني إسرائيل الّذين اسْتَمَرّوا في السُّجود للعِجْل الذَّهَبي. وشَمَل ذلك قَتْل العديد من أفراد العائلة بالسَّيْف، بما في ذلك أمَّهاتهم وآباؤهم وأبْناؤهم وبَناتهم. لقد كان فِعْل التَّوْبة هذا واسْتِعْدادهم للتَّخَلّي عن أكثر ما يَعْنيهم على وَجْه هذه الأرض (عائلاتهم المُباشرة)، هو ما اسْتَحَقّوا به شَرَف اخْتِيارهم من بين كل أسْباط بني إسرائيل كَقَبيلَة خادِمة الرَّب المُخْتارة.
لا يَفوتني أبدًا أن أَعْرض لكم مِثالاً جيِّدًا على الأنْماط التي تَرَسَّخَت في التَّوْراة وتَكَرَّرَت في بَقِيَّة الكِتاب المُقَدَّس، أَطْلُب مِنْكُم أن تَسْتَمِعوا إلى يسوع في لوقا أربعة عشر.
الكِتاب المُقَدَّس اليهودي الكامِل لوقا أربعة عشر على خمسة وعشرين: "كانت جُموعٌ كبيرة تَسير مع يسوع. فَالْتَفَتَ إِلَيْهِمْ وَقَالَ لَهُمْ: ". ستة وعشرين: إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَيَّ وَلاَ يُبْغِض أَبَاهُ وَأُمَّه وَامْرَأَتَه وَأَوْلادَه وَإِخْوَتَه وَأَخَواتِه وَنَفْسَه أَيْضًا فَلاَ يَقْدِر أَنْ يَكُون لِي تِلْميذًا."
سِفر الخُروج إثنان وثلاثين وسِفْر التثنية ثلاثة وثلاثين على ثمانية يُشَكِّلان سِياق هذه الآية. لا يتعلَّق الأمْر هنا بِوَصِيَّة "أكرِم أمَّك وأباك"؛ ولا يتعلَّق الأمْر بإنْشاء اسْتِثْناء لهذا المَبْدأ الأساسي. إذًا "أكرِم أباكَ وأُمّك" لا تعني أننا يَجِب أن نَخْرُج ونَقْتُل عائلاتنا إذا ارْتَكَبوا عِبادة الأوْثان، أو أن نَتْركهم إذا لم يُوافِقوا على إيمانِنا الجديد؛ بل أن نَكون على اسْتِعْداد للتَّخَلّي عن أي شَخْص وأي شَيْء (بِتَوْجيه من الرَّب) إذا كنا سَنَتْبَع المسيح. إنه قد يَتَعَيَّن علينا أن نَتَّخِذ بعض الخِيارات الصَّعْبة والمُفْجِعة. ويقول يسوع أن نَتَّخِذ أساسًا نَفْس الاخْتِيار (من حيث المَبْدأ) الذي اتَّخَذَه هارون وموسى وأولئك الّذين تَحالَفوا معهم في أيام الخُروج.
سنُواصِل هذا في الأسْبوع القادِم.