سِفْر التكوين
الدرس سبعة وثلاثون – الإصحاحان اثنان وأربعون وثلاثة وأربعون
في نهاية درسِنا السابق، كانت قد انقضَت السنوات السَبع التي شهِدَت وَفرة في المحاصيل والماشية، وبدأت المَجاعة العظيمة التي استمرَّت سَبع سنوات بحسَب "حُلم فرعون". كان يوسف هنا مسؤولاً عن مِصر…… وعن بَرنامج الطعام….. وكان في المَرتبة الثانية في قيادة الأمة ولا يَعْلوه إلاّ فرعون.
كان يوسف أحد أقوى الرِجال على وَجه الأرض في هذا الوقت من التاريخ.
كان سَبب هذه المَجاعة المذكورة في سِفْر التكوين واحد وأربعين هو قِلّة الأمطار، أي الجفاف. هذا الجفاف الذي أثَّر على ما يبدو على شمال أفريقيا، حيث تَقع مصر، أثَّر أيضًا على معظم أنحاء الشرق الأوسط.
دعونا نتحدَّث قليلاً عن الجغرافيا لأنها تُساعد على فَهم الوَضْع العام لهذا القسم من التوراة، وتُفسِّر سبب حدوث العديد من الأشياء بالطريقة التي حدثَت بها.
أولًا: إنّ التَسميات الإقليمية لمصر هي تقريبًا عكس ما نَعتقده عادةً. فقد تم التحدُّث عن مصر على أنها مصر العلُيا ومصر السُفلى؛ ومن المثير للاهتمام أنّ مصر العليا تقَع في الجنوب، ومصر السفلى تقَع في الشمال. سبب ذلك هو أنّ نَهر النيل يتدفَّق من الجنوب إلى الشمال……يتدفَّق من مصر العليا إلى مصر السفلى. وهذا يُساعِد في تفسير سبب تَسمية جنوب مصر بالصعيد. من الواضح أنّ المياه تتدفَّق إلى أسفل. وكما اتّضَح، فإنّ الطرَف الجنوبي من مصر أعلى قليلًا من الطرَف الشمالي؛ ولذلك، وكما يعلَم الجميع أنّ النهر يتدفَّق من أعلى إلى أسفل، فإنّ الطرَف الجنوبي للنَهر يُسمّى الطرف الأعلى، والطرف الشمالي يُسمَّى الطرف السفلي.
الطرَف الجنوبي لنهر النِيل…….مصر العليا…… هو المكان الذي يبدأ فيه النِيل، وهناك حوْضان جغرافيان هائلان حيث تتساقَط الأمطار، وحيث تتدفَّق المياه من تلك الأمطار بشكل طبيعي نحو النيل لتمْلأه. يتدفَّق من أحد الحَوضَين ما يُسمّى بالنيل الأبيض، ومن الآخر النيل الأزرق. يَجتمِع النيل الأبيض والنيل الأزرق معًا حول مدينة الخرطوم ليشكِّلا نهر النيل العظيم….. الذي نُسمّيه عادةً نهر النيل.
يتدفَّق النيل العظيم بعد ذلك إلى أعلى (وفق طريقة تفكيرنا)، شمالاً، باتجاه البحر الأبيض المتوسِّط. ومع اقترابه من أرض جوشن في مصر السفلى، يواجه ما يُسمّى بمنطقة الدلتا، ويَتشعّب النهر إلى عدد من الأنهُر الطبيعية التي تتوجَّه جميعها في النهاية إلى البَحر. على الرغم من أنّ منطقة الدلتا (كما هو الحال في معظم مصر السفلى) هي صحراء خالية من الأمطار تقريبًا، إلا أنه بسبب وَفْرة مياه النيل، وأراضي المُستنقعات التي تنشأ من كل تلك الأنهر المنتشِرة في منطقة أرض جوشن التي تَسمَح للمياه بالتدفّق عبر الأراضي والتي تُشبِه إلى حد كبيرٍ أراضي فلوريدا إيفرجليدز، فإنّ المنطقة خصبة ورائعة لزراعة المحاصيل ورعي الحيوانات.
خُلاصة القول هنا أنّ الشيء الوحيد الذي يجعَل مصر صالحة للسَكن هو النيل. والشيء الوحيد الذي يَجعل النيل مهمًا هو هطول الأمطار من هذين الحوضَين العظيمَين في أقصى الجنوب في صعيد مصر.
وعلى الرغم من أنّ المصريين بدأوا في وقت مُبكِر جدًا في حفْر القنوات لتوجيه المياه من النيل لسَقي المحاصيل، إلا أنّ ارتفاع منسوب مياه النِيل وانخفاضه سنويًا هو الذي يحدِّد الاحتفال أو المَجاعة. أن يفيض النيل على ضِفافه خلال أشهر الصيف الثلاثة لأمرٌ مُهم جدًا؛ وهو فيضان ناتج عن أمطار أقصى الجنوب الموسَمية، في حوضي النهر الجنوبيَين اللذين يشكّلان منابِع النيل. لم يَسقِ الفيضان الأرض فحسب، بل جَلَب الطمي الغنّي بالمغذّيات الضرورية لزراعة المحاصيل على طول النيل. ولكن، لا يَتطلّب الأمر سوى عجز في هطول الأمطار حَجمُه بضع إنشات في حوض واحد فقط من حوضي النهر الجنوبيين الكبيرين لتدمير التوازن الدقيق ومَنْع تدفق المياه الكافي لإحداث الفيضان الضروري أسفل النهر.
لذا، الأمر لا يتعلَّق بمسألة أنّ النيل جَفّ في زَمن يوسف، ولا أنّ الناس لم يكُن لديهم ما يكفي من المياه للشُرب؛ بل ببساطة يتعلَّق بمسألة أن النيل لم يَفِض لعدة سنوات، وانحسَرت مُستنقعات الدلتا، وبالتالي لم يتمّ إنتاج محاصيل كافية لإطعام مواطني مصر. لنكُن واضحين: لم يتوقَّف إنتاج الغذاء بالكامل. لكنه انخفَض بشكل كبير ولم يكُن هناك ما يكفي لإطعام الشعب.
والآن، فقط لكي نفهَم الطبيعة الخارقة لهذه المَجاعة واسِعة الانتشار: إنّ أنظمة الطقس التي تتَحكَّم في هطول الأمطار في جنوب مصر وتلك التي تتحكَّم في هطول الأمطار في الشرق الأوسط مُنفصِلة تمامًا. إنّ حدوث انخفاض شديد في هطول الأمطار لعدّة سنوات في جنوب مصر في نفْس الوقت الذي حَدَث فيه جفاف لعدّة سنوات في كنعان كان عملاً إلهيًا؛ وهذا لا يحدُث عادةً.
كانت إحدى الأسباب التي جَعلَت مصر وشعب كنعان يعرِفان بعضهما البعض جيدًا ويُقيمان تجارة راسخة منذ زمن، فَشَل نمو المحاصيل في مصر بسبب انخفاض منسوب النيل، وكان بإمكان مصر الاعتماد على كنعان لشراء المزيد من الطعام……والعَكْس صحيح. لكن هذه المرّة كان الأمر مختلفًا. لو لم يُعطِ الله فرعون الحُلم النبوي، ثم أتى بيوسف لتفْسيره، لكان هناك موت واسع النطاق في كل من مصر وكنعان بسبب انخِفاض الإمدادات الغذائية في كِلا البلدين. لكن الله أنذَرَ مصر، واستعدَّت مصر لأنها كانت قادرة على الاستعداد. لقد أعطاهُم الله أولًا وَفرة خارقة للطبيعة بحيث يكون لديهم فوائض كبيرة لمدّة سَبع سنوات متتالية؛ وقد خَطَّط يوسف واستَخدمَ هذا الأمر حتى يتمكّنوا من بِناء مخازن هائلة من الحبوب للسَنوات السَبع السيئة القادمة.
في وقتٍ لاحق، عند بداية الجفاف، قامَت مصر، جزئيًا من مُنطلَق الشعور بالشفقة وأولاً من مُنطلَق المصلحة الذاتية، بتوفير الطعام من مخازنها لشعوب الأمم الأخرى. لم يكُن هذا الأمر من باب الرفاهية. كان ثمن تلك الحبوب المُخزَّنة مرتفعًا جدًا. نرى من القصة القادمة في سِفْر التكوين اثنان وأربعين وثلاثة وأربعين أنّ عدة أكياس من الفضّة كانت مطلوبة مقابِل شراء الطعام من مصر لعشيرة يعقوب؛ لم يكُن الطعام عادةً يتطلَّب مبلغًا من المال يُقاس وِفق "أكياس" الفضّة.
بل إنّ مصر كانت ستَجني ربحًا ضخمًا من تَعاملِها الماهر مع هذه الأزمة الغذائية الممتدّة والشاملة. ولكن، لا تخطئوا، هذه الأسعار المُرتفِعة لم تكُن للأجانب فقط؛ فالمواطنون المصريون أيضًا كان مطلوبًا منهم شراء طعامهم من فرعون…. أو يوسف…….، وهو بالتأكيد ليس مصدرهم الوحيد للغذاء. ولكن، بالنسبة لأولئك الذين كانوا أكثر فَقرًا، ولم يكُن لديهم إمكانية الوصول إلى مَصادر غذائية أخرى مُتاحة تجاريًا، كَلَّفت هذه المجاعة مئات الآلاف من المصريين….. ربما مليون أو أكثر…..حريَّتهم. فَمَع نفاد أموال هؤلاء المصريين من الطَبقة الدنيا لشراء الطعام، لم يكُن أمامهم خيار سوى بَيْع أنفسهم وعائلاتهم لخِدمة الفرعون مقابِل الحبوب. ولكن، من وجهَة نظَرِهم، كان هذا الأجنبي السامي ……يوسف هو المُلام على هذه المَهزلة والإذلال؛ لأنّ يوسف كان في الواجهة والرَمز المرئي لبرنامج الغذاء بأكمله؛ فكان من جهة يحصُل على الفَضْل وأخرى يُلقى عليه اللوم.
لم يكُن هذا أمرًا سَتنساه مصر قريبًا؛ فبَعد وفاة يوسف، وفترة طويلة من الاضطرابات الاجتماعية، كان المصريون يُلقون اللوم على أقرباء يوسف……قبائل إسرائيل… بسبب ما حَلّ بهم. سيؤدي هذا في النهاية إلى أن يقلِب المصريون الطاولة على إسرائيل؛ ويَستعبِد الفلاحون المصريون فلاّحي بني إسرائيل الأكثر ثراءً والأكثر حرّية، لتبدأ دَورة من الاضطهاد للشِعب العبري في الأراضي الأجنبية التي قرأنا عنها في الكتاب المقدس، وشهِدناها بأنفسِنا في القَرن الماضي، وسنَظلّ نشهدها حتى مجيء المسيح.
قراءة سِفْر التكوين اثنان وأربعين بكاملِه
إذا استطعنا فقط أن نُدرِك أنّ إسرائيل كان الأداة التي سيَستخدِمها الله لتحقيق مقاصده الإلهية من هذه النقطة في التاريخ، إلى أن يَنتهي الزَمن في وقت ما في المُستقبل القريب، فربما يمكننا أن نبدأ في فِهم أهمية ما سيحدُث في هذه الرواية التوراتية.
لقد انْتقلنا الآن من مصر ويوسف، وَعُدْنا إلى كنعان ويعقوب. أثّرَت المجاعة العظيمة على منطقة شاسعة، وعشيرة يعقوب أصبحت بحالة سيئة. في الآية الأولى من هذا الإصحاح نرى يعقوب، إسرائيل، في مزاج ساخر إلى حدٍ ما، إذ يقول لبَنيه "لماذا تُحدّقون في بعضكم البعض"؟ وبعبارة أخرى، أنتم تعلَمون أننا في ضائقة شديدة، أنتم تعلَمون أنّ هناك حبوبًا متوفِّرة في مصر، فلماذا تجلِسون جميعًا هنا منتظرين أن يَفعل أحدكم شيئًا ما. لنتذكَّر أنه لم يكن يتحدَّث إلى الأطفال، فهؤلاء الرجال كانوا جميعًا في مُنتصف العُمر وأكبر، ومعظمُهم لديهم أطفال من عائلاتهم.
بينما كنت أتمنّى أن أجِدَ بعض الأشياء الجيّدة والجميلة لأقولها عن أبناء يعقوب، قبائل إسرائيل، إلا أنّ الكتاب المقدس لا يُقدِّم الكثير عن شخصيتهم التي تُثير الإعجاب في هذه المَرحلة. لم يختَرْ الله بني إسرائيل لأنهم كانوا رجالاً عظماء……لقد اختارهم لأنه إله عظيم ويَستخِدم أناسًا عاديين لتنفيذ مَشيئته. وبالمناسبة، لم يُطلَب منّا أن نَقِف مع إسرائيل لأن شعبه عِرْق طيّب أو استثنائي أو مُتعاطِف بشكل خاص (وهم ليسوا كذلك)، بل علينا أن نقِف معهم لأن هذا ما أمَرَ الله جميع سكّان هذا الكوكب……مع عواقب وخِيمة على أولئك الذين لا يَستجيبون له. لذا، جهِّزوا أنفسكم يا سكان أمريكا: لقد أظَهَر رئيسنا الآن رغبتَه في إرث السلام في الشرق الأوسط بغضّ النظر عن التكلِفة، على حساب اهتمامه بإسرائيل كما أمَرَه الله. سوف ندفَعُ ثمنًا باهظًا…… كلّنا.
إذًا، لم يَعُد يعقوب قادرًا على الانتظار أكثر من ذلك حتى يفعَل هؤلاء الأبناء (بمَحْض إرادتهم) ما هو صحيح وضروري، فأمَرَهم جميعًا، ما عدا بنيامين، بالذهاب إلى مصر لشراء الحبوب. ألم يكُن بنيامين كبيرًا بما يكفي للذهاب؟ بالتأكيد كان كذلك. ولكن، كان بنيامين قد أخَذَ مكان يوسف في قَلْب يعقوب، لأن بنيامين ويوسف كانا ابنيه من الزوجة التي أحبَّها يعقوب أكثر من غيرِها…..رحيل، المتوفاّة الآن. ببساطة لم يكُن ليخاطِر ببنيامين، بعد أن فَقَد يوسف. عندما وَصَل بنو إسرائيل إلى مصر، انضموا إلى العديد من القبائل والشعوب الأخرى من الأمم الأخرى، وجميعُهم في حاجة إلى من يُنقذُهم من المجاعة. وأين يجب أن يذهبوا من أجل خلاصِهم؟ إلى يوسف.
توضح الآية ستّة أنه كان من المعروف أنّ هذا الوزير العظيم لمِصر….. الذي لم يكُن اسمه يوسف، ولكن حَمَل الاسم المصري الذي أطلَقه عليه فرعون، زافناث-بانيا…. هو وِجهَة الجميع من أجل الحصول على الحبوب. لا بد أنّه كان ليوسف تنظيم هائل للتعامُل مع الملايين الذين كانوا يَحتاجون إلى الطعام، وبالتأكيد كان من النادر أن يتعامَل يوسف نفسُه مباشرة مع أولئك الذين كانوا يَسعون لشراء الحبوب.
ولكن، بالطبع، لم يَتعرَّف إخوة يوسف عليه، ليس فقط بسبب مرور عشرين سنة منذ آخر مرة رأوا فيها أخاهم الصغير، بملامِحه الصبيانية التي أصبحت رجولية؛ بل لأنه كان يبدو الآن مصريًا. لقد كان حليق الذَقن (كان العبريون، حسب التقاليد، يتركون لِحاهم دائمًا)؛ وكان يصفِّف شعْرَه على الطريقة المصرية وكان يَستخدِم بعض مستحضرات التجميل التي كان الملوك المصريون عادةً يضعونها على وجوههِم…وكان يتحدَّث المصرية أيضًا. وقد تَبدَّلت سلوكيات ذلك الصبي الذي كان يسكُن الخيمة سابقًا أي أنه تَحوَّل من حماقة المراهَقة إلى المظهَر المَلكَي الراقي والواثق. لكنه … تعرَّف عليهم على الفور
لا يَسَعُنا إلا أن نتخيَّل ما كان يدور في ذهنِه عند رؤية إخوته: ألَمْ عميق، من كونه قد انتُزِع من عائلته منذ فترة طويلة على أيدي هؤلاء الرجال أنفسهم. ولكن، في نانو ثانية، وَرَد في الآية تسعة أنه تذكَّر تلك الأحلام التي راوَدَته في شبابه….. من حزم الحبوب الإحدى عشر التي كانت تنحني له؛ ومن النجوم الإحدى عشر والقمَر والشمس التي كانت تُكرِّمه. ولا بدّ أنه في تلك اللحظة أيضًا، مع كل تلك الاستعدادات التي كانت تتمّ بإرشاد من الله الخفي بِعناية، أنّ تلك الأحلام التي وَبَّخه إخوته ووالده يعقوب عليها……كانت حقيقة! أدرَك يوسف لأول مرة أنّ العناية الإلهية كانت تَعمَل طوال الوقت. لقد تأكَّد الآن عن سبب سَماح الله بحدوث كل ما حَدَث له. ومع ذلك، كانت هناك حاجة إلى بعض الاختبارات لمعرِفة ما إذا كان إخوته قد استعدّوا أيضًا من قِبل الشيداي.
يتَّهمُهم يوسف بأنهم جواسيس وهو يعلم أنهم ليس كذلك. يندهِش الإخوة من هذا الأمْر تمامًا، لأن هذا الاتهام غير مَنطقي……إنه يتعدّى حدود اللاعقلانية. لكنهم كانوا خائفين، لأنهم تَحت رحمة هذا الحاكم التعسُّفي تمامًا. الحقيقة والعدْل لا يهمّان على الإطلاق في هذه المرحلة، وهم يعرِفون ذلك. لأن حاكمًا بمكانة يوسف يمكنه أن يقرِّر الأمور بإجراءات موجزة، ويأمُر بما يراه مناسبًا من عِقاب. إنهم عاجزون عن التحكُّم في مصيرهم…تمامًا كما وَجَد يوسف نفسه عاجزًا، منذ زمن بعيد، مُلقى في قاع بئر جاف، يتوسَّل ويبكي طالبًا الرحمة التي لن تأتيه من نفْس هؤلاء الإخوة عديمي الشفقة، الواقِفين الآن أمامه تحت رحمتِه.
يسألُهم ويكتشفُ أنّ أباه لا يزال على قيد الحياة، وكذلك أخوه الصغير بنيامين، وهكذا يأمُر بأن يذهب أحد الأخوين ويُعيد الأخ الأصغر بنيامين ليُثبِتا تأكيدهما أنهما لم يكونا جاسوسَين…أنهما كانا صادقين. ولكن، هذا لن يحدُث حتى يتم وَضْع العشرة جميعًا في السِجن لمدة ثلاثة أيام. وبطبيعة الحال، كان السبب وراء قرار يوسف بسجنِهم هو فَصْل إخوته عن الجموع الغفيرة من المواطنين المصريين والأجانب الذين كانوا يأتون يوميًا على أمَل الشراء من مَخزون مصر الاحتياطي من الحبوب. لقد أراد، بل احتاج للتعامُل مع عائلته بشكل مُنفصِل وليس تحت أنظار الجميع.
في نِهاية الأيام الثلاثة، وَجَّه الآن أمْرًا مختلفًا. كان على تسعة إخوة أن يعودوا بالحبوب التي يحتاجونَها لإطعام عشيرتهم. وكان على أحدِهم، وهو شمعون، أن يبقى مَحبوسًا كضمانة للباقين وإذا لم يعودوا مع بنيامين، فإنّ شمعون سيخسَر حياتَه (أو هكذا كان التلميح).
ناقَش الإخوة مِحنتَهم فيما بينهم أمام يوسف…… على افتراض أنه كان مصريًا ولن يفهَم ما كانوا يَتحدّثون به بالعبرية. واصَل يوسف الحيلة باستخدام مُترجِم كوسيط أثناء تعامُلِه مع إخوته. ما سَمِعه جَعلُه يبكي؛ فقد غَلَبَهم الذَنب الذي دام أكثر من عقدَين من الزمن، وعرَفوا أنّ هذا هو يوم الحِساب على ما فعلوه بأخيهم الصغير يوسف. لكنه سَمِع أيضًا روبن يحاول أنّ يبرئ نفسه، ويبدو أنه لم يكُن هناك أي خلاف حول براءته. ولا بد أنّ يوسف قد صدَّقه. لأنه بدلاً من الاحتفاظ بالمولود البكِر المهمّ جدًا، روبن، كأسير، أمَرَ يوسف باحتجاز شمعون، الابن الثاني ليعقوب، كرهينة.
والآن، يَعبَث يوسف حقًا بعقولهم. أمَرَ بإخفاء المال الذي دفعَه الإخوة مُقابل الحبوب في أعناق أكياس الحبوب. في الليلة الأولى في طريق عودتهم إلى البيت، ذهَب أحدهم ليُحضِر بعض الحبوب لحِماره، وكان المال هناك! يا إلهي! ما الذي كان يحدُث هنا؟ وسرعان ما قرروا أنّ الله كان يُجازيهم بما يَستحقّون.
يَتساءل المرء ماذا كان يدور في أذهانِهم في تلك الرحلة التي استغرَقَت عدة أيام قبل أن يواجِهوا أباهم. من سيكون المُتحدِّث بينهم ليقول لأبيهم الضعيف أنهم لم يعودوا ناقصين بواحِد فحسب، بل أنّ عليهم الآن أن يأخذوا مَعهم بنيامين أحَبّْ أبناء يعقوب إلى مصر، وإلا سيموت شمعون مع بقيّتهم عندما يَلحَق بهم رجال فرعون.
ردّْ يعقوب كان واضحًا: لقد أخذتُم اثنين من أولادي مني، والآن تريدون أخْذ الثالث؟ ثم يُعطي روبن يعقوب ضمانة بأنه سيُعيد بنيامين. ولكن، إذا فَشِل، يستطيع يعقوب أن يقتُل ابنيّ روبن كعِقاب له. على الرغم من أننا لم نحصُل على رَدّْ يعقوب على هذا العَرض، إلا أنه يُمكِن للمرء أن يتخيّل نظرة عدم التصديق التي كانت تظهَر على وجه يعقوب. أعتقد أن ردَّه المذهول كان يمكن أن يكون شيئًا: "رائع!" أنت وحدك تتصوَّر أنه بعد أن فقدتُ ثلاثة أبناء، يجب أن أقتُل الآن أحفادي انتقامًا؟ هل أنت مجنون؟
نَرى أكثر فأكثر الحِكمة في حِرمان روبن من حقّه كبِكر. روبن سياسي…. دائمًا ما يُدلي بهذه التصريحات والوعود المتكلِّفة وغَير الحكيمة التي لا قيمة لها والتي لا تهدُف إلا إلى إثارة استجابة عاطفية. في الواقع، لن نَسمَع عن روبن بعد الآن. لقد تمّت تنحيتُه جانباً، وسوف نَسمَع صوت يهوذا أكثر من أي أخ آخر من الآن فصاعدًا.
ولكن في الوقت الحاضِر، على الرغم من ذلك، فإنّ يعقوب ببساطة مُكبَّل ولا يُدرِك ما عليه فِعلُه. كل ما يعرِفه هو أنه إذا أُخِذ بنيامين منه، فلن يستطيع النجاة. لم يعُد يَثِق بأبنائه هؤلاء بعد الآن، لذلك لم يقرِّر أن يعطيهم ببنيامين. وأكثر بعد…… كيف سيَنجون بدون المزيد من الحبوب؟
قراءة تكوين ثلاثة وأربعين بكامِله
يَمرّ القليل من الوقت ولا تتوقَّف المجاعة. نَفَدت مؤونة الحبوب التي تمّ شراؤها وجَلبُها من مصر. يبدو أنّ أبناء يعقوب التِسعة (شمعون لا يزال في مصر رهينة) الذين جلَسوا في وقتٍ سابق في حالة اكتئاب ولم يفعَلوا شيئًا لمُحاولة إنقاذ عشيرتهم من المَجاعة، أصبحوا مرة أخرى سلبيّين تمامًا. لذا، يَطلُب منهم يعقوب أن يعودوا إلى مصر ويَحصلوا على المزيد من الحبوب. بالطبع، يُذكِّر يعقوب أبناءه بأنهم لا يستطيعون الذهاب بدون بنيامين. لا يزال يعقوب غير مُقتنِع بتسليم بنيامين لأبنائه المُخادعين.
ثم يتكلَّم يهوذا. يهوذا، الذي أذلَّته الحياة، وأذلّتْه كِنّتُه تامار الجريئة عندما فَشِل يهوذا في الاستجابة لمِحنتِها بشكل مناسب، يعرِض نفسه الآن كضامن لبنيامين. والآن، قد يتساءل المَرء، ما هي بالضبط العقوبة التي يمكن أن يُنزِلَها يعقوب بيهوذا إذا فشِل في مهمَّته في أخْذ بنيامين إلى مصر وإعادته إلى الوطَن سالمًا؟
حسنًا، كما ناقشْنا منذ قليل، من شِبه المؤكد أنّ يهوذا كان يرى نفسه الوارِث المُحتمَل لثروة عشيرة إسرائيل وسُلطتِها. ويبدو أنه كان يعلمَ أنّ روبن لن يحصُل على بَرَكة المولود البكر لأنه دَنَّس فراش أبيه. وبالطبع، كان ابنا يعقوب الثاني والثالث هما اللذان قادا الغزو للانتِقام من شكيم، فَقتلا كل الذكور ثم قادا عملية نَهْب ما تَبقّى من السكّان……وهذا كان سيِحرمُهما من الميراث. لذا، تَزامنًا مع الاعتقاد الآن بأنّ يوسف، الذي كان المُفضَّل لدى يعقوب، قد مات، لا بد أن يهوذا، الرابع في السلالة، كان يرى نفسه الشخص الذي سيكون قريبًا قائدًا لقبائل إسرائيل. كان لدى يهوذا، بموافقتِه على قبول كل اللوم إذا حَدَث شيء ما لبنيامين، الكثير ليخسَره. كان من الممكن أن يُحرَم هو أيضًا من الميراث. كان يعقوب يعرِف ذلك أيضًا، ولا بد أنه شَعر أنه إذا كان من المُمكن أن ينجو بنيامين من الموت، فكان ذلك على يَد يهوذا.
وأخيرًا ابنٌ يُمكِن الوثوق به…وَثِق يعقوب بيهوذا لتحقيق هذه المهمَّة. ولكن، أكثر من ذلك، كان يعقوب يَثِق بالله. إذا كان عليه أن يفقِد جميع أبنائه، فليكُن. فالأمْر بيَد الله.
وهكذا، أخذوا المال الذي وَجَد طريقه بشكلٍ غامض إلى أكياس الحبوب عند عودَتهم من الرحلة الأولى، ومَبلغًا مساويًا لشراء حبوب جديدة، وعاد الإخوة مع بنيامين إلى مصر.
رأى يوسف أنّ إخوته قد عادوا ومَعَهم بنيامين. فأمَرَ بإعداد مأدبة طعام وتقديمِها في الظهيرة. وأمَر عبيده أن يُدخِلوا إخوته إلى بيتِه من أجل هذه المأدبة، لكن الإخوة ظَنوّا أنّ هذا فَخ ّوأنهم سيُؤخَذون كعبيد (كما دبّروا أن يحدُث ليوسف)، عقابًا لهم على حادثة المال الذي وُجِد في حقائبهم. يؤكِّد لَهم مدير منزل يوسف أنّ الأمْر ليس كذلك.
يَصِل يوسف إلى منزِله، ويقدِّم له الإخوة الهدايا التي أحضَروها مَعهم من كنعان. يَستفسِر يوسف عن حال أبيهم، أبيه، فيُخبرونَه أنه بخير، ثم يَلمَح يوسف بنيامين. فيَغمُره التأثُّر، ويترُكُهم لبضع لحظات ليبكي دموعًا حلوة ومُرّة على انفراد.
بعد أن استَجمع يوسف قِواه، عاد يوسف وقدَّم الوجبة. ما نراه في هذه الآيات هو وَصْف دقيق تمامًا للطريقة التي كانت تُقدَّم بها وجبَة من هذا النوع في مصر: يوسف يأكُل وحده. يأكُل الأخوة معًا كمجموعة، ويأكُل خدَم البيت المصري بشكل مُنفصِل عن الأخوة وعن يوسف. من العادات المصرية الموثقة جيدًا أنّ رَب البيت لا يأكُل أبدًا مع الخدَم. ولكن، لماذا لم يأكُل الخدم مع الإخوة الإسرائيليين؟ حسنًا، لقد قيل لنا في الآية اثنان وثلاثين أنّ "المصريين كانوا يكرَهون تناوُل الطعام مع
العبريين".
هذا أمرٌ مثير للاهتمام. نرى العبريين، كما كانت العديد من القبائل والجَماعات الشعبية السامية في هذا العَصر، رُعاة غنم. كان المصريون ينظُرون إلى الرعاة على أنّهم الطَبقة الدُنيا من الناس، ومجرَّد وجودهم كان مُهينًا. لم يكُن المصري ليأكُل مع راعٍ أبدًا. كان المصريون يقدِّرون الماشية وليس الأغنام. لذا، الثور يُمثِّل الإله الأعلى عند المصريين، إيزيس. لكن سرعان ما سيظهَر جانب آخر من هذا التقليد المصري: كان بنو إسرائيل سيُعطَون أرض جوشن ليعيشوا فيها. أرض سيكونون فيها بعيدين عن الجزء الأكبر من المُجتمع المصري، ليَرعوا أغنامهم ولا يُسيئوا إلى مشاعر المصريين.
وبينما كان الإخوة يَجلِسون لتناوُل الطعام، وقد أُجلِس كل واحد منهم بعناية بمساعدة خادم في مكان مُخصّص لكل من الإخوة، ذُهلِوا عندما رأوا أنهم قد رُتِّبوا من الأكبر إلى الأصغر، بترتيب وِلادتهم ترتيبًا مثاليًا. ماذا يُمكن أن يعني هذا؟ بل أكثر من ذلك، أُعطي بنيامين حِصّة من الطعام خمسة أضعاف حصّة الآخرين. لقد ناقَش العلَماء معنى هذا الإنعام بالطعام على بنيامين خمسة أضعاف، والإجماع العام هو أنّ الأمير أو الحاكم في مصر كان يُعطى خمسة أضعاف ما يُعطى للآخرين كعلامة على المَلَكية. وبالطبع، يُطرَح أيضًا السؤال التالي، ما الذي كان يوسف يُشير إليه؟ رأيي الشخصي هو أنّ يوسف كان يُكرِّم الأخ الذي كان أكثر قُربًا منه، أخاه من أم واحدة والشخص الذي كان بريئًا تمامًا من بين أحد عشر أخ، من أي فِعل خاطئ فيما يتعلَّق بِبَيع يوسف ليُصبح عبدًا. ولكن، يجب أن نَتذكّر أيضاً أنّ أوّل مَلِك لإسرائيل سيكون من نَسْل بنيامين.