سِفْر التثنية
الدرس سبعة – الإصحاح خمسَة
لقد قَطعْنا الآن حوالى ثمانين بالمئة من دراستِنا للتوْراة، وقد استوعَبنا كمًّا هائلاً من التَفاصيل. قَبْلَ أن نبدأ اليَوم دراستَنا للإصحاح الخامس من سِفْر التثنية دعونا نتوقَّف لبِضع دقائق فقط لنستجمِع أفكارَنا. اسمحوا لي أنْ آخذ بِضع دقائق لأرسُم صورة عن بَعض المُقدِّمات الأساسية لسِفْر التَثنية التي يَجِب أن نَحْفَظْها في جميع الأوقات عِنْدَ دِراسة هذا الكِتاب العظيم والكتاب المقدَّس بشكلٍ عام.
أولاً، إنّ سياق سِفْر التثنية يؤكِّد أنّ الشرائع التي أُعْطيت لإسرائيل (التي أُعْطيت في الأصْل في جَبَل سيناء والتي تتكَرَّر الآن وتتوسَّع إلى حَدٍّ ما هنا في موآب) هي مِن يَهوَه.
تَبدو هذه الفِكرة عن مجموعة القوانين التي تأتي من الله بَسيطة وسَهلة القبول بالنِسبة لنا؛ ولكن مِثلما كان وجود إله واحِد في الوجود مفهومًا جديدًا تمامًا للعالَم (ولإسرائيل)، كذلك كان الأمْر ثوريًا بنفْس القَدْر لأنّ إلهًا بدلاً من مَلِك تلك الأمَّة سيَضَع القوانين والقواعِد التي تَحكُم مُجتمَع بَشَري. حتّى هذه المَرحلة من التاريخ، كان المَلِك البشَري دائمًا هو الذي من اختصاصِه أن يُعلِن ما هو الصواب والخَطأ، وما هو قانوني وما هو إجرامي. لَكِنْ بالنسبة لإسرائيل، سيَتغيَّر إلى الأبد الفَهْم الشائع لمَصْدر القوانين المُجتمعية.
ثانيًا، هناك سِياق إضافي لسِفِر التثنية يقول أنّ أولئك الذين كان موسى على وشَك أن يُكَّرِر لهُم هذه الشرائع (الشرائع الّتي تَبدأ بالسِلسلة الأولى من الشرائع العَشْر التي نُسمّيها الوَصايا العَشْر)، هؤلاء الناس الواقِفين أمامَه، لم يَكونوا حاضِرين (إلا إذا كانوا أطفالاً صِغارًا في ذلك الوقت) عندما أُعْطِيَت الشريعة لأوَّل مرَّة قَبل أربعين سنة تقريبًا، لأنّ الجيل الأول من الخُروج الذي شَهِد الرَهْبَة من كل ذلك قد ماتَ ويبدو أنَّه لم ينقُلها كما كان يَنبغي.
ثالثًا، سنُلاحِظ ونحن نَمضي قُدُمًا في الإصحاحات القادِمة بَعض الاختلاف في كيفية النَظَر إلى هذه الشرائع وتَطبيقِها في هذه المَرحلَة من رِحلة إسرائيل مُقابل كيفيّة النَظَر إليها وتَطبيقها قَبل أربعين سنة في بداية رِحلتهم في البَرِّية. هذا لأن عَصر العَيش في خيام مُتنقِّلة، وأَكِلْ المَنّ الذي كان يَنزِل من السماء كلَّ يَوم دون انقطاع، والانتقال من واحة إلى واحة كان قد انتَهى، لذلك كان على موسى أن يَشرَح كيف كان على إسرائيل أن تُراعي هذه الشرائع والأوامِر نفسِها لأن إسرائيل كانت على وشك أن تُصبح شعبًا مُستقِرًّا بَدَل العيش كَشعْبٍ هائل من البَدو المُتجوِّلين.
كان سِياق وجودِ إسرائيل يَتغيَّر، لذلك كان على موسى أن يُعيد صياغة بعض الأشياء؛ لكنَّها إعادةً بَقيَت دائمًا ضِمن حدود الشريعة كما أُعْطيت على جَبَل سيناء.
ضاع مَبدأ عَظيم، تَشمل المُمارسات الشائعة في المَسيحية أن نتَجاهل الظروف والإطار الزَمَني والمَعايير الثقافية لعَصْر الكتاب المقدَّس، بل أنْ نقول إنّ كَلِمات الكتاب المقدَّس لها هذه الصِفة الغامِضة بحيث يُمكن فَصْل آلاف الآيات والفقرات التي يَضُمُّها الكتاب عن سياقِها التاريخي وجعْلِها قائمة بذاتِها في أي عَصْر.
دعوني أُعطيكم مِثالاً موجَزاً لما أعْنيه: ها نحن نَجتمِع اليوم في فلوريدا، في الولايات المتحدة، مَعقَل الثقافة الغربيَّة. نحن في عام ألفين وتِسعة، واهتمامُنا مُنصَبّ على حَرب العِراق المُثيرة للجَدل، والاضطرابات التي لا تَنتهي التي تَدور حول إسرائيل، والأزَمة المَالية العالَمية التي ألقَتْ بالملايين خارج وظائفِهم ومنازلِهم. تُحاول الفاشية الإسلامية إعادة فَرْض نفسِها على المستوى العالمَي. يُهَيْمِن اقتصادُنا وأمْنُنا القَومي على كل تفَكيرنا، وإذا كان المَرء أصوليًا مَسيحيًا فإنّ إيمانَه يتعرَّض للهجوم، ويُعتبَر الآن تهديدًا لأهداف حكومتِنا، ومن المُحتمَل أن يكون مُتأكِّدًا من أننا في الأيام الأخيرة من تاريخ البَشرية وأنّ ما يَجري حولَنا ما هو إلاّ مَسرحية لأحداث نَبَوية مُحدَّدة مُسْبَقًا وغير قابِلة للتَغيير. تقريبًا نِصف كنائسِنا الآن تُنكِر ألوهية يسوع المسيح، وحوالى رُبع الكنائس الأمريكية تؤمِن بزواج المِثليّين وتَرسيم المِثليّين قَساوسة وأساقفة. يَتزايَد العُنف في كل مُجتمعاتنا إلى مستويات غير مَسبوقة، وما كان يُعتبَر برامج إباحية وبرامج إباحية قَبل عشرين عامًا فقط أصبَح الآن أمْرًا شائعًا على شاشات التِلفزيون في أوقات الذُروة.
إنّ مُجتمَعِنا الأمريكي يَتحدَّث الإنجليزية في المَقام الأول، ولكنّ اللغة الإسبانية أصبَحت لُغة ثانية شائعة بشكل مُتزايِد، ويُريد البعض أن تُصبِح الإسبانية لُغة ثانية مَقبولة كلُغة بَديلة مُعتمَدة رسميًا في الولايات المتحدة، بينما يُصرُّ آخرون بشدَّة على أن تَظلَّ الإنجليزية هي لُغتُنا الوَطَنية المُشترَكة الوحيدة وأنّ تَقويض ذلك يَعني تقويض نَسيجِنا الاجتماعي. إنّ أمَّتِنا مُنقسِمة بالتساوي تقريبًا بين أصحاب الفِكر الليبرالي سياسيًا وأصحاب الفِكر المحافظ سياسيًا، ولكن الأرضيَّة الوسطى قد اختَفَت تقريبًا.
هذا هو السِياق التاريخي الذي نَعيش فيه. هذا هو السِياق الذي تَدور فيه جميع حواراتِنا اليوميَّة. هذا السِياق هو سِياق فَريد من نوعِه في عَصرِنا، لم يكُن موجودًا من قَبِل، وسيَتغيَّر مع مرور الزَمن.
والمَقصود هو أنه عندما يُلقي رئيسنا خطابًا، أو يُكتَب كتاب جديد عن حدَثٍ أو قضيَّة كُبرى في عَصرِنا، أو يتحدَّث إلينا واعِظ عن كيفيَّة تَطبيق الكتاب المقدَّس على حياتِنا، إذا كنتَ أمريكيًا تَعيش في فلوريدا في عام ألفين وتِسعة، فكلّ ما ذكرتُه للتو عن ظروفِنا الحاليّة هو السِياق المُعطى لذلك الخُطاب أو الكتاب أو العِظة. لا يَحتاج المُتحدِّث أو المؤلِّف أن يُكرِّر كل هذه الظروف التي تحدِّد عَصرَنا لأنها مَعروفة للجميع.
ولكن إذا كان المَرء يَعيش في إنجلترا أو تُركيا أو المَكسيك أو روسيا فالسياق مُختلِف تمامًا، وعندما يتحدَّث قائد في أي من تِلك الأماكِن فإنَّه يَفعَل ذلك في سياق يتعلَّق بثقافتِه وظروفِه الحاليّة. إنّ سياقَنا الأمريكي ليس فقط غَير ذي صِلَة إلى حَدٍّ كبير بالنسبة لهم، بل إنه غَير مَفهوم في أذهانِهم إلا إذا كانوا مُثقَّفين ومُطّْلِعين على القِيَم واللغة والتاريخ والاهْتمامات الأمريكية.
لا يَختلِف الأمْر مع الكتاب المقدَّس. لهذا السَبب أقْضي الكثير من الوَقت في حِصَّة التَوراة للتَذكير بهذا الواقِع ورَسْم صورة للجُغرافيا، وتَطوُّر اللغة، وما كان الناس يُفكِّرون فيه ويَهتمّون به، وما كانت تَعنيه بعض الكَلِمات والعِبارات بالنِسبة لهُم، وما كانت القضايا والتَحدِّياتِ الرئيسية في ذلك الوَقت، وما كان يُعتبَر مَعرِفة عامة لا يُمكِن الطَعن فيها وما كان مَجهولاً تمامًا بالنسبة لهُم.
ولكن تمامًا كما هو الحال مَعنا اليوم، لم يكُن المُجتمَع في أيّام الكتاب المقدَّس (في أي لحظة زَمنية مُعيَّنة) موحَّدًا ومُتجانِسًا؛ لم يكُن الجميع مُتشابهين ولم يَكونوا جميعًا يَعيشون في ظِلّ نفْس الظروف. لذلِك (على سبيل المِثال) في العَهد الجديد سنَجِد بولس يتحدَّث إلى الوثنيّين في إحدى المُدُن الرومانية الجديدة والمُتقدِّمة مُستخدِمًا مُصطلحات وتوضيحات مألوفة لديهمِ. يتحدَّث إلى الوثنيين باللغة اليونانية، اللغَة التي كانوا يَستخدمونَها. أما عندما غامرَ بالعودة إلى الأراضي المُقدَّسة فتحدَّث إلى ثقافة اليهود الفريدة والمُجتمَع اليهودي المُختلِف تمامًا (المُنْفَصِل تمامًا عن العالَم الروماني) في سياق فَهْمِهِ الذي كان يَختلف حتّى من الجليل إلى السامِرة إلى اليهودية؛ لذلك كان يتحدَّث إلى مُختلف الجماعات اليهودية عن قضايا ومُصطلحات تَهُمُّها بالعبرية والآرامية، لغَة اليهود الذين يَعيشون داخل الأراضي المقدَّسة. لو كان بولُس قد تحدَّث إلى الرومان باستخدام مُصطلحات ثقافية ودينية يَهودية لَجَهِلوا ما كان يتحدَّث عنه (وربما شَعروا بالإهانة أيضًا). لو تحدَّث إلى اليهود بمُصطلحات ثقافية رومانية لأدارَ اليهود ظهورَهُم وابتعدوا أو، كما قرأنا أنه حَدَث في مُناسبات ليست قليلة، طَردوه من المَدينة.
أنتَ ترى أنّ العالَم لا يتألَّف الآن (ولم يكُن أبدًا) من أناس عامَّة، يَعيشون في مجتمعات عامَّة في ظِلّ ظروف عامَّة ويَتحدَّثون لُغة عامَّة واحدة. يُمكننا فقط أن نحصُل على مَعلومات ذات مَغزى من نصوص الكتاب المقدَّس (العَهْد القديم أو الجديد)، سواء كانت من بولُس أو يسوع أو موسى، عندما نَضعُها كلُّها في السياق التاريخي والثَقافي الذي حدَثَت فيه ثمّ (بالمعنى العادي له في ذلك الوقت) نُعيد تطبيقَها على ظروفِنا العالَمية والوطنيّة والمَحلِّية الجديدة. لذلك بما أنّ سِفْر التثنية خمسة هو في المَقام الأول إعادة صِياغة للوَصايا العشر الأصليَّة (كما وَرَدت قَبل أربعين سنة) دعونا نُلاحظ بعِناية أنّ وقتًا طويلاً قد مَرّْ، وجِيلاً كاملاً قد انقرَضْ، والسياق مُختلِف بشكلٍ كبير عن الوَقت الذي أُعْلِنت فيه لأول مرَّة:
نحن في حوالى عام ألف وثلاثمئة قَبل الميلاد، وقد مات إبراهيم منذ حوالى خمسمئة سَنة. لم يَبقَ لموسى سوى أيَّام وقد تمَّ تَجهيز قائد جديد ليَحُلّ مَحلَّه. إنه يَقِف على تَلَّةٍ في موآب ويُخاطب الجيل الشاب من المُحاربين المُتحمِّسين الذين هم على وشك الانْخراط في حَربٍ مُقدَّسة على كنعان. الشريعة راسِخة وتُمارَس منذ أربعين سنة. الكَهنوت يَعمَل بكامل طاقتِه، وخَيمة البرِّية هي مَسكَن الله المُعترَف به على الأرض وقد تمّ تَقديم يوشَع كخليفة لموسى.
إسرائيل في تلك المرحلة باتَت أمَّة مُختلَطة عِرقيًا تتَكوَّن من حوالى ثلاثة ملايين نَسمة تتألَّف من العِبرانيين بالدَّم، والأجانب من عِدّة أعراق الذين انضمّوا رَسميًّا إلى إسرائيل، وأنصاف السُلالات (نَتيجة التزاوُج مع هؤلاء الأجانِب)، ومن العَبيد غير العِبرانيين. خيَّم الآلاف من الأجانِب في ضواحي المُخيّم الإسرائيلي الضَخم لأنّ هؤلاء الأجانِب اختاروا أن يكونوا أصدقاء لإسرائيل، ولكن ليس الانضمام إليهِم كجُزء من الأمَّة العبرانية. تَحدَّث موسى إلى كلِّ هؤلاء الناس، وليس فقط إلى بَعضِهم، على الرُّغم من أنّ الذين سَمِعوا صوتَه في الواقع ليسوا سوى مُمثِّلي الشعب: شيوخ القبائل والرؤساء.
انطلاقًا من هذا الواقع، دعونا نقرأ الإصحاح خَمسة من سِفْر التثنية.
اقرأ سِفْر التثنية الإصحاح خمسة كلِّه
نَجِد في هذا الإصحاح أنّ موسى يُعيد التأكيد أنّه هو الوَسيط الوحيد والفَريد بين الله وإسرائيل، أي أنَّه يَقول بصراحَة ”هذه هي الأحكام التي أنا موسى أُعْلِنُها لكُم“ (في الآية واحد)، ثمّ يَمضي ليوضِح أنه يكرِّر لهُم ما قالَه الرَب له وما سَمِعَه الكثيرون مِنهمُ وهم أطفال من صوت مُخيف وهادِر من الأعالي. يُعيد موسى أيضًا تَقريب (هذا الجيل الجديد) من يَهوَه، إله إسرائيل والتأكيد أنَّ ولاءهُم يجب أن يَكون ليَهوَهْ فقط. أمّا سبب وجوب طاعة إسرائيل ليَهوَهْ وعبادتِه فمَذكور في الوَصيّة الأولى الّتي هي الآية سِتّة : ”أنا يَهوَه إلهُك الذي أخرجَك من أرْض مصر…
أُذكِّرُك أنه بينما أَصْبَح من المُعتاد على مَرّ القرون تَجاهُل الوصية الأولى الأصلية (أنا يَهوَهْ إلهُك) وأخْذ الوَصيّة الثانية وتَجزئتها وجَعلِها وصيَّتَين بحيث أصبَح هناك عَشر وصايا وليس تِسع وصايا، فإنّ هذا خطأ كبير كان لهُ علاقة بالنَزعة التَاريخية للمَسيحية المُتعلِّقة بحِرمان الشَعب اليهودي من مَكانتِه الشَرعية كشَعب الله المُفضَّل. وقد أدَّى أيضًا إلى الموقِف المُتغطرِس للكنيسة تِجاه إسرائيل لدَرجة أنّ الشَعب نفسه الذي أوكِلَت إليه كَلِمة الله، أي العبرانيين، يَشعُر الآن بالغُربة التامّة عن مَسيحهم اليهودي. لقد أقنَعهم المسيحيّون تمامًا أنَّه إذا ما آمَنوا بيَسوع فسَيكون ذلك بمثابة قُبول ديانة الأغيار، مما يؤكِّد مَوقِف الكنيسة بأنّ اليهود رُفِضوا من الرَب واستبدَلَهم بالأمميّين وبالتالي زالَت مكانتُهم الخاصَّة التي أُعْطيت لهم كَشَعْبِه الخاصّ.
لذا، يَقول موسى، السَبب في أنّ إسرائيل يجِب أن تتطَلَّع إلى يَهوَهْ ويَهوَهْ وحدهَ هو أنّ يَهوَه (وليس إلهًا آخر) هو الذي أنْقَذ إسرائيل من مِصر من خلال آيات وعَجائب لم يَسبِق لها مثيل. علاوةً على ذلك، فقد ثَبُت الآن أنّه من الحَماقة السجود إلى الآلهة الأخرى لأنها غَير مَوجودة حقًا. إنها آلهة زائفة ليس بمَعنى أنّ يَهوَهْ هو إله أفضَل، بل بمعنى أنّها ليست سوى نَسج خَيال البَشَر وميولِهم الحَمقاء والشرّيرة التي تَقبَل بسهولة الأرواح الأوَّلية وعدَد لا يُحصى من الأشياء المَخلوقة كآلهة أو أشياء يجب أن تُعبَد.
لقد دَرَسْنا ما يُسمَّى بالوصايا العشر بتَفصيل كبير عندما دَرَسْنا سِفْر الخروج عشرين منذ فَترة، لذلك لن نَخوض في التَفاصيل حيث أنّ هذه الوصايا نفسُها مُكرَّرة هنا في سِفْر التثنية خمسة، بل سأكتَفي فَقط بتَسليط الضوء على النِقاط الرَئيسية أو الإشارة إلى الأماكِن التي تَختلِف فيها صِياغة سِفْر التثنية خمسة عن سِفْر الخروج عشرين اختلافًا طَفيفًا.
من وِجهة نَظَر بانورامية نرى أنّ الوَصايا العشر (المبادئ العشرة المُوجَّهة للشرائع الـستمئة وثلاثة التي ستَلي) مُقسَّمة إلى مجموعتَين واضِحَتَين: الوصايا الأربع الأولى تتحدَّث عن التزامات الإنسان تِجاه الله، والوصايا الستّ الباقية تَتعلَّق بالعِلاقات بين البَشر فيما بَينَهم. أرجو أن تُلاحظوا شيئًا آمل أن يكون قد أصبَح واضِحًا: لا يوجَد في الوصايا العشر (أو في أي مكان في الناموس في هذا الشأن) أي مَكان في الناموس يُذكَر فيه موضوع الخَلاص (كما نُفكِّر فيه اليوم). الناموس ببساطة لا يَتحدَّث عنه لأنه لم يكُن أبدًا غرَضُه أو وظيفتُه الأساسية. وعلى الرُّغم ممّا قد قيل لك، فإنّ العِبرانيين لم يَتطلَّعوا إلى الناموس من أجْل الخلاص لأنه لم يكُن موجودًا ولم يَعتقدوا أنه كان مَوجودًا. لذلك عندما نرى بولُس يَشرَح أنّ الناموس لم يكُن قادِراً على الخَلاص، فإنّه ببساطة كان يُخبِر مُستمِعيه من الأمميين غَير المُستهلّين ألّا يَبحثوا عن الناموس كبَديل للقيام بما كان المسيح وحدَهُ يستطيع أن يفعَلَه. بما أنّ المسيح كان يهوديًا، وبما أنّ مَجيء المسيح كان له مَعنى في ديانة اليهود وعُهودِهم، فقد كان الافتراض الطبيعي للأُمَم المُهتدين أن يُقلِّدوا ما فَعَله اليهود: طاعَة الطقوس الخارِجية للناموس. المُشكِلة هي أنّ بولُس كان يَعلَم أنّ الوثنيين (إن لم يَتعلَّموا خلاف ذلك) سيَعتقدون بشكل خاطئ أنّ تلك الأعمال والسُلوكيات هي التي تَجلِب لهم الخلاص. وعندما كان بولُس يقول أشياء مُماثلة لليَهود، كان يَقول ببساطة لهؤلاء العبرانيين أنه بَينما كانت طاعة الناموس جيِّدة ومُهِمَّة، فإنّ المسيح كان يَفعَل شيئًا لا يُمكِن لطاعة الناموس أن تفعَلَه أبدًا.
لا نَجِد في العَهد الجديد قول لبولُس أو يسوع أو أي كاتِب آخر يُشير إلى أنّ على المَسيحيين أن يَكونوا ضدَّ الناموس بل أنّ عليهِم أن يَستفيدوا من خِدمة المسيح من أجل الخَلاص بدلاً من أن يَفترضوا بشكل خاطئ أنّ لديهِم الخيار الثاني، وهو أن يُطيعوا سِلسلة من القَواعد والقوانين من أجْل تحقيق نَفْس الشيء.
انظُروا: عندما نَقترِب من المَسيح لا نتوقَّف عن تَناوُل الطعام. لا نتوقَّف عن تَعلُّم الكتاب المقدَّس. أكلُ الطعام لا يَجلِب لنا الخلاص، ولا يَجعل الأكل شيئًا سيئًا. تَعَلُّم الكتاب المقدَّس لا يُكسِبنا الخلاص، لكنّ دِراسة الكَلِمة ليس أمَراً عَفا عليه الزمن وغَير ضروري بمجرَّد قبولِنا للخلاص، لكلِّ عَمَل من هذه الأعمال غَرَض مُستمِرّ؛ نحن نأكُل لأنّ أَجْسَادنا تَحتاج إلى تغْذية جسديَّة. ونحن نقرأ الكتاب المقدَّس حتّى بعد أن افتُدينا بالإيمان بيسوع لنُعطي أذهانَنا ونفوسَنا الغِذاء الرّوحي، وحتّى نَعرِف ما هي استجابتُنا المُتوقَّعة لنِعْمَة الله ونِعْمَتِه علينا. يقول المسيح أنّه هو خُبز الحياة: ولكن لا أحد يأخُذ ذلك على مَحمَل الجَدّ ليَعني أننا كأناس مُخلَّصين لم نَعُد بحاجة إلى تناوُل الطعام. ويقول أيضًا أنّ التوراة ستَكون مَكتوبة على قلوبِنا؛ ولكن هذا لا يَعني بأي حال من الأحوال أن نَتوقَّف عن تَعلُّم طُرُق الله من كَلِمَتِه المَكتوبة. وبِنَفْس الطريقة عندما نَقبل، بالإيمان، يسوع مُخلِّصًا لنا، لا نَنقلِب على نَفْس القواعِد والفرائض الّتي وَضَعها الرَب لإظهار شخصيَّته ولإرشادِنا إلى كيفيَّة عَيش الحياة المُفتداة.
أُعيد ذِكْر الوصية الثانية في الآيات ثمانية إلى عشرة؛ وهي توضِح أنّ إسرائيل لا تُحاول أن تُقيم علاقة مع أي إله آخر. هذا واضِح جدًا ولن أُعَلِّق أكثر على ذلك. ما أريد أن أُشير إليه هو طَبيعة العلاقة في عَهد موسى بين الله والإنسان. لقد تَحدَّثتُ في الأسبوع الماضي عن هذه الثنائية الزائفة غير الكِتابية التي تمّ وَضعُها في المَسيحية الحديثة والتي تُطالبنا بأن نرى العَهد القديم على أنّه يَتعلَّق بتأسيسٍ قانوني، والعهد الجَديد على أنه إدخال النِعمة إلى العالمَ. جُزءٌ لا يتجزأ من هذا هو النَظرة النَموذجية التي تقول بأنّ العَهد القديم قد وُضِع كديكتاتور/مَلِك يُعطي أوامِر غير شخصية يجِب أن تُطاع و"إلا"؛ وفي المُقابل فإنّ العهد الجديد يَدور حول علاقة بين الله والإنسان لا تَضَع أي التزامات علينا، نَحن المُخلَّصين.
لقد سَمِعنا جميعًا قساوسة يقولون بِحقّ أنّ المَسيحية ليست ديانة، إنها علاقة. حسنًا، هذا الشيء نَفسُه كان صحيحًا منذُ البداية. من البَديهيات الأساسية في الكتاب المقدَّس أنّ العُهود بين الله والإنسان قائمة على العلاقة. لذلك نَحصُل على صيغة العلاقة في عِبارات العَهد القديم مِثل ”أَتَّخِذُكَ شَعْبِي وَأَكُونُ لَكَ إِلَهًا“ (خروج ستة: الآية سبعة). أو في لاويين الإصحاح ستّة وعشرين الآية اثنا عشرة ”أكون لكُم إلهًا وتكونون لي شَعْبًا“. لاحِظ المُعادَلة: يقول الله هذا ما سأكون لكُم، وبالتالي هذا ما ستَكونون لي وأنه بَينما يُقدِّم الله هذا الاحتمال لعَلاقةٍ مُتناغِمة فإنّ الأمْر مَتروك لكُم لتَقْبَلوه أو ترفُضوه.
هذا هو تَعريف العلاقة في حدِّ ذاته وله نفْس الأساس الذي تَقوم عليه نذور زواجِنا البشَري (التي كان المَقصود مِنها دائمًا أن تكون تَوضيحًا ماديًّا ومرئيًا لعَلاقتنا الرّوحية وغَير المرئية مع الرَب). لاحِظوا أنّه في مَراسم الزواج يُطرَح السؤال على العروس ”هل تَقْبَلين هذا الرَجُل زوجًا لكِ“، وعلى العريس ”هل تَقبَل هذه المرأة زَوجة لَكَ“؟ يجب أن يوافِق الطرفان على الدخول بِحُرِّية في هذه العلاقة. في حالة اختيار الله أنّ شَعب إسرائيل سيَكون شعبُه وفي المُقابل سيَكون هو إلههم، وفي حالة الزواج البشَري، يجب أن يُوافِق الطرفان، وكِلا الطرفَين لديه التزامات، وكِلا الطرفين لديه مَكانة قانونية. إذا قال الرَب فقط: ”سأكون إلهُك“ ولم يكُن لإسرائيل أي خَيار في الأمْر، فإنّ التَبادُل مَفقود وبالتالي لا توجَد علاقة سوى العُبودية. إذا قال الرَجُل في حَفْل الزواج: ”ستَكونين لي زوجة“، ولم تُسأل المرأة إن كانت تُريد أن تَكون زوجة لهذا الرَجُل، فلا علاقة هناك سوى العُبودية.
الوصيَّة الثالثة هي ألا يُساء استخدام اسم الرَب. قد تَكون هذه الوصيَّة هي أكثر الوصايا العَشر التي أسيءَ فَهمُها. تتعلَّق هذه الوَصيّة في المقام الأول بشيءٍ واحد: عَدَم استِدعاء اسم الله كضَمان في قَسَم إمّا كاذِب في ظاهرِه أو قَسَم لا نيَّة لك في الوَفاء به. إنّ هذه الفِكرة الحديثة عن سوء النُطق العَرَضي لاسمِه تعالى الرَسمي (يَهوَه)؛ أو أننا يجِب أن نَمتنِع تمامًا عن ذِكْر اسمِه القُدّوس لا أساس لها من الكتاب المقدَّس. يوضِح التلمود أنّ التَحريم الذي تَبنّاه اليهود في نِهاية المَطاف (بدءًا من حوالى عام ثلاثمئة قَبل الميلاد) بِعَدَم التلفُّظ بالاسم المقدَّس يَهوَه لا علاقة له بهذه الوَصيّة الثالثة بل اعتُبِر ذلك من باب التقديس اللائق. هناك أسباب مُختلِفة مَذكورة في التلمود وأيضًا في كِتابات فيلو ويوسيفوس حول سبب اعتبار النُطْق باسم الله الرسمي أمْرًا غير مُحترَم، وبينما لا يوجَد سبب مُحدَّد، إلا أنه بشكلٍ عام كان الأمْر يَتعلَّق بعادة شرق أوسطيّة مفادُها أنه من العَيب أن ينطُق الابن أو الابنة باسم والِدَيْهِما. وبالتَّبعية تمّ نَقْل ذلك إلى اسم الرَب لأنّ الرَب كان مَعروفًا بأنه أب، الأب السَماوي للعبرانيين. اسمحوا لي أن أُصرِّح بشكل قاطِع: ما أقولُه لكُم ليس رأيي، إنه ببساطة تاريخ مُسجَّل في الوثائق اليهودية لِمَن لديه الوقت أو الاهتمام ليَجِدَه ويقرأه بنفسِه.
في العُصور القديمة كان التذرُّع بالنُذور والقَسَم حَدَثًا شائعًا؛ وبِحُكم التَعريف، كان النِذر أو القَسَم يَتضمَّن استخدام اسم إله أو آخر. إذا لم يتم التذرع باسم إله، لم يكُن هناك قَسَم أو نِذْر مُلزِم قانونيًا. إنّ القَصْد الأساسي من هذه الوصيّة الثالثة هو أنّ اسم الرَب لا يُستحضَر بلا مُبالاة أو عَبثًا عند تقديم النُذور والقَسَم. وفي أسفار لاحقة من أسفار العَهد القديم وحتَّى كِتابات العهد الجديد المُتأخِّرة، تُقدَّم النَصيحة بأنّه من الأفضَل في المُجمَل عدم تقديم النذور والأيمان على الإطلاق (حيثُما أمكَن) لأنه إذا استَدعى الشَخص اسم يَهوَه في نِذر أو قَسَم فإنّ الرَب يَتوقَّع تمامًا أن تَتُم الشروط بِغَضّ النَظَر عن المَضمون أو النيَّة. إحدى القُصص الأكثر شُهرة في الكتاب المقدَّس هي عن شخص يُدعى يافثا، الذي قدَّم ابنتَه ذبيحة مَحروقة بسبب نِذر مُتهوِّر نَذَرَه ليَهوَه، ولم يكُن يَتوقَّع هذا الرُعب نتيجةً لذلك. بالمُناسبة: لقد كان نِذرًا تَقرَّب به يافثا، إلى الرَب وحدَّد شروطَه، والرَب بالتأكيد لم يَطلُبها، ولا هو يَستغني عن حياة الإنسان لتَقديم ذبيحة.
الوصيَّة الرابعة هي حِفْظ يوم السَبت. لقد علَّمتكُم جَميعًا بما فيه الكِفاية عن هذه المَسألة، لذا لن أتعمَّق فيها. يُرْجى مُلاحظة أنّ السَبث هو الاسم الصَحيح ليومٍ مُحدَّد. في الواقِع في أي تَرجمةٍ جيِّدة الصياغة هي ”احفَظوا يوم السَبت“. في حين أنّ الجُملة مَقبولة، إلا أنّ هناك خطأً عِند القراءة حَرْفيًا ”احفَظوا الشَباط“. النُقطة المهمَّة هي أنّ السبت ليس مُجرَّد أي يوم، بل هو يوم مُحدَّد رَسَمَه الرَب مُقدَّسًا. الأمْر الثاني: يُعرِّفه الكِتاب المقدَّس على أنّه اليوم السابِع من الأسبوع، وليس اليوم الأخير من أي فَترَة سَبعةِ أيام مُتجدِّدة من اختيارِنا. لا يوجَد في أيّ مَكان في الكتاب المقدَّس أي يَوم آخر. علاوةً على ذلك فإنّ قداسة اليوم هي المِفتاح. لقد مَيّز الرَب هذا اليوم بالذات عن كلِّ الأيام الأخرى وجَعَلَه مُقدَّسًا. سؤال: من الذي يَجعَل شيئًا مُقدَّسًا؟ هل يُمكنك أن تُعْلِن أنّ شيئًا ما مُقدَّسًا؟ هل يمكنكُم أن تَأخذوا شيئًا عاديًا وتَجعلوه مُقدَّسًا بواسطة ”القوَّة المُعطاة لكُم“؟ ماذا عن قِسيسكُم؛ هل يمكنُه أن يَجعل شيئًا عاديًا شيئًا مُقدَّسًا؟ بالطبع لا. إنّ جَعْل شيء ما مقدَّسًا هو من اختصاص الله وَحْدِه.
لا يُمكننا أن نَختار أي يوم ثمّ نُعلِن بسُلطَتِنا الخاصة أنه مقدَّس. السبت هو أكثر بكثير من مُجرَّد يوم راحة. لو كان مجرَّد يوم راحة جسديّة لما كان له بالتأكيد الطابِع المقدَّس الذي أعطاه الله له. على العَكس من ذلك، أي وقت نأخذ فيه يَوم عُطلة من العَمَل…. لأي سبب كان…… لا يَجعَل منه يوم السَبت. كان لدى العالَم الوثني أيام عطلة، وكانت الحُكومة تتحكَّم عادةً في أيّ يَوم يكون. كان لديها أيام عطلة للاحتِفال بالانقلابات الشَتوية والصَيْفية؛ كان لَدَيها أيام عطلة للاحتفال بتَنصيب مَلِك جديد؛ كان لديها أيام عطلة للاحتفال وعِبادةِ آلهتِها العديدة؛ كان لديها أيام عُطلة للاحتفال بنهاية مَوسِم الحَصاد. كانت أيام راحة لكنَّها لم تكُن أيام السبت. السَبت هو الاحتفال الأسبوعي بمُعجزة الخَلْق.
انظُر، لقد قيل بِحَقّ أّن يسوع قال إنّ السبت خُلِق من أجْل الإنسان، وليس الإنسان من أجْل السبت. ولكن ليس المَقصود هو أنّ الهَدَف الوحيد من السَبت هو أن يكون الإنسان قادِرًا على أخْذِ يوم راحة من العَمَل، بل كان ذلك لكي يَتمكَّن الإنسان من تَجديد علاقتِه مع الله. لقد كان وقت الراحة مُفيدًا بالفِعل للإنسان والحيوان لتَجديد نشاطِهم الجَسَدي، ولكن في الغالِب كان ذلك لكي يتذكَّر الإنسان ما فَعَله الرَب من أجلِه بفدائه وخَلْق كلّ ما حَول الإنسان. لا نَفعَل شيئًا من أجْل الله من خلال الاستراحة، بل نُكرِّم الله بأن نَتذكَّره ونُطيعَه بصيام اليَوم الذي أخْرَجه من أيام الأسبوع العاديَّة وخَصَّه وبارَكَه كشيء مُميَّز.
لقد استَعْرَضْنا الآن الوصايا من الأولى إلى الرابِعة الّتي لها علاقة بِتَوقُّع الله مِنّا (كعابدين لَه) أن نَعترِف باسمِه وطبيعتِه وهويّتِه ويومِه المقدَّس. في الوصيّة رقم خمسة، هناك تَحوُّل لطَلبات الرَب بما يَخُصّ العِلاقات بين الناس؛ وتُغطّي على وَجه التَحديد التزام الأبناء تِجاه والديهم، وكيف يجِب على المَرء أن يُكرِّم ويَحمي حياة وشَخص ومُمتلكات وسُمعة جيرانِه والمُجتمع كَكُلّ. يُمْكِن للمَرء أن يقول أنّ هذه هي القَواعد الإنسانية التي وَضعَها الرَب.
إذَن فالوصيَّة الخامسة هي وَصفٌ لعِلاقتنا اللائقة بأهَمّ البَشر في حياتِنا، أي الوالدَين. وكما هو الحال في سِفْر اللاويين التَاسع عشر حيث يُوصى الكَهنة بتَوقير والديهم، كذلك الوصايا العشر تَجعَل من الواجِب ليس فقط على الطَبقة الكهنوتية بل على جميع الّذين يُريدون أن يَكونوا جِزءًا من إسرائيل أن يُدرِكوا أنّ من بين العِلاقات الإنسانية، الالتزام تِجاه الوالدَين هو الأسْمى. من المُثير للاهتمام أنّ هذه الوَصايا عادةً ما تُستخدَم لجَذْب انتباه الأطفال في سِنّ الدراسة عندما يَتعلَّق الأمْر بطاعَة أمَّهاتِهم وآبائهم، ولكن لم يكُن الأمْر كذلك في مُختلَف العصور التَوراتية بل كان الأمْر يَتعلَّق أكثر بكيفيّة رِعاية الأبناء البالِغين لوالديهم عندما يَحتاجون إليهِم وكيف كان على الأبناء البالِغين أن يَستمِرّوا في إظهار الإحْتِرام لمَنْ هُم أكبَر مِنهمُ سِنًا. من المُثير للاهتمام أنّ هذه المَسألة تَحتَلّ مَكانة عالية في قائمة الله لدَرَجة أنه في سِفْر اللاويين الإصحاح التاسع عشر الآية ثلاثة يَضَع إظهار الاحتِرام اللائق بالوالدَين كواجِبٍ اجتماعي إنساني على نَفْس مستوى مُراعاة السبت كواجِبٍ علينا تِجاه الله، لأنّ تلك الآية تَقول: ”يُوَقِّرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ أُمَّهُ وَأَبَاهُ وَيَحْفَظُ سَبْتِي، أَنَا هُوَ إِلهُكُمْ“. يجب إكرام الوالدَين الأرضيَّين والوالِد السماوي وطاعتِهم.
من المُثير للاهتمام أيضًا أن نُلاحظ أنّه في كثير من الأحيان في الكتاب المقدَّس العِبارة المُستخدمَة للإشارة إلى الوالدَين هي ”أمُّك وأبيك“، حيث تُستخَدم كَلِمة ”أمُّك“ أولاً. ليس القَصْد أبدًا وَضْع الأم فوق الأب، بل وَضْع الأم والأب على قَدَم المساواة في مُجتمع كان يُهَيْمِن عليه الذكور. بما أنّ الله لا يُفضِّل أحَد الجِنسَين على الآخر، فلا يَنبغي للطِفل أن يَضَع احتياجات أحَد الوالدَين فَوق الآخر. إنَّهما مُتساوِيان في نَظَر الرَب، وبالتالي يجِب أن يَكونا مُتساوِيَين في نَظَر الطِفل. يؤيِّد الحاخامات هذا الرأي تَمامًا، وقد وَرَد الكثير في التَلمود عن ذلك.
من المُثير للاهتمام أيضًا أن نُلاحظ أنه من بين جَميع الوصايا العَشر، هذه الوصيَّة المُتعلِّقة بإكرام الوالدَين هي الوَحيدة التي تَعِد بمكافأةٍ لكلٍّ من يُطيعها، فهي تقول أنّه بذلك تَطول حياة المَرء على الأرض وأنّ المَرء ”سيَكون له خَير“.
أمّا الوصايا السادسة والسابِعة والثامنة والتاسعة فهي مُختصَرة جدًا وكلُّها وارِدة في آية واحدة. الوَصيّة السادسة هي أنّه لا يَنبغي للمَرء أن يقوم ب"راتش" هي كَلِمة عبرية تَعني الجَريمة وهي لا تَعني القَتْل. لا يُمكِن للمَرء أن يذهب للصَيد، على سَبيل المِثال، وراتش (يَقتُل) غزالاً. الغَرَض من هذه الوصيَّة مَحدود جدًا في نطاقِه ويَعني على وَجه التحديد ألا يَقتُل الإنسان إنسانًا آخر دون وَجْه حَقّ. الإعدامات القانونية لا تأتي في نِطاق هذه الوصيَّة وكذلك الأمْر بالنسبة للمَوت في المَعرَكة. حتّى القَتْل عن طريق الخطأ (بمَعنى ألاّ يَكون هناك نِيّة لقَتْل شخص ما، ولا يكون الموت نَتيجة إهمال جَسيم) ليس مَشمولاً في هذه الوصيَّة. الكَلِمة الأساسية هي ”ظالِم“. وبالمناسبة، فإنّ القَصاص القانوني بإعدام الشخص الذي ارتكَب جريمة قَتْل ظالِمة أمرٌ مُتوقَّع ومَطلوب من الرَب.
الوصيَّة السابعة هي أنّه لا يَنبغي للمَرء أن يَزني. الزِنى في الكتاب المقدَّس يَعني إقامة علاقة جِنسية بالتَراضي بين شخص مُتزوِّج وشخص آخر خارج إطار الزواج. وقد يَعني أيضًا وقوف الزَوجة إلى جانِب رَجُل ضِدَّ زوجِها في خِلاف خطير. كانت المُجتمعات شَرق الأوسطية في هذا العَصر تَعتبِر عمومًا العلاقات خارج إطار الزواج أمْرًا سيئًا للغاية وكانت مُعظَم هذه المُجتمعات نفسُها تُعاقِب مُرتكبها عقابًا شديدًا، وعادةً ما يَكون بالمَوت. في الواقِع كان القانون المُماثِل للوصية السابعة أمْرًا مُعتادًا ومألوفًا تمامًا بين معظم المُجْتَمَعات في هذا العَصْر.
الوصيّة الثامنة هي أنّه لا َينبغي للمَرء أن يسرِق. وهذا يَعني بالضبط ما نُفكِّر فيه اليوم؛ لا يَنبغي لنا أن نأخُذ شيئًا من شخص ما ليس من حَقِّنا. قال بعض الحاخامات أنّ هذه الوصية تَشمَل الاختطاف (أخْذ إنسان بغَير حَقّ) رُغم أنّ هذا فيه شيء من التوسُّع، لكن الأمْر يَتعلَّق بالمُمتلكات الشخصية وتَحريم أن يؤخَذ من شخص ما مُمتلكاتِه ظُلماً.
الوصيَّة التاسعة هي أنّه لا يَنبغي للمَرء أن يَشهد زورًا على شَخص آخر. في مُفرداتِنا الحديثة يُشير هذا إلى شهادة الزّور. لا تَعني بشكلٍ عام تَجنُّب ”الكَذِب“ في المُحادثة بل هذا يعني بالأحرى تَوجيه اتِّهام كاذِب بارتكاب خطأ ضِدَّ شَخص، ما قد يؤدي إلى عُقوبة جنائية، وهو يَتعلَّق بِعَدَم قَول الحقيقة في مَحكمة قانونية يُمكن أن تُبرئ المُذنِب أو تُدين البريء.
الآن الوصيَّة العاشرة فَريدة إلى حدٍ ما لأنه في حين أنّ جميع الوَصايا الأخرى تتحدَّث عن أفعال مَلموسة وسُلوكيات خارِجية، فإنّ هذه الوَصيّة الّتي تَقول أنّه لا يَنبغي على الشخَص أن ”يَشتهي“ شيئًا يَخصُّ شخصًا آخر؛ لذلك فإنّ الأمْر كلُّه يَتعلَّق بحالة ذِهنيّة. الاشتِهاء يعني أن يكون لديك تَصاميم سرِّية لجَعْل شيء ما مُلْكًا لك ليس لك الحَقّ فيه. لذلك بالتأكيد مِثل هذه الحالة الذِهنيّة هذه يُمكِن أن تتجسَّد في النهاية في فِعلٍ للاستحواذ على ما يُشتهى بِشكل خاطئ، لكن هذا ليس هو الهَدَف من هذه الوصيَّة.
أوَّل شيء لا ينبغي للمَرء أن يَشتهيه هو زوجة جارِه، أي لا يَنبغي للمَرء أن ينظُر بشَهوَةٍ إلى امرأة مُتزوِّجة ويُريدها لنفسِه. والشيء التالي الذي لا يَنبغي أن تَشتهيه أو تُخطِّط لاقتنائه بالباطِل هو بيتُ جارِك. هذا لا يَعني مَسكِنُك: الخَيمة أو الكوخ أو المَبنى الذي يَسكُنه المَرء. البيت، كما هو مُستخدَم هنا، هو بمعنى ”أهْل البيت“، أي الأشخاص الذين يُشكِّلون عائلتك المُمتدَّة. لقد أطْلعتُكم أنّه كان أسلوب العَمَل الشائع في مُعظم عصور الكتاب المقدَّس أن تقوم العَشيرة أو القبيلة بزيادة قوَّتِها وثروتِها عن طريق أخْذ الناس عُنْوة، وغالِبًا ما يَكونون أُسَرًا بأكملهِا. كان لدينا مِثال مُباشَر على ذلك عندما فَعَل أبناء يعقوب هذا الأمْر بالضبط عندما أقاموا لفَترة من الوَقت في شكيم، وأخَذوا الناس انتِقامًا لاغتصاب دينا ابنة يَعقوب. وقد زاد هذا الأمْر من حَجم قبيلة يَعقوب بشكلٍ كبير بين عَشيّةٍ وضُحاها لأنّ بني إسرائيل استَحوذوا على أُسَر كامِلة من الناس.
اكتَمَل الآن تكرار الوَصايا العشر، وذَكَّر موسى الشَعب بأنّ هذه الشرائع العَشر هي الّتي سَمِعَها الشَعب مُباشرةً من الله بآذانهِ. أمّا الشرائع الـستمئة وثلاثة الّتي جاءت بعد ذلك فقد أُعْطيت لموسى ثمّ نَقَلَها إلى الشعب. يُذكِّر موسى الشَعب الإسرائيلي أيضًا أنّ الله كان على استِعداد (وكان موسى سيَكون سعيدًا تمامًا) أن يَستمِرَّ في إعطاء توراتِه مُباشرةً لهُم من صوتِه الإلهي ليَسمعَها الجَميع، ولكنّ خَوفَهُم من حضور الرَب الرَهيب دَفعَهم إلى التوسُّل إلى موسى أن يَطلُب من الله أن َيتوقَّف عن التَحدُّث إليهِم وبدلاً من ذلك أن يَتصرَّف موسى كوَسيط لهُم.
الآيتان التاليَتان، خمسة وعشرون وستّة وعشرون، تُضيفان بعض المَعلومات المُثيرة للاهتمام؛ إذ تَقولان أنّ يَهوَهْ يُثني في الواقِع على موقفِهِم في تَفضيلِهم لموسى لتَلقِّي الشريعة، على وقوفِهِم في حَضْرة الله وسماعِهم للشريعة من الرَب. هذا أمرٌ مُهمّ لأنّ الرَب لم يرَ شَعب إسرائيل كضُعفاء أو خُرافيّين أو غير مُستحقّين سماع صوتِه؛ بل رأى طلبَهُم الحصول على الشرائع من خلال موسى كاستِجابة مُناسبة لعَظمتِه واتِّفاق مع الله على أنّ موسى هو وَسيطُه المُخوَّل. لقد اكتَسب بنو إسرائيل خوفًا وتَقديسًا سليمًا ليَهوَه، وما داموا قد احتَفظوا به وأطاعوا أوامِر التوراة، ”فحينئذٍ يَسْتَقِيمُ أَمْرُكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ إِلَى الْأَبَدِ‘.
هناك مبدأان أساسيّان من مَبادئ الله الأساسية الوارِدة في هذه العِبارة البَسيطة نوعًا ما: أولاً، أنّ الرَب سيُبارِك كثيرًا أولئك الذين يُقرِّرون أن يُظهِروا له الاحتِرام اللائق ويَتْبَعوه في الطاعة. ثانيًا، هو أنّ الإنسان يَملِك حُريّة الاختيار؛ فالرَب لن يُجبِر أحدًا على الطاعة أو يُجبِر أحدًا على خدمتِه. بِصِفَة عامَّة، الرَب لا يتحكَّم في الإنسان كالدُمية، ولا في عَقْل الإنسان أو تَصرُّفاته.
بما أنّ الشَعب أراد في الآية سبعة وعشرين أن يَتسلَّم موسى ما تَبقّى من التوراة بدلاً عَنه، فقد أَمَر يَهوَه موسى أنْ يَصرِف الشَعب ليعود إلى خيامِه. افْهَم أنه لم يُصرَف إلا أنّه طَلَب أن يُطلَق سَراحُه. كما أنَّه لم يوضَع تحت نوع من الإقامة الجَبْرية؛ لم يؤمَر بالذهاب والبَقاء في خيامِه بينما يَتلقّى موسى الشريعة. بل سُمِح للشَعب ببساطة بالعَودة إلى مَساكِنه الصحراوية ولم يُطلَب منه البقاء وسَماع كلام الله.
وبالطَبع مع أمْر الشَعب بالانصِراف، طُلِب من موسى أن يَبقى في مكانِه حتّى يَتمكَّن الرَب من إكمال ما بدأه.
يَنتهي هذا الجُزء من خُطاب موسى إلى الشَعب بالنُقطة الرئيسية لهذه الخُطْبة بأكملِها: وهي أنّ ما يَجِب أن نَتعلَّمه (ونأمَل ألا يتكرَّر) ممّا حَدَث في جَبل سيناء، ثمّ كل المُغامرات السيئة التي حدَثت بَعد ذلك والّتي تَسبَّبت في موت عشرات الآلاف من العبرانيين، هو أنّ التوراة الّتي يَقوم موسى بتَعليمها لهذا الجيل الجديد من بني إسرائيل يَجِب أن تُتبَع وتُطاع وإلا فإنّ هذا الجيل الجَديد يُمكِن أن يتوقَّع عواقِب مُماثلة لما حَدَث لآبائهم.
سنَبدأ الأسبوع القادِم في الإصحاح ستّة.