19th of Tevet, 5785 | י״ט בְּטֵבֵת תשפ״ה

QR Code
Download App
iOS & Android
Home » العربية » Old Testament » التثنية » الدرس الثاني والعشرون – الإصحاحان السادس عشَر والسابع عشَر
الدرس الثاني والعشرون – الإصحاحان السادس عشَر والسابع عشَر

الدرس الثاني والعشرون – الإصحاحان السادس عشَر والسابع عشَر

Download Transcript


سِفْر التثنية

الدرس الثاني والعشرونالإصحاحان السادس عشَر والسابع عشَر

لقد أمضَينا الدرسَين الأخيرَين في سِفْر التثنية السادس عشَر في النظَر في بعض الجوانِب الباطنيّة والمُهمَّة جداً من أعياد الرَب، وخاصةً تلك التي تتضمَّن شَرْط الحَج إلى خيمة الاجتماع/المَعبَد. وبما أنّ هذا الموضوع طويل ومُعقَّد فلن نستعرِضَه اليوم؛ سأنصَحُكم فقط بالرجوع إلى هذين الدرسَين الأخيرَين إذا كانت لديكُم أسئلة.

دَرَسنا أيضًا مسألة الوَقت الذي قضاه يَسوع في ذلك القَبر الصَخري المَحفور والجدوَل الزَمني المُفصَّل لموتِه وقيامتِه. كما هو متوقَّع تلقَّيتُ عددًا لا بأس به من الأسئلة بعد الدَرس وفي الأيام التالية و(المُثير للاهتمام) أنّ مُعظمها تركَّزَت حول مخاوفِكم من السَبب الذي يَجعل بعض قساوستِنا ومُعلِّمي الكتاب المقدَّس الأكثر شُهرة والمحبوبين يَتحدَّثون بسهولة عن مسألة موقِف الكنيسة الراسخ بأنّ يَسوع مات يوم الجُمعة، وقام يوم الأحد ممّا أدّى بوضوح إلى قَضائه لَيْلَتَين فقط في القَبْر. ومع ذلك أُصِرُّ على أنّ الكتاب المقدَّس يتنبّأ بوضوح عن هذا الحدَث بقولِه إنه سيَقضي ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ في القَبْر.

لن أجادِل في تقليد الجُمعة العَظيمة أو ترتيب الأحداث من وِجهة نظَر عقائدية. ما أوَدّ أن أفعلَه ببساطة هو أن أُشير إلى ما تَقوله الكُتب المقدَّسة، والوثائق التاريخية من نَفْس العَصْر، وأُظهِر لكُم كيف أنها تتطابَق تماماً وأعتقِد أنّ هذا ما فَعلناه في درسِنا السابِق. ولكن هناك سؤال واحد لا بُدّ أن نطرحَه، ”أين وَرَد حَرْفياً في الكتاب المقدَّس أنّ يسوع كان في القَبْر ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ “؟

دعونا نتناوَل ذلك مُباشرةً ثم نُنهي الإصحاح السادس عشَر.

أولاً، تَبلورَت النُبوَّة عندما أرسَل الرَب النَبي يونان إلى نينوى لكنَّه امتنَع عن التوجُّه إلى هناك لأنه لم يَعتقِد أنّ هؤلاء الناس الغُرباء يَستحِقّون أن يَتلَقّوا كَلِمة الله.

وكانت النتيجة أنْ ابتلعَتْ سَمكة عملاقةَ يونان مؤقتًا. ترجمة الكتاب المقدَّس المنقحة يونان الإصحاح واحد الآية سبعة عشرة وَعَيَّنَ الرَب سَمَكَةً عَظِيمَةً لِتَبْتَلِعَ يُونَانَ، فَكَانَ يُونَانُ فِي بَطْنِ السَّمَكَةِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَالٍ.

لا يَهُمّ أيًا من مئات التَرجمات للكتاب المقدَّس يَختارُ المَرء؛ فَجَدْوَل الثلاثة أيام وثلاث ليالٍ ثابِت ويَتَّفِق تمامًا مع النَصّ العِبري الأصلي والتَفسير الحاخامي في هذا الشأن.

ثانيًا؛ أين يَقول الكتاب المقدَّس أنّ هذا الحَدَث المُتعلِّق بيونان كان في الواقِع نبوءة فِعلية عن زَمن يسوع في القَبْر؟ أم أنّ هذا مُجرَّد افتراض يُمكِن الطَعْن فيه بشكل مَعقول؟

ترجمة الكتاب المقدَّس المنقحة، متّى الإصحاح الثاني عشر الآية ثمانية وثلاثون فَقَالَ لَهُ قَوْمٌ مِنَ الْكَتَبَةِ وَالْفَرِّيسِيِّينَ: "يَا مُعَلِّمُ، نُرِيدُ أَنْ نَرَى مِنْكَ آيَةً" تسعة وثلاثون فَأَجَابَهُمْ (يسوع): ”جِيلٌ شِرِّيرٌ وَزَانٍ يَطْلُبُ آيَةً، وَلاَ تُعْطَى لَهُ آيَةٌ إِلاَّ آيَةَ يُونَانَ النَّبِيِّ. أربعون لأَنَّهُ كَمَا كَانَ يُونَانُ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَالٍ فِي بَطْنِ الْحُوتِ، هكَذَا يَكُونُ ابْنُ الإِنْسَانِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ وَثَلاَثَ لَيَالٍ فِي قَلْبِ الأَرْضِ“.

ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ ليست مَطلوبة لتَحقيق نبوءة غامِضة، بل كَلِمات يسوع الدقيقة لما كان على وَشَك الحُدوث. سيناريو الجُمعة العظيمة لا يُمكِن أن يَكون صحيحًا. لا يُمكِن أن يكون يسوع قد مات يوم الجمعة في النَهار، وقَضى ليلة الجُمعة في القَبْر، ثمّ نهار السبت وليلة السبت كان لا يزال في القَبر، ثمّ قام صباح الأحَد (وهناك محاولات سَخيفة جداً لقول ذلك). ليلة الجُمعة وليلة السبت ليسَتا سوى ليلتَين ويسوع قال أنه سيَكون في ”قَلْب الأرض“ لمُدَّة ثلاث ليالٍ. الاحتمال الآخر الوَحيد الآخر هو أنّ الحَدَث الذي تحدَّث عنه يسوع (عن رُقوده ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ في باطِن الأرض) لم يكُن عن موتِه ورقودهِ في القَبِر. ولكن ببساطة لا يوجَد أي حَدَث آخر مُسجّل تنبّأ به المَسيح أو عَرَفَه أو قام به يُحقِّق هذا السيناريو؛ وأي شيء أوحى به الله للإنسان، يجب أن يُشير إلى الوقت الذي قَضاه في ذلك القَبِر.

إنّ هذه العَقلية المُضلِّلة المُتمثِّلة في تأسيس عقيدة ما أولاً من أجل تحقيق أجَنْدة ما، ثمّ تَحريف الكتاب المقدَّس لمُحاولة جعلِه مناسبًا، هي التي غالبًا ما تَرَكت الكنيسة في حيرة من أمرِها وخائفة في بعض الأحيان من استِكشاف الكتاب المقدَّس بالفِعل خوفًا مما قد نَكتشِفُه. من هو المَسيحي (خاصة من الطائفة الإنجيلية) الذي لا يتوهَّج بالحديث عن أخْذ الكتاب المقدَّس حَرْفيًا فقط ليقرأ بسهولة أو يَتجاهَل ما لا يتناسَب مع تقاليدِنا؟

دعوني أؤكِّد لكُم يا حديثي العَهد بدَرْس التوراة: ما ستَجدونه هو أنّ كل ما اعتمَدْتم عليه في المسيح هو ثاِبت ومُصدَّق عليه تمامًا في التوراة. كنتيجة لدِراسة التوراة سوف تتضاءل الشُكوك وسوف يَزداد الإيمان. إنّ كَلِمة الله (كلَّها، وليس فقط بعضُها) حيَّة وبصحَّة جيّدة ودقيقة ومَوثوقٌ بها، ويمكننا جميعًا أن نَفهمها إذا أخذْنا الوَقت الكافي لتعلُّمِها وانفتَحنا على الروح القدس كمُرشِدنا ومُعلِّمِنا.

سنواصِل اليوم مع الآية الثامنة عشرة من الإصحاح السادس من سِفْر التثنية عندما يأخُذ الموضوع مُنعَطَفًا بعيدًا عن مُمارسات العبادة التي أمَرَ بها الله والأعياد التوراتية، ويَنتقِل إلى توقُّعات الرَب من سُلطات إسرائيل المدنية والدِينية. بعِبارة أخرى، ما سيأتي يتعلَّق بكل مستوى من مُستويات الحكومة البشرية ولا يَهُمّ ما إذا كان على المستوى المَدَني أو على المستوى الدِيني. الفِكرة الأساسية هي أنّه في اقتصاد الله لا يوجَد فَصْل بين الروحي والحُكومي. تَنطبِق هذه القوانين على القادة الديِنيين وعلى قادة الحُكومة. في إسرائيل لم يكُن هناك حقًا خَطّ فاصِل بين الاثنَين، على أي حال؛ كان القانون المَدَني والديني مُتشابكَين تمامًا.

لنقرأ سِفْر التثنية السادس عشَر من الآية الثامنة عشَرة إلى نِهاية الإصحاح.

أعد قراءة سِفْر التثنية السادس عَشر من الآية الثامنة عشَرة إلى – النهاية

سيَستَمِرّ مَوضوع الحكومة البشريَّة حتى الإصحاح واحد وعشرين، ونَجِد أنّ هناك أربَعة أنواع أساسية من السُلطات البَشرية التي تمَّت مناقشتُها: الملوك، والكَهنة، والقُضاة، والأنبياء. في الحقيقة ليس هناك تَعريف جيد مُدوَّن في التوراة لمُتطَّلِبات كلٍ من هذه المَناصب والألقاب، لا بد أنها كانت مَفهومة ومَعروفة جيدًا ومَعروفة بين جميع ثقافات الشَرق الأوسط في ذلك العَصِر. ما سنَجِدُه كقاعدة عامَّة هو أنّ الله لم يَقصِد أنّ هذه السُلطات الحكومية كانت تُمثِّل الطبقات الاجتماعية النُخبَوية (أعلى من العامِل العادي على السُلَّم الاجتماعي والاقتصادي)، ولم يكُن المقصود أن يتسَلَّط هؤلاء المسؤولون الحكوميون على المُواطِنين بطريقة مُتغطرِسة. بل إنّ ما سنَدرُسُه يهدُف إلى وَضْع حدود وقيود على كيفيَّة عَمَل كل من هذه المناصِب الأربعة (المَلِك، الكاهن، القاضي، النبي)، وإثبات أنهم ليسوا فوق عامَّة الشَعب.

من المُثير للاهتمام أنّ هذا القِسم يبدأ بتأسيس مَناصب القُضاة ومسؤولين لأنه بعْدَ بِضع آيات فقط يتحوَّل انتباهُنا إلى حَظْرٍ على إقامة إسرائيل لأعمِدة ونُصُب مُقدَّسة. مما لا شَكّ فيه أنّ السَبب في ذلك هو أنه في جَميع الثقافات شرق الأوسَطية في تلك الفترة كان المسؤولون الحُكوميون والدينيون المُخوَّلون (وليس عامّة الشعب عادةً) هم الذين كانوا يُقيمون الأعمدة المقدَّسة (على الرُغم من أنّ المواطنين العادييّن كانوا يَفعلون ذلك في بعض الأحيان). لذلك لم يكُن على حكومة إسرائيل والمَسؤولين الدينيين في إسرائيل أن يُقلِّدوا المُمارسات العامَّة لجيران إسرائيل الوثنيين التي كانت تَبدو ظاهريًا عاديَّة ومُعتادة.

الكَلِمات الأولى من الآية الثامنة عشرة مُسجَّلة حَرْفيًا على النحو التالي: ”تُعيِّنون لأنفسِكم…..“ قُضاة. أشير إلى هذا المَوضوع لأن السؤال الأول الذي كان سيَسأله أي إسرائيلي هو: ”من الذي سيُعيِّن هؤلاء القضاة“؟ والجواب هو الشَعب.

بما أنّ الأنظمة القَبَلية توظِّف شيوخًا كمُمثّلين للشعب (كان الشيوخ هم القادة، الذين كانوا يُدينون بالفَضْل لقبيلتِهم أو سِبطهم، ولكنهم لم يكونوا بالضرورة يدينون بالفَضْل لرئيس القبيلة)، فإنّ هؤلاء الشيوخ هُم في الواقع من كانوا يُعيِّنون القُضاة.

الكَلِمة العبرية التي تَعني القاضي هي شوفيت. بعد فترة وَجيزة من غَزو إسرائيل لكَنعان، ندخُل في حَقَبة القُضاة الذين حَكَموا وقادوا إسرائيل وخَلَّصوها من الاضطهاد الأجنَبي.

يَتناول سِفْر كامِل من الكتاب المقدَّس (وهو بالمناسبَة من أروع الأسفار في الكتاب المقدَّس) هذه الفَترة ويُسمَّى بشكل مُناسب سِفْر القُضاة ( سِفْر الشوفيتيم). ومع ذلك تمّ تأسيس الشوفيت في سِفْر التثنية). نِظام الشخصيات ذات السُلطة التي كانت تتوَلّى الحُكْم في الأمور المَدَنية اليومية لم يكُن جَديدًا بالنسبة لإسرائيل؛ نَقرأ في سِفْر الخروج أنّه بِتَشجيع من ييترو والِد زوجة موسى، أنشأ موسى نِظامًا قضائيًا يتمُّ بموجَبِه اختيار بعض الرِجال النُزَهاء (الشيوخ) ليكوِّنوا نوعًا من المَحاكم الدُنيا للنَظَر في الأمور العادية والدُنيوية للشَعب؛ وإذا ما ثَبُتَ أنّ الأمر صَعبٌ جدًا أو خطير بطبيعتِه عندها فقط تَدخَّل موسى والكاهن الأكبَر هارون. والفَرْق هو أنّه في ظِلِّ النِظام الذي كانوا يَستخدمونَه في البريَّة، لم يَتِمّ التعامُل مع المسائل القانونيَّة ضِمْن كل سِبْط؛ أيّ أنّه إذا كان الشخص يَنتمي إلى سِبط يَهوذا، لمْ يكُن أفراد سِبط يهوذا فقط هم الذين يُستجاب لهُم. بل كان يَتمّ ذلك عن طريق نِظام مَركَزي أنشأه موسى لمَجلِسْ شيوخ يتألَّف من رِجال من مُختلَف الأسباط كانوا يَتلون الحُكم على الجَميع.

لكن على جِبال موآب قَبل الدخول إلى أرْض الميعاد، سيَتغيَّر الأمْر. كانت إسرائيل أثناء وجودِها في البريَّة أمَّة مُوحَّدة تَعمَل تحت قيادة قائد واحِد هو موسى. وبينَما كان بنو إسرائيل ذاهِبون إلى كنعان لغَزوِها، بَقِي نفْس الشَكل التَنظيمي المَركَزي المُحكَم الأكثر ملاءمة للعَملية العَسْكرية التي كانوا يقَومون بها، إلا أنّ يوشَع أصبَح السُلطة العُليا. ولكن بعدَ يوشَع مُباشرَةً ضَعُفَت الحكومة المركزية وانْحَلَّت بشكلٍ أساسي. لذلك فإنّ هذه المَراسيم الوارِدة في سِفْر التثنية حول كيفيَّة عَمَل الحكومة الإسرائيلية لم تُصبِح ساريَة المَفعول حقًا إلا بَعد تأمين أرض كَنعان، عندما لم تَعُدْ هناك حاجة إلى الإدارة والهَيكل العَسكريَين، وبعدَ أن أسَّسَ كل سِبط من الأسباط الاثنَي عشرَة مَوطئ قَدَم له في مِنطقة الأرض المُخصَّصة له. هذا الأمر تَخلَّله تَصوُّر للوَقْت الذي سيَكون فيه كل سِبط أكثر استقلالاً، وبالتالي كان سيَكون لكُلّ سِبط مجموعة من القُضاة والمَسؤولين الخاصّين به. المِفتاح هو أنّه في حين أنّ إسرائيل ستُصبِح نِظام حُكم لامركَزي في كنعان في وقتٍ قَريب، إلا أنّ الرَب كان لا يزال يَتوقَّع تمامًا أن يَعمَل كل سِبط وِفْق نفْس المجموعة المُشترَكة من المبادئ: الناموس، التوراة.

مَبدأ التوراة رقَم واحد مَذكور في نهاية الآية الثامنة عشرة: على هؤلاء القُضاة والمسؤولين أن يَحكُموا بحُكْم مُستقيم؛ بالعِبرية ميشبات تزيديك. تَشرَح الآية التاسعة عشرة أُسُسْ ”الحُكْم العادِل“ في نَظَر الله؛ واحِد) يجِب أن يكون الحُكم عادلاً، اثنان) ألا تكون هناك مُحاباة، ثلاثة) لا يَجوز أخْذ الرَشوة من أحَدْ الطرفَين في النِزاع لأنّ ذلك قد يُغيِّر النتيجة بشكلٍ غير عادِل لصالِح من أعطى الهَديّة. الآن لدي بعض المآخِذ على التَرجمة المُستخدمَة في الآية عشرين من قِبَل مُترجمي الكتاب المقدَّس اليَهودي وغيرِهم باستثناء عدَد قليل من الترَجَمات. تقول الآية عشرون عادةً: ”الْعَدْلُ وَالْعَدْلُ وَحْدَهُ تَتَّبِعُونَ…“. بالتأكيد هذا المَعنى ليس خارِجًا عن قَصْد الله في نظام عدلِه. ولكِن في العِبرية الكَلِمات المُستخدمَة في الواقِع هي: ”تَزيْدَكُ وفقط تَزْيدَكُ وَحْدَهُ تَتَّبِعُونَ….“ تزيدك تَعني البِرّ وليس العَدْل. لذلك فإنّ التَحذير المُوجَّه للقُضاة يكون أكثر دِقَّة ”البِرّ والبِرّ فقط يجِب أن تَسعى إليه…“ المَغزى هو أنّ البِرّ هو أساس نِظام العَدالة الإلهية، وبالتالي فإنّ البِرّ هو الهَدَف من الحُكم في أي قَضيَّة. وبما أنّ البِرّ لا يُمكِن أن يَأتي إلاّ من الله، فكذلك العَدْل الحَقيقي لا يمكن أن يَأتي إلاّ من الله. لذلك فإنّ عِبارة الآية عشرون ليسَت أمْرًا غامِضًا أو مَشحونًا بالعاطِفة يدُلّ على أنّ على القُضاة أن يَحكُموا بالعَدْل، بل هي وَصيَّة بإقامَة نظام الرَب في البِرّ وليس فَلسَفة قَضائية من صُنْع البَشَر تَختلِف بحَسَب الظروف وبحَسَب المسؤول. وهذا هو نِظام ميشبات تزيديك، أي العَدْل المُستقيم، الذي يؤسِّسه الناموس ويجِب اتِّباعُه بدقَّة في جميع الأوقات داخِل إسرائيل عند البَتّْ في الأمور القانونية.

بالإضافَة إلى إدارة نِظام عدالة الله بأمَانة كإستِجابة مَنطقِية وسَليمة لقادة شعبِ الله، تأتي بَرَكة من القيام بذلك: تزدهِر إسرائيل وتَحتلُّ الأرض التي يُعطيها الله لها. ليسَت هذه هي المرَّة الأولى ولا الأخيرة التي سنرى فيها موسى يُخبِر الشَعب أن اتِّباع أوامِر يَهوَهْ وفرائضَه لها هَدَف يَتجاوَز الطاعَة الميكانيكية البَسيطة؛ فالعَيْش في ظِلّ العَدالة الصالِحة أمْر لا غِنى عنه إذا كان يتوقّع التَمسُّك بالأرض بعد أن يَحتلَّها، وإذا كان يتوقَّع أن تُنتِج الأرض بوَفْرة.

والآن يأتي دَور ثلاث مُمارسات دينية غير مَقبولة تَقَع على عاتق الشعب مَسؤولية تجنُّبِها، وعلى المسؤولين الحُكوميين مَسؤولية القضاء عليها بلا رَحْمة. في الآية واحد وعشرين، تَرِد الأولى وهي أنْ لا يَنصُب شَعب إسرائيل عَمودًا مُقدَّسًا أو أي نوع من الأعمِدة بجِوار مَذبح الله تعالى. تقول الآية بالعبرية إنّه لا يَجوز له أن يُقيم ”عشيرة“. يَستحِقّ تَعريف ”العشيرة“ أن نَقضي بعضَ اللَحَظات لفَهمِه؛ العشيرة تَعني ببساطة أي نَوع من الأعمِدة الخَشبية أو الأشجار أو الشَجر المُكرَّس لإله. لا يَعني ذلك أنّ الوثَنِيّين كانوا يَنظُرون إلى هذه الأعمِدة على أنَّها آلهة؛ بل إنها لم تكُن سوى رُموز تُكرِّم آلهة مُعيَّنة. كان الكَنعانيون قد بدأوا منذ زَمنٍ بَعيد بِنَصْب نوعَين مُختلفَين من الأشياء لتَكريم إلَهَيْهِم الأساسيَين: بَعْل وعشتوريث.

لذلك في مَرحلة ما، قَبْلَ فترة طويلة من بَدء إسرائيل في غَزو كنعان، أصبَحت شَجَرة التَنوب أو العَمود الخشبي المُستخدَم لغَرَضٍ ديني في أرض كنعان مُرتبِطًا بشكل حَصْري بآلهة الخَصْب الكنعانية، عشتوريث.

لهذا السَبَب تمّ حَظْر الشيء الذي استَخدمَه الكنعانيون لتَكريم إلهِهم الرئيسي، بَعْل، في الآية التالية. هذا الشيء عِبارة عن عَمود حَجَري، يُترجَم أحيانًا إلى ”حَجَر قائم“. كان العَمود الحَجري في كنعان هو الطَريقة الشائعة للدَلالة على مَذبَح أو ضَريح مَبني تَكريماً للإله الذَكَر بَعْل، وكانت الشَجرة أو العَمود الخشبي المَغروسة بجانِب مَذبَح أو ضَريح مَبنيَة تكريماً للإلهة الأنثى عشتوريث. بالمُناسبة: في أساطير الآلهة الكنعانية، كانت عَشتوريث زوجَة بَعْل.

بطبيعَة الحال يَقول الرَب لا تَجرؤ على استِخدام شجَرة أو عَمود أو حَجَر قائم بجِوار مَذبحي، كوَسيلة لتكريس هذا المَذبح لي فالله لا يُريد أن يُعادَ استخدام شيء يرمُز بوضوح إلى آلهة الكنعانيين ببساطَة ثم يُعاد تَكريسُه له. وكانت هذه مُمارسة مُعتادة عندما يَحتلُّ مُجتمع ما أماكن مقدَّسة لمُجتمع آخر. ولهذا السَبب سنرى في التوراة العَديد من القَوانين التي تُحرِّم القيام بأمور مُعيَّنة (مِثل طَبْخِ صغير الماعز في حليب أمِّه) والتي لا تَبدو في ظاهرها سيئة بطبيعِتها؛ ولكنَّها مَحظورة لأنها كانت مُمارساتْ عِبادة كنعانية ولم يرغَب الله في إدخالِها في عبادتِه.

إنْ كنتم مُنتبهين، قد تتساءلون لماذا إذا كانت الأعمدة الحَجرية والحِجارة القائمة مَحظورة بشكلٍ قاطِع من قِبَل الرَب، نَجِد يعقوب يُقيم واحدًا منها للشدّاي وهو في رحلتِه من كنعان إلى بلاد ما بين النَهرَين قَبل ذلك بحوالى خمسة قرون؛ أو نَجِدُ إبراهيم يُقيم مذبحًا للشدّاي تَحت شجرة الطرفة في بئر سَبْع قَبْل ذلك بمئة عام. والواقِع أقام موسى اثنا عشر حَجرًا من هذه الحِجارة في جَبَل سيناء، ويَسوع سيُقيم حجرًا ضَخمًا في شكيم (وكلّ ذلك لتَكريم يَهوَه، ولا يوجَد أي تلميح إلى أن يَهوَه اعترَض على ذلك).

بينما لا يُمكنني أن أعطيكَ إجابة مُقنِعة تمامًا على هذا (لأنني لا أعرِف لماذا، على وَجْه اليَقين، لم يُعارِض الرَب هذه المُمارَسة بشدَّة) إلا أنني واثِق أنّ الأمْر يتعلَّق بمفهوم مَنسوج في التوراة والكتاب المقدَّس بشكلٍ عام وهو أنه لا يوجَد كائن حَي هو في حَدِّ ذاتِه نَجِسْ أو شرّير، بل القضيَّة هي ما هو الشيء أو المَخلوق الذي يُستخدَم من أجلِه ولِمَن يتوجَّه، إلى جانِب إعلان الله عن مَكانة ذلك الشيء أو المَخلوق الحَي المقدَّس أو النَجِس. هذا لا يَعني أنّ إسرائيل كان لديها الخَيار الشرعي في جَعْل ما حَرَّمَه الله مُباحًا لمجرَّد أنها (في أذهان الشَعب) شعَرَت أنها تَفعل شيئًا أفضَل أو أكثر مَحبَّة (والأمر نفسُه ينطبِق علينا).

إذًا فالحَجر غير المَقطوع الواقِف على حافّتِه ليس شرًا بطَبيعته. الشَجرة أو العمود الذي تم تَشكيله من جِذْع الشجرة وغرسه في الأرض ليس شريرًا بطبيعتِه. ولكن عندما تُستخدَم هذه الأشياء كوَسيلة لمحاوَلة تكَريم الرَب الإله (على الأقل كانت هذه الحال منذ زَمَن موسى وإعطاء الناموس) فإن الرَب قد نَهى عنها لاختلاطِها بسهولة مع مُمارسات العبادة الوثنية المَعروفة. قد لا يَكون قَصْد العابِد هو خَلْط الوثنيَّة بعبادة يَهوَه؛ ولكن النَتيجة هي أننا عَصَيْنا وصايا الآب وَوَضَعْنا أفكارَنا قَبْل أفكارِه. هو قال بحَزْم: ”لا تَفعلوا“، وثانيًا، إنّ القيام بمِثل هذه الأمور يُمكِن أن يُسبِّب ارتباكًا بين أولئك الذين نُحاول تعليمَهُم داخِل هيكَل المؤمنين، وسوء فَهْم بين أولئك الذين نُحاول الوصول إليهم مِمَّن هم خارج جَماعة الله. الحقيقة هي أنّ الإنسان غير قادِر وحدَه على التَمييز بين ما هو شَرعي وما هو وثَني. لذلك بينَما نحن نبحَثُ عن التفاصيل الفنيَّة والثَغرات والاستثناءات والطُرق وعن أمور نحن مُقتنعون أنها نابِعَة من حالة قلوبِنا النَقيَّة، وتقول شريعة الرَب أننا يجِب أن نَتجنَّبها ببساطة، ستَكون النتيجة أننا سنَفشَل أكثر بكثير مما سنَنجَح عند التمسُّك ببرِّنا الذي هو فقط هِبْة النِعمة.

لننتقِل إلى سِفْر التثنية الإصحاح السابع عشر.

اقرأ سِفْر التثنية الإصحاح الإصحاح السابع عشر من الآية واحد إلى ثلاثة عشرة

التَعليم الأول المُعطى في هذا الإصحاح هو أنّ الحيوانات التي لا عَيب فيها هي فقَط التي تُقدَّم ليَهوَه وتَقديم أي شيء آخر هو إظهار لاحتقارِنا للرَب. في الواقِع يَعتبِر الله ذلك ”مَمقوتًا“. أن نقدِّم للرَب أي شيء سوى ذبيحة كامِلة هو أمر خاطئ، فهو يطلُب منا الأفضَل. عندما نَعلَم أن هذا هو ما يتوقَّعُه منا ونَفعَل غَير ذلك، فهذه محاولة للخِداع. يَرِد مَثَل عن ذلك في أعمال خمسة في قِصّة حنانيا وامرأته سفيرة اللذان قدَّما قربانًا يبدو ظاهريًا مُناسبًا ومقبولاً؛ ولكنَّهما أخفَيا بعضًا منها (بالخِداع) وكان هذا القرار قاتِلًا.

الوصيَّة الأساسية في العَهد المُوسوي هي ألا تَعبُد إسرائيل آلهة أخرى. وهكذا تَشرَح الآية اثنان ما الذي يجِب أن يَفعله المسؤولون الحُكوميون مع من يُشتبَه في عبادتِه للأوثان. وبينما قد يبدو الأمر واضِحًا لنا اليوم، إلا أنّ هناك بعض الأساسيّات حول ما يُعتبَر ”عبادة آلهة أخرى“ ووُضِعَت لتوجيه القُضاة الذين سيقرِّرون مَصير المُتَّهَم. اسمحوا لي أن أكرِّر ذلك حتى نتمكَّن من فَهْم ما يجري هنا: مُعظَم ما سنَجِدُه في الإصحاحات سبعة عشرة إلى واحدة وعشرين عِبارة عن إرشادات وُضِعَت لمُختلَف القُضاة والمسؤولين الذين سيُكلَّفون بمَسؤولية الفَصْل في القضايا التي تُعرَض عليهِم بشأن الانتهاكات المُحتمَلة للشريعة. يتوقَّع الرَب أن يتمّ اتِّباع هذه المبادئ التَوجيهية لإدارة عدالتِه الصالِحة في كل أرْض ومستوطَنة تؤسِّسُها إسرائيل (كما جاء في الكَلِمات القليلة الأولى من الآية اثنان).

أوَّل شيء نُلاحظُه هو أنّ هذا المَرسوم يَنطبِق على الرِجال والنساء؛ والشيء التالي هو أنّ عبادة آلهة أخرى هي إهانة مُباشرَة ليَهوَه، وهي تنتهِك العَهد الذي قَطَعه مع إسرائيل. من المُثير للاهتمام أنّ الرَب يوضِح في الآية ثلاثة، أنّ العبادة نحو الشَمس والقَمر والنجوم هو أمْرٌ لم يأمُر به أبدًا. هذا البيان مُصمَّم لدحض الفِكرة القائلة بأنّ الكواكب السَماوية كانت قد خُلِقت لكي تُعبَد وأن الرَب أمَرَ في الأزمنة السابقة بأن يكون هذا الأمر جائزًا ولا بأس به. الفِكرة هنا هي أنّ نُجوم السماء تُصنَّف بالفِعل على أنها من تلك ”الآلهة الأخرى“ وهي مِثال نَموذجي لأنواع الأشياء التي قد يَعبُدها البشَر، ولكن لا يَنبغي أن تكون كذلك.

لنكُن واضحين: يَعلَم الرَب الإله أنه لا توجَد ”آلهة أخرى“. إنه يعلَم أنّ بَعْل وعشتوريث ومردوخ وزيوس وكلّ البَقيَّة ما هي إلا أسماء سَخيفة من نَسْج خيال البَشر الخَصْب. لكن البشر ظَنّوا دائمًا خِلاف ذلك. إنّ الله واثِقٌ تمامًا من أنّ الكواكب والنجوم والأقمار التي خَلَقها ما هي إلا أشياء مَخلوقة (كُرات من الصخور أو الغازات) لا أرواح لها ولا قِوى إلهية. لكنّ البَشَر غالبًا ما يَعتقدون خِلاف ذلك. أقول لكُم هذا (وهو أمْر يدركُه كل من يستمِع إليّ بالفِعل إدراكًا تامًا) أنه على الرُغم من عَدم وجود ”آلهة أخرى“ بأي شَكْل من الأشكال المادية أو الروحية، إلا أنّها موجودة بالفِعل في نزْعات البشر الشرّيرة.

لذلك عندما يُذكِّركُم قساوستكُم وحاخاماتكُم أنّ المسيح والحواريون يُحذِّرون من أنّ المال، أو الثروة، أو السُلطة، أو وظيفتُك، أو مكانتُك في المُجتمع أو أي شيء نَضَع فيه آمالاً أو مخزونًا كبيرًا يمكن أن يُرفَع بسهولة ودون وَعي إلى مَكانة ”آلهة أخرى“، فهذا ليس غَلوًا. هذا ليس غلوًا إلهيًا يُفترَض أن يؤخَذ على محمَل الجَد. فالمال ليس إلهًا بطبيعتِه أكثر من القَمر، أو الحَجر القائم، أو الصورة المَنحوتة. ولكن لا يَختلِف المال أيضًا في قدرتِه على الفساد والارتقِاء إلى مَكانة أعلى من الَقمر، أو الحَجر القائم، أو الصورة المَنحوتة. إنها كلُّها كُرَة واحدة كبيرة من الشَمع، لذا يمكن أن نَميل جميعًا إلى عبادة الأصنام مع أي من هذه الأشياء والتَظاهُر بأنّ هذا الأمر في الواقِع هو إلهي. كُنْ حَذِرًا جدًا من أحدَث طرُق الرَدَّة والوثنية داخل كنيسة الله: عقيدَة الرَخاء.

بعدَ تَحديد ما تَرقى إليه ”عِبادة آلهة أخرى“، تَبدأ الآية أربعة في شَرْح ما يجب أن يَكون عليه بالضَبِط الإجراء الذي يجِب أن يتَّخِذَه القُضاة والمسؤولون عند مواجَهة شخص مُتَّهم بهذا العَمَل الخطير من أعمال التمرُّد. بمجرَّد أن يتمّ إبلاغ المَسؤولين المَحلييّن باحتِمال انتهاك شريعة الله، يجِب البدء في تَحقيقٍ شامِل، وإذا اتَّضَح أنّ المُتَّهَم قد ”عَبَد آلهة أخرى“ بالفِعل، فإنّ هذا الشخص (سواء كان ذكرًا أو أنثى) يجِب أن يُعْدَم عَلنًا عن طريق الرَجْم.

إنّ كَلِمات هذا الإجراء القضائي أكثر صَرامة مما تَبدو عليه، لأنه عندما يَقول: ”وقيل لكُم أو سمعتُم عن“ هذه الجَريمة، فهذا يَعني أنه سواء سَمِع القاضي عن هذه المُخالفة المُحتمَلة عن طريق تقرير مُباشَر من شخص مَسؤول أو مُجرَّد شائعة مُتداوَلة، فيجِب أن يَكون هناك تحقيق. يُرجى المُلاحظة: ليس هذا هو الحال مع جميع الانتِهاكات المُحتمَلة للقانون بل إنّ ارتكاب عِبادة الأوثان أمرٌ خطير جدًا لدرَجة التَحقيق الفَوري بالشائعات داخِل إسرائيل. ولكن بما أنّ العُقوبة الوحيدة المُمكِنة لعبادة الأوثان هي الموت، فيجب أن يتقدَّم شاهدان على الأقل (ومن الأفضَل أن يكونا أكثر من اثنان) للإدلاء بشهادتِهما. لنكُن واضحِين: الشُهود في جميع الحالات تقريبًا هم أيضًا المُتَّهمون. الشاهِد ليس مِثل ما نراه اليوم حيث قد يَشهَد شَخص ما على أدِلّة الحِمض النووي، أو نوع السيارة، أو الطبيعة الطبيَّة لبَعض الإصابات. كان الشهود في عَصْر الكتاب المقدَّس هُم ما نُسمّيه اليوم ”شُهودَ العَيان“؛ كانوا أولئك الذين ادَّعوا أنهم كانوا حاضِرين عند ارتكاب الجريمة وشاهَدوها بالفِعل.

لكنّ الشاهِد في عَصْر الكتاب المقدَّس كان عليه واجِب أكبَر من ذلك؛ كان الشاهِد أيضًا جَلاّدًا في قَضيةٍ عقوبتُها الإعدام. فكما تقول الآية سَبعة، يجب أن يَكون أولئك الشهود والذين ستؤدّي ادعاءاتُهم إلى مَوت المُتَّهم، أوَّل من يَرمي المُجْرِم بالحِجارة، ثم يُطلَب من بقيَّة الجَماعة الانضمام إليهم.

هناك بعض عِلمْ النَفْس الممتاز وراء هذا البروتوكول. أولاً، الشاهِد الذي يُدلي بشهادة غير صادِقة في قَضيّة إعدام تؤدّي إلى إعدام شخص بريء أصبَح الآن مُلطَّخًا بالدماء. وهذا يَعني أنه الآن قاتِل ومُعرَّض للإعدام هو نفسُه.

ومِثله مِثل أي شخص مُذنِب بـ ”الدَم“ في العَهد القديم، فهو مَفصول من الله بشكلٍ دائم وهذا يَعني الموت الجسَدي والروحي على حَدٍ سواء. لذلك كان هناك ضَمانة تهدُف إلى تثبيط شَهادة الزّور المُتَهَوِّرة أو المُتَعَمَّدة؛ من خلال طَلب عِدَّة شهود، للتَحقُّق من الشهادة.

بَعد أن يَبدأ المُتَّهمون/الشهود في عَملية الإعدام (بِرَمي الحِجارة الأولى) ينضَمّ المُجتمع بأكملِه ويُكمِل المُهمَّة. هل يمكنكم أن تَتخيَّلوا الانطِباع الذي تَرَكه كلُّ من التَقَط حَجرًا وساعَد في قَتْل ذلك المُجرِم؟ لقد كان الأمر دَمويًا وفَظيعًا. لم يكُن الأمر صِحِيًّا وبَعيدًا عن أعيُن الناس كما هو الحال اليوم. لم يكُن الهدَف أن يكون ”غير مؤلِم“ للجاني وللمُجتمع. الله لا يفرَح بموت الأشرار ولا يَنبغي لشعبِه أيضًا. ولكن من خلال مشاركَة المُجتمع بأكملِه في شيء مِثل الإعدام، لا يُمكِن لأحد أن يقول إنه لم يكُن يعلَم به ولا يُدرِك مدى فظاعة الإعدام ومدى فظاعة الخطيَّة وعواقبِها.

لكن في النِهاية، كان هذا يتعلَّق أيضًا بتأكيد المُجتمع بأكملِه على نظام عدالة الله. لقد كان المُجتمع بأكملِه يَعترِف بأن شرًا كبيرًا قد ارتُكِب (أولاً وقَبْل كل شيء ضد يَهوَه) وكانت وظيفتُه هي تَطهير هذا الشَر من المُجتمع.

هذه هي وظيفة الحكومة البشرية.

تمامًا كما كان الأمْر في البرِّيَة عندما كانت وَظيفة مَجلِس الشيوخ أن يَفصُل في القضايا اليوميَّة، وإذا كانت القَضيَّة خَطيرة جدًا أو تتجاوَز قُدرتُه على الفَصْل فيها، يُحيل الأمر إلى موسى، هكذا سيَكون الأمر عندما تَستقِرّ إسرائيل في أرض الميعاد.

ابتداءً من الآية ثَمانية، يُقال للمَسؤولين الحكوميين أن يُنشئوا ”محكمةً عُليا“ حيث يتمّ البَتّْ في القضايا الصَعبة للغاية بالنسبة للمَحاكم المَحليّة. دعوني أكون واضِحًا: لم تكُن هذه مَحكمة استئناف. لم تكُن هذه حالة أصدَرَت فيها مَحكمة أدنى دَرَجة حُكماً وطَلَب المُتَّهم نَقضَه. كانت هذه مسألة تتعلَّق بقضيَّة أكثر صعوبة أو خطورة مِمّا كانت المَحكمة الأدنى درجَة قادِرة على التعامُل معها أو لم يتمكَّن الشيوخ ببساطة من الاتِّفاق على الحُكْم. لم يكُن هناك نظام استئناف في القانون. إذا فَصَلت المَحكمة الأدنى دَرَجة في المَسألة، فإنّ النتيجة كانت ثابِتة وكانت هذه هي النِهاية.

رَفْع القضيَّة ”إلى مَكان اختارَه الرَب إلهك“ يعني أنها تُرفَع إلى مَحكمة مركَزية. كانت المَحاكم الدُنيا (عندما تأسسَّت إسرائيل في الأرض) هي مَحاكم الأسباط التي يَنتمي إليها الشَخِص. كان لكلّ سِبط من الأسباط الاثني عشرة مِنطقة خاصة وبالتالي مَحاكمُه الدُنيا. ولكن إذا لم يتمكَّن قُضاة المحاكم الدنيا من الاتِّفاق على القضية، كانت القضيّة تُرفَع إلى المَحكمة العُلْيا التي كانت تتألَّف عادةً من الكَهنة اللاويين. كان الكهنة يُعتبَرون أكثر حِنْكة في فَهمِهم للشريعة وبالتالي كانوا الأكثر تأهيلاً للبَتّ في القَضايا الأكثر صَرامة. وعلاوةً على ذلك، كان الكَهْنوت يتمتَّع بسُلطةٍ على كلّ إسرائيل، لذلك كان من واجِب هيئة الكهنة البَتّْ في القضايا التي تُرفَع إليهم من أي من الأسباط العِبرانية الاثني عشر.

لم يكُن ”المكان الذي يختارُه الرَب إلهك“ بالضَرورة هو موقِع خيمة الاجتماع، بل كان أيًا من المُدُن اللاوية الثماني والأربعين المُنتشِرة في جميع أنحاء الأراضي المقدَّسة، ومما لا شَك فيه أنّه كان الأقرَب إلى موقِع المَحكمة الدنيا التي كانت تَبُتّ في أي مسألة مُعيَّنَة.

توضِح الآية عشرة أنّه مهما كان ما قَرار مجلس الكهنة اللاويين، فإنّ قرارَه نهائي ويَحمِل سُلطة على كل الأسباط. لذلك فإنّ العِقاب (إن كان هناك عِقاب) يجِب أن يُنفَّذ فوراً وبشكلٍ كامِل وبدون عَودةٍ عَنه. تقول التعليمات أيضًا أنّه إذا رَفَضت السُلطات المَحليَّة (أي زُعماء الأسباط المَحليَّة) العَمَل وِفقاً لحُكْم المَحكمة العُلْيا، فإنّ ذلك المسؤول القَبَلي (أو مَجموعة المسؤولين) يجِب أن يُعدَم.

كانت هناك أسباب عَمَليَّة لإضافَة هذا التَهديد. لقد علَّمتُكُم من قَبل عن بَعض الفُروق الدَقيقة في النِظام القَبَلي للتنظيم المُجتمعي. وخُلاصَة القوْل إنّ الوَلاء للسِبط هو كلُّ شيء، فهَدَف كل سِبط هو أن يكون الأكثر هيمنَة على جميع الأسباط الأخرى. وفِكرَة أن يتنازَل العديد من رؤساء أو أمَراء الأسباط عن ولائهِم الشَخصي أو يتنازَلوا عن بَعض من سُلطتِهم الشَخصية لصالِح سُلطة مركزيّة كانت تتعارَض مع ما كان سائدًا. في البرَّية كان موسى يتعامَل باستمرار مع هذا الواقِع، ولذلك دَخَل في مَعركة طويلة مع رؤساء أسباط إسرائيل الاثني عشر للحِفاظ على نوع من الوحدة الوطنية. لكن خلال رحلَتِهِم من مصر، كان من المَفهوم لدى مُعظم بَني إسرائيل أنّ نجاتَهُم تَعتمِد على التَعاون المُتبادَل بين الأسباط. لكن بمُجرَّد أن استَقرّوا داخِل مُخصَّصات الأراضي الخاصّة بِهم، تضاءلت الحاجَة المُتصوَّرة للوِحْدة الوطَنية والحِماية المُتبادَلة، وهكذا أصبَح كلّ زَعيم سِبط هو السُلطة العُلْيا على أولئك الذين يَعيشون في أراضيه.

هكذا نَكون قد دَرَسْنا واحِدًا من الأنواع الأربَعة الأساسية للسُلطة البشَرية التي أذَنَ بها الله لإسرائيل (القُضاة)، والآن تبدأ الآية الرابعة عشرة في تأسيس النَوع التالي: المَلِك. هذا يُفاجئ الكثير من الناس لأنّ مُعظم الناس الذين يعرِفون أسفارَهُم المقدَّسة يُفكِّرون في الوقت الذي عَيّن فيه صموئيل المَلِك شاول والمَوقِف السَلبي بشكلٍ عام في الرِواية بشأن هذا التَتويج لأوَّلْ مَلِك لإسرائيل. ومع ذلك، يَتنبّأ يَهوَه باليوم الذي سيَكون فيه لإسرائيل مَلِك، ويَضَع الحدود والقواعِد التي يجِب أن يَعمَل ملوك إسرائيل بموجَبِها.

هذا القِسم هو المَكان الوحيد في التوراة الذي يَطرَح موضوع إمكانية وجود مَلِك على إسرائيل. والنَبْرة تُشير للأمر على أنه تنازُل نهائي لرغبات الشَعب، وليس شيئًا يُريده الرَب لإسرائيل بشكل مِثالي. لذلك هناك قيود: أوَّلُها أنّ المَلِك يجب أن يكون شخصًا يَختارُه يَهوَه (وإن كان لا يُشير إلى كيفية هذا الاختيار)، وثانيها أنّ هذا المَلِك يجب أن يَكون إسرائيليًا وليس أجنبيًّا.

اسمَحوا لي أن أُعلِّق على أنّ مسألة المَلِك الذي سيوافِق عليه الرَب هي مَسألةْ نَبويَّة؛ فهي تتحدَّث عن وَقْت (حوالى ثلاثمئة سنة بعد موسى) حدوث ذلك، ولكن بالتأكيد لم يَكُن وشيكًا. لقد جادَل بعض عُلماء الكتاب المقدَّس البسطاء بأنّ هذا الذِكْر للمَلِك يَعني أنّ سِفْر التثنية (أو على الأقل هذا القِسم من سِفْر التثنية) لم يُكتَب حتّى بعد السَبي البابلي لأنّ إسرائيل في ذلك الوقْت كانت قد مرَّت بتجارُب سيئة للغاية مع الملوك، ولذلك أراد بَنيها وَضْع بعض القواعِد للسيطرة على هؤلاء الطُغاة. لا يوجَد سبب لقراءة مِثل هذا التاريخ المُتأخِّر في هذه المَقاطع؛ فالعالم المَعروف كلُّه كان فيه ملوك في عهد موسى، وكانت كنعان مَوْطنًا لعَشرات (ربما أكثر) الملوك. ما كان يَفعلُه المَلِك، وكيف وَصَل إلى السُلطة، وكيف كان يَحكُم وغير ذلك، كان راسخًا منذ الأزَل، وألاّ يكون لشَعب مَلِكًا عليه كان أمرًا لا يمكن تَصوّرُه تقريبًا. لذلك ظهَرَت الطبيعة البشرية لِبَني إسرائيل (على الرُغم من عَرْض الله أن يكون إلهَهم ومَلِكُهم معًا) بالمُطالبة في النهاية بمَلِكٍ بشَريٍ عليهِم كما كان على جيرانِهم.

عندما نَلتقي مرة أخرى، سوف نَدرُس القيود التي رَسمَها الرَب لملوك إسرائيل في المُستقبَل.