سِفْر التثنية
الدرس الثامن – الإصحاح السادس
على الرُّغم من أننا تحدَّثنا عنه قليلاً، إلا أنّ التَركيز في سِفْر التثنية الإصحاح السادِس هو على الآيات أربعَة إلى تسعة وخاصةً الآيتين الرابعة والخامِسة. تُعتبَر الآيتان أربعة وخمسة ذات أهمية بالنِّسبة إلى عقيدة عِبادة يَهوَه، لدرَجة أنَّها أُعْطيت عنوانًا مُنفصلاً هو الشماع.
وللشماع اسم آخر أيضًا معناه اسْمَع يا إسرائيل. إنّ الشماع أساسية جدًا في التوراة بأكملِها (وللمبادئ المَسيحية) لدرَجةٍ أننا سنتفحَّصُها عن كثَب اليَوم. وبالنسبة لأولئك الذين يَقولون (خطأً) أنّ يسوع المسيح جاء لينأى بنفسِه وأتباعِه عن التَوراة (على الرُّغم من تصريحِه القَوي في إنجيل متّى الفَصْل خمسة من الآية سبعة عشرة إلى تسعة عشرة بِعَكْس ذلك)، اِسْتَمِعوا إلى هذا المَقطع من إنجيل مُرْقُس (المَوجود أيضًا في الأناجيل الأخرى)، نُسْخَة تَرجمةِ الكتاب المقدَّس النموذجية الأميركية الجديدة، مُرقُس الإصحاح الثاني عشر من الآية ثمانية وعشرين إلى ثلاثين، وجاء واحِد من الكَتَبة وسَمِعهم يتجادلون، وإذ عَرَفوا أنه أجابَهم جيدًا، سألوه: ’أيّ الوَصايا هي أولى من الجَميع‘؟ تسعة وعشرون أَجَابَ يَسُوعُ: ”أَمَّا الأُولَى فَهِيَ: اسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ! الرَّبُّ إِلهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ، ثلاثون وَأَنْتَ تُحِبُّ الرَّبَّ إِلَهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ وَمِنْ كُلِّ قُوَّتِكَ“.
والآن، استَمِع إلى سِفْر التثنية الإصحاح ستّة من الآية أربَعة إلى ستّة، نُسخة ترجمة الكتاب المقدَّس النَموذجية الأميركية" اِسْمَعي يَا إِسْرَائِيلُ! الرَّبُّ إِلَهُنَا الرَّبُّ وَاحِدٌ. خمسة” وَتُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ وَكُلِّ نَفْسِكَ وَكُلِّ قُدْرَتِكَ.
كان يسوع بالطبع يَقتبِس من الشماع؛ كان يَقتبِس من التوراة. لكن عند الاستِماع إلى مُعظم قادة الكنيسة الإنجيلية اليوم قد يَظنّ المَرء أنّ كل ما فعَلَه يسوع كان يُشبه قَول: ”ارْموا كل ما عرفتُموه من قَبل، سأعطيكُم شرائع وأوامِر جديدة تمامًا تَحِلُّ مَحَلّ كلّ ما سَبَق“. لاحِظ أيضًا أنّ يَسوع لا يُسقِط كَلِمة ”إسرائيل“ من هذا البَيان، ولا يَستبدِلُها بكَلِمة ”الكَنيسة“. يَخطُر لي أنّنا عادةً عندما نُسأل عن الوصيّة الأعظَم، نَكون قد تَدرَّبنا جيدًا بما يَكفي لنعرِفَها؛ لذلك نُجيب على الفور بـ ”أحبوا الرَب بكل قلبِكُم وعقلِكُم وقوّتِكُم“. بما أننا نَقتبِس من المَسيح، فلماذا نُخطئ الاقتباس منه عَمْدًا؟ لماذا نَبدأ الاقتباس في مُنتصف العبارة؟ لماذا نُسْقِط ببساطة عبارة ”اسمعي يا إسرائيل، الرَب إلهُنا، الرَب واحِد“ التي تَسبِقها؟ لذلك، أيُّها المسيحيون الأمميّون، إذا كنا سَنقول أنّ هناك وصايا خاصّة بإسرائيل، وأنَّها مُنْفَصِلة عن الوصايا الّتي هي ”للكَنيسة“، فإنّ الأمانة الفِكرية تَفرِض علينا، إلى جانِب التخلُّص من الوصايا العشر (التي أُعْطيت لإسرائيل كجُزء من الناموس)، أن نُزيل أيضًا وصيَّة التوراة هذه من يَسوع بأن نُحِبَّ الله كإله إسرائيل.
حتّى لا يُساء فَهمي: أنا أصرِّح بشكل قاطِع أنه لا توجد وصايا وأناجيل مُنْفَصِلة لإسرائيل مُقابِل الكنيسة وأنّ الوصايا العَشر والشِماع هي بالطبع للكَنيسة كما هي لإسرائيل. أنا أقول أيضًا أنه من المُفجِع والمُثير للغَضَب أنّ المَسيحية المؤسَّسية اختارَت لقرون عديدة أن تُعلِن زورًا إلغاء التوراة، زاعِمةً أنّ ديانة يَسوع التي أسَّسها يَسوع ستَحُلّْ مَحلَّها وهي ديانة جديدة تمامًا بعيدًا عن العَقيدة العِبرانية؛ ديانة من الأُمَم ومن أجْل الأُمم. لقد تمّ اقتيادُنا إلى طريق مُعوَجّ (وقَبِلْنا بسهولة)؛ وثَمَرة هذا القُبول هي سَنّ سِلسلة كامِلة من العقائد الزائفة التي أدَّت إلى الحروب الصَليبية، ومَحاكم التفتيش، وإعادة تأسيس الإنسانية العِلمانية والهولوكوست. والآن في عَصرِنا هذا أصبحَت كنيستُنا الحَبيبة عاجِزة أنانيَّة، ومُوجَّهة نحو الرَخاء والازدهار في الوقت الذي تَتجاهل فيه تأثير النَهضة النَبَويّة لإسرائيل وعودة القُدْس إلى سيطرة العبرانيين. لقد رأينا المؤسسة المسيحية تتحرَّك نحو خِدمة خارجيّة، وإنجيل مُخفَّف ولكن مُتسامِح، ويسوع مُنْفَصِل عن الآب، وإنكار للخطيئة والشَر، واحتفال بالأعياد الوثنية بينما تَتجاهَل تلك التي أعلَنَها الرَب نفسُه مُقدَّسة.
يجب أن تكون الشماع نداء تنبيه لشعب الله؛ كل شعب الله.
دعونا نقرأ معًا هذا الإصحاح السادس من سِفْر التَثنية العميق الغامِض الذي يَكشِف جوهَر التوراة، أي الشماع، الذي يُشغِّل كَلِمة الله تمامًا كما يُشغِّل جوهَر كوكبِنا العَمليّات الحَيويَّة على الأرض.
اقرأ الإصحاح ستّة من سِفْر التثنية بكاملِه
خلال الإصحاحات واحِد إلى خمسة، كان موسى يُركِّز على هذه النقطة: إعادة صياغَة (وربما إعادة تَقديم) الشرائع والأوامِر التي أعطاها يَهوَهْ لإسرائيل مِن جَبَل سيناء. لا يُمكنني أن أؤكِّد بما فيه الكفاية أنّ سَبب تَكرار موسى لهذه الشرائع الّتي سَبَق أن أُعْطيت لإسرائيل قَبل حوالي أربعين سنة، هو لتقديمِها لجيل جديد كامِل من العبرانيين الّذين من الواضِح أنَّهم لم يَتعلَّموا هذه الشرائع من آبائهم، الجيل الأول من الخروج (جميعهُم ماتوا ودُفِنوا في رِمال الصحراء). وعَلاوةً على ذلك، فهو يُعطيها للمَجموعة الّتي على وشك أن تفعَل ما رَفَضَ آباؤها أن يَفعلوه: غَزو أرض كنعان. هذا الشَعب لا يَفصِلُه سوى أيّام عن الدخول في مَعركة طويلة الأمَد (حَرْب مُقدَّسة) ستُكلِّف الآلاف حياتَهُم.
يؤكِّد موسى على أنّ ما هو على وَشَك أن يُعلِّمهم إياه هو بالضبط ما أوصاه الرَب أن يُعطيه لإسرائيل في المَرَّة الأولى: لا أكثَر ولا أقَلّ، وأنّ هذه الشرائع والأحكام يَجب أن تُتبَع بدقَّة عند دخول الشَعب أرض الميعاد. يَجِب على إسرائيل اتِّباع التوراة لكي تَسير الأمور على ما يُرام وتَتحقَّق كلّ البَرَكات التي أعدَّها الرَب لها. يَجمَع النِصف الأخير من الآية الثالثة فِكْرَتَين معًا: أولاً، إنّ ما أُعِدَّ له في كنِعان هو أكثر بكثير من مُجرَّد البَقاء، بل هو الحياة الوَفيرة.
وهذا هو مَعنى عبارة ”أرض تَفيض لَبَناً وعَسَلاً“. ثانيًا، يتمّ تَذكير إسرائيل بأنّ ما سيَحدُث (ميراث أرض خاصَّةٍ بها) هو تَحقيق الوَعْد (العهد الإبراهيمي) الذي أُعْطي ”لآبائها“، أي إبراهيم وإسحاق ويَعقوب. لاحِظ أنّ العَهد الذي أُقيم على جَبَل سيناء قَبل أربعين سَنَة لم يُلْغِ ويَحُلّ مَحَلّ العهد الذي أُعْطي لإبراهيم قَبل ستمئة سنة قَبل خروج إسرائيل من مصر. بل إنّ عَهد موسى هذا هو لغَرَض آخر؛ إنه لوَضْع قواعد ومعايير لعَيش الحياة المُخلَّصة التي سَيتمتَّع بها داخل الأرض التي وُعِد بها في العهد الأول.
إذًا، هنا، واقفًا على سُفوح موآب، يُعطي موسى النُسخة الأصلية للعِظة على الجَبَل التي سيَقتدي بها المسيح بعد ألف وثلاثمئة سنة. وهكذا فإنّ موسى لن يُكرِّر الناموس ببساطة، بل سيَشرَحُه ويَفعَل ما بوسعِه لتَوضيح المبادئ الأساسية (الروح) الكامِنة وراء هذه الوصايا الخالِدة.
لا، لم أكُن أتحدَّث بِشَكل مَجازي أو أقوم بالمُبالغة عندما قارنْتُ عِظَة يسوع على الجَبَل بما نقرأه في سِفْر التثنية؛ إنّ أوجُه التشابُه شديدة للغاية، ومع مرور الوقت أعتقِد أنَّك سترى أنّ هذا هو الحال. كان يَسوع يَعتمِد فقط على النَمَط الّذي وَضَعه سَلَفُه موسى. لاحِظوا أنّ موسى قد بدأ بالفِعل (قَبل ذلك بإصحاح واحد، في الإصحاح الخامس) في إعادة سَرْد الناموس؛ في الواقع بدأ خِطابه للشعب بالفِعل في الإصحاح الأول. لذا، فإنَّه قد بدأ بالفِعل في إعادة سَرْد الناموس، وتوقَّف ليَضَع المبدأ الشامِل الذي يَرتكِز حولَه كل الناموس؛ وهذا المَبدأ هو الذي يَحمِل عنوان ”شِماع“. لماذا يَفعل هذا؟ لماذا يتوقَّف ويَضَع هذا المَبدأ الروحي في هذه المَرحَلة؟ إذا كان هذا هو الشيء الذي يَستِند إليه كل ما عَلَّمَه موسى بالفِعل، فلماذا يُخبِر عنه في مُنتصف خطبتِه بدلاً من البداية؟ الأمْر بسيط: لم يُرِد موسى أن يرى الشَعب النواميس التي سَبَق أن أعطاها، كمُجرَّد مجموعة من الأحكام القانونية الصارِمة التي يَضَعها فوق رؤوسِهم حاكِمٌ سماوي قويّ. في ذلك العَصر كان لكُلّ مُجتمَع شريعة قانونية كان المَلِك يفرضُها على أنها غَير قابلة للتَغيير، وفي نفْس الوقت لم يكُن لدى هؤلاء الملوك أي التِزام أو اهتِمام بأن يَشرحوا للشَعب تَعليلات القوانين لأنّ تلك القوانين في كثير من الأحيان لم تكُن إلاّ لخِدمة مَصالح الملوك. والمَعنى الضِمْني هُوَ: إليكم القوانين، لستمُ بحاجة إلى مَعرفة سَببِها، فقط نفِّذوها وإلّا. ولكن لم يكُن هذا هو الحال مع توراة الرَب.
بما أنّ موسى كان قد أعاد النَظَر في العَديد من الشرائع (الوَصايا العَشر) مع الجيل الجديد وكان هناك العَديد من الأحكام الأخرى التي كانت ستَليها، يقول الله (من خلال موسى): ”انتظِروا لَحظَة يا شعبي لأنّي لا أريد أن تَفهموا الفِكرة الخاطئة. هذا هو السياق الذي يَجِب أن تفهَموا وتُنَفِّذوا من خلالِه جميع شرائعي“. ثم يَمضي موسى ليَشرَح (في ما سُمّي في النهاية بالشَريعة) أنّ مَحبّة إسرائيل للرَب هي السِياق الضروري للعَمَل بالشريعة. إنّ الشريعة هي التي تُحدِّد شروط العلاقة بين يَهوَه وإسرائيل. لم يكُن مَنبَع طاعة إسرائيل ليَهوَه من ناموس عَقيم لا يَرحَم، بل كان من مُنطلَق الاستجابةِ والمَحبَّة. اسمعوا هذا الآن: يقول الرَب إنّ الطاعة له هي استِجابة المَحبَّة كما يُعرِّفها هو. أن تُحبَّه هو أن تكون مُطيعًا له.
تَقول الكنيسة الغربيَّة اليوم (بشكل عام) إنّ الطاعة والمَحَبَّة (بشكلٍ عام) هما أمران مُختلفان تمامًا، ورُبَّما يَكونان مُتعارضَين إلى حدٍ ما. في الواقِع عادةً ما يُفهَم ضِمنيًا أنّ المَحَبَّة أفضَل من الطاعة فيما يتعلَّق بعَلاقتِنا مع يَهوَه. ولكن في الكتاب المقدَّس يقول الله أنّ أحدَهُما دليل على الآخر. يَقول الله إنّ الطاعة له هي فِعل مَحَبَّتِه، وأنّ مَحبَّتَه تَتَجسَّد في طاعتِنا له؛ ومَهما حاولنا، لا يُمكننا أن نَفصِل الطاعة عن المَحَبَّة فيما يَتعلَّق بولائنا لله وعلاقتِنا به.
فأنت ترى أنّه منذ العَصر اليوناني الروماني لم يَعُد مَفهومُ المَحبَّة في المقام الأول وجاءت مَكانَه العاطفة في المقام الأول، الإحساس بالدفء الداخِلي. لم يكُن العبرانيون في الكتاب المقدَّس ليَعرفوا أبدًا وِجهة النَظَر العِلمانية والمَسيحية الحديثة للحُبّ على أنه شعور دافئ من الشَفَقة أو المَوَدَّة تجاه الآخر. لقد فَتَحتُ قاموس ويبستر العالَم الجديد وفي التَعريفات التِسعة المُختلفة التي قَدَّمها لكَلِمَة حُب، كل واحدة تتحدَّث عن العاطفة والعاطفة فقَط. إليك بعَض الأمثلة: المَشاعر الرَقيقة، والمَودَّة، والعاطِفة الجِنسية، والشُعور بالأُخُوَّة، والإعجاب الشديد. ولكن بالنسبة للعبراني (وبالنسبة للرَب) فإنّ المَحبَّة تَتطلَّب استجابة خارِجية، عَمَلاً، وإلاّ لا تكون مَحبَّة.
يقول الرَب: ”لا تقولوا إنَّكم تُحبوّنَني ثم تَلتفِتون وتُنكرون وَصاياي؛ لأني أقول إنْ أنكَرتمُ وصاياي فأنتم لا تُحبّونَني“.
دعونا نَنتقِل لِلَحظة إلى المَوعِظة المألوفة (للمَسيحيين) على الجَبَل في العَهد الجديد. يبدأ إنجيل متّى خمسة هذا التَعليم المِحوَري الذي هو جَوهَر الإيمان المَسيحي بتَوضيح أنّ يسوع يَقِف على قِمّة تَل حيث يبدأ بالتعليم. وأُولى تعاليمِه المَجيدة هي ما أطلَقَ عليه العالَم المسيحي اسم العِظات. يَفتتِح يسوع هذه العِظَة بِسَرْد العديد من العبارات الإيجابية للحقائق السَماوية الموجودة أصلاً ولكن (في الآونة الأخيرة) تَقمعُها القيادة الدينيَّة. لقد ضاعَت هذه الحقائق السَماوية في مُستنقَع أحكام البَشَر وفَلسفاتِهم، لدرَجة أنها أصبَحت في طَيّ النِسيان. يقول يسوع: طوبى للمَساكين بالرّوح، لأنَّهم سيَرَون مَلَكوت السماوات؛ طوبى للحَزانى لأنهم سيُعزَّون. يَسرِد عدَّة حقائق أخرى من هذه الحقائق السَماوية الحاسِمة ثم يقول: ”طوبى لكُم عندما يَرميكُم الناس بالشتائم ويَضطّهدونكم ويقولون عليكم كل أنواع الشُرور من أجلي“.
ثم يَنتقِل ويقول للشَعب ”أنتم مِلْح الأرض، أنتم نور للعالَم“. ثم فجأةً، وبينما هو مُتعمِّق في عِظَتِه، يَتوقَّف يسوع الوَسيط، فجأة ليَقوم بمُداخلة مُهِمَّة تمامًا كما أوْقَف موسى عِظتَه للحظات ليَتأكَّد من أنّ مُستمعيه فَهِموا ما كان يقولُه عن السياق الصحيح، ويَقول يسوع بشكل أساسي: ”اِنْتَظِروا لَحْظةً لأنني لا أريدُكم أن تَفهموا الفِكرة الخاطئة. هذا هو السياق الذي يجب أن تَفهموا فيه ما أُعَلِّمُكُم إيّاه“. ثمّ يقول يسوع (ابتداءً من الآية السابعة عشرة): الكتاب المقدَّس اليهودي متّى الإصحاح خمسة الآية السابعة عشرة "لا تَظنّوا أني جئت لألغي التوراة أو الأنبياء. مَا جِئْتُ لأَنْ أُبْطِلَ بَلْ لأُكَمِّلَ. ثمانية عشرة بَلَى! أَنَا أَقُولُ لَكُمْ: إِلَى أَنْ تَزُولَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ لاَ يَزُولُ مِنَ التَّوْرَاةِ حَرْفٌ وَاحِدٌ . تسعة عشرة فَمَنْ عَصَى أَصْغَرَ هَذِهِ التَّوْرَاةِ وَعَصَى وَعَلَّمَ الآخَرِينَ أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ يُدْعَى الأَصْغَرَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ. وَأَمَّا مَنْ يُطِيعُهَا وَيُعَلِّمُ هَكَذَا يُدْعَى عَظِيمًا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ.
بَعد أن أدْلى المسيح بهذا البيان المُثير والشامِل حتّى لا يَنصرِف كل سامِع مُعتقدًا أنّه قد ألقى شريعة موسى بعيدًا من أجْل شريعة جديدة، أو أنه نَفى صِلة موسى، يُواصِل المسيح خُطبتَه. وفي إنجيل مَتّى الإصحاح خمسة الآية واحد وعشرين يبدأ قائلاً: ”لقد سَمعتُم أنّ القُدماء كانوا يقولون….“، ثم يَسرِد عدَّة مبادئ أساسية للشريعة. يَشرَح يسوع مَعنى كلٍّ من هذه التَعاليم. لماذا؟
لأنه مِثلما حَلَّت الطقوس الجَسَدية الطائشة مَحَلّ الطاعة المملوءة بالروح والقائمة على مَحبَّة الله، هكذا أفْسَدَت فلسفات البَشر مَعنى وصايا الله وغرَضِها تمامًا.
ولن تَعرفوا ذلك: على الرُّغم من تَحذير مَسيحِنا، فكما نَسيَ مُجتمع بني إسرائيل ببطء مَحَبَّتَهُ ليَهوَه، وانقَطَع عن النِعْمَة والرَحمة التي كانت الأساس الحَيوي للناموس، هكذا نَسيَ أتباع يسوع ببطء مَحَبَّتَنا له وقَطعوا الطاعة من عِبادتِنا. لقد فَعَلنا ما قال لنا ألا نَفعلَه. لقد تَبنَّينا السِياق الدقيق لخدمتِه الذي أخبَرَنا ألا نَتبنّاه. مِثلما تَحوَّل الكثير من بني إسرائيل إلى اتِّباع ميكانيكي للشرائع كتَعبير عن الإيمان، كذلك تَحوَّل الكثير من الكنيسة إلى إظهار العواطِف واتِّباع ميكانيكي لليتورجيا الكَنَسية كتعَبير عن الإيمان؛ كِلا الطريقتَين غالبًا ما تَخْلُوَان من العُنصر الوحيد الضَروري الذي يُعطيهما معنى أو أهميَّة: مَحبَّة الرَب كما يتضِّح من طاعتِنا.
يَقول سِفْر التثنية الإصحاح ستّة الآية أربعة: ”اسمعي يا إسرائيل! الرَّبُّ إِلهُنَا، الرَّبُّ إِخْد (الرب واحد)“. في العبرية كَلِمة ”اسمعي“ هي شماع ولا تعني الاستِماع السَلبي مِثل تشغيل قُرص مُدمَج والاستمتاع بالموسيقى بهدوء. كما أنَّها لا تَعني قراءة الأناجيل أو المزامير كمَصدَر للمعلومات أو المَعرِفة، شماع هي تَعليمات للعَمَل وتعني السَمَع والطاعة، الاستِماع إلى تَعليمات الله والعَمَل بها! بعد ذلك يَرِد: ”يَهوَهْ إلهنا، ويَهوَهْ واحد“. هناك بَعض الاختلافات الطفيفة بين حُكماء اليهود حول ما يُفترَض أن تُشير إليه بالضبط عبارة ”يَهوَهْ واحد“.
يَعتقد بعض الحاخامات أنّ هذه العِبارة هي مُجرَّد طريقة أخرى لتَوضيح هذه الفِكرة الثَورّية بأنه لا يوجد في الوجود كلِّه إلاّ إله واحد. ويَعتقد آخرون أنّ هذا يتحدَّث عن وِحدة الله الذاتية، وطبيعَتِهِ الوِحْدانِيَة؛ أي أنّه ليس مِثل الآلهة الأخرى في ذلك العَصر التي كانت تَميل إلى نوع من الانقسام والإرِتباط بمَواقع ومَزارات مُختلفة. كما يَقول آخرون إنّ هذا تَعبير عن العَلاقة الصحيحة بين يَهوَهْ وإسرائيل؛ وأنّ يَهوَهْ هو إله إسرائيل الوَحيد وأنه لا يجِب أن يتطلَّعوا إلى الآخرين. في رأيي، هذا ضُعْف في النِظام الأكاديمي المُسمّى بالنَقد الأدبي الذي يَميل إلى تمزيق كلّ جُمْلة ثمّ تَحديد الطريقة العِلْمية التي يَجِب أن نأخُذها بها. يتمّ اقتِطاع الإيمان والروحانية وبما أنّ الكتاب المقدَّس هو وثيقة مَبنيَّة على الإيمان والروحانية يُمكِن أن يَضيع المَغزى.
عندما أنظُر إلى الكَلِمات، ”يَهوَه إلوهينو يَهوَه إيخاد“، (يَهوَه إلهُنا، يَهوَه واحِد) أرى مَبدأ إلهيًّا هائلاً يُعبِّر عن حقيقة روحية عالَمية؛ لذلك يَتطلَّب الأمْر عدَّة تَعابير بَشَرِيَّة لتَقريب جوهَرِه. وبعِبارة أخرى، لو سافَرْنا مَثَلاً إلى كوكَب غَريب في مَجرَّة بعيدة وسألَنا السكّان هناك من أين جِئنا لقُلْنا لهُم: ”إنه مكان يُسمّى الأرض“. قد يقولون بعد ذلك، ما هي الأرض؟ سنُجيبهم بقائمة كامِلة من صِفات الأرض: إنها مُستديرة، وتدور حول نَجم، ومُناخُها مُعتدِل، ومُعظمُها مائي ولكن هناك أيضًا الكثير من اليابِسة، وهكذا دَوالَيك. الآن لو كان من نتحدَّث مَعه ناقِداً أدَبياً فَضائياً لرُبَّما أجابَنا: ”حسناً، أيُّها هي؟ هل هي مُستديرة، أم أنّ بها الكثير من الماء، أم أنّ مُناخها مُعتدِل؟ هذه هي الطريقة التي يَعمَل بها النُقّاد الأدبيّون نوعاً ما؛ لا يوجَد مَجال كبير للمَعاني المُعقَّدة ومُتعدِّدة الأوجُه لأي عبارة مُعيَّنة. بالطبع سيكون ردُّنا على ناقِدنا الأدبي الفضائي على الأرجَح أنّ كوكَبنا هو كلُّ هذه الأشياء وأكثَر، لكن لا يبدو أنّ هُناك أي شيء في ذلك العالَم الفضائي يمكن استخدامُه كتَوضيح. حسناً، هذه هي طبيعة” يَهوَهْ إلوهينو، يَهوَهْ إيكاد“؛ لتَحليل مَعنى ذلك وكلِّ الخَصائص التي يَنطوي علَيها، لا يُمكن تَبسيطها بتَشكيل ذلك في عَقيدة إحدى الخصائص أو الأخرى، ولا يوجَد في عالمِنا المادي المَحدود رُباعي الأبعاد، أو عقلِنا البشري المَحدود، ما يُمكن استخدامُه لتَوضيح الحقيقة الروحية الواسِعة التي يُجسِّدها هذا المبدأ.
على أقَلّ تقدير، يُمكننا أن نَقول أنّ هذا يَعني أنّ الرَب الإله هو الإله الوحيد المَوجود، وهو وحدُه موضوع العِبادة المَسموح بها للمؤمنين به، وهو موحَّد تمامًا حيث لا توجد ”أجزاء“ مُختلفة منه يمكن تَقسيمها إلى ”أشخاص“، وهو إلهنا بمَعنى أنه أقام عَلاقة مُتبادلَة بينه وبين كل من يَخضَع له في المَحَبَّة. عَلاوةً على ذلك نحن نعرِف اسمَه الرَسمي، يَهوَه، ونَعرِف من الكَلِمَتَين الأولتَين من شماع يا إسرائيل (اسمع يا إسرائيل) أنّ هذا البَيان عن كينونتِه وطبيعتِه كان مُوجَّهًا إلى إسرائيل ومن حيث التَعريف كلّ من يَنضَمّ إلى إسرائيل. هناك المَزيد في هذه العبارة القَصيرة وقد تأمَّل الحاخامات في هذا الأمر بإسهاب كَبير؛ وبعيدًا عما استنتَجَه الحاخامات هناك المَزيد في هذه الكَلِمات الأربَع البسيطة التي لن تَسْتَطيع عقولُنا البَشرية المَحدودة أن تَستوعِبَها حول هذا المَبدأ الكَوني.
ولكن لاحِظوا أيضًا شيئًا لا يُمكِن أن يكون مُصادَفة: هذا الاعتراف المَركزي للإيمان يَتكوَّن من أربَع كَلِمات فقط، تمامًا كما يَتكوَّن اسمُ يَهوَهْ من أربَعة أحرُف فقط.
دعونا نَنتقِل ونَنظُر إلى بداية الجزء الثاني من الشماع وهو ”تُحِبُّ الرَّبَّ إِلَهَكَ“. أو بشكل أكثر حَرْفيّة، ”تُحِبُّونَ إِلَهَكُمْ “. هنا سياق مُمتاز لفَحْص كَلِمةِ مَحَبَّة مرَّة أخرى لأنه إذا قرَّر المَرء أنّ المَحَبَّة هي في المَقام الأول عاطِفة أو حالة ذِهنية فإننا نَجِد أنّ الرَب هنا يأمُر بعاطِفة (يجب أن تُحبّوا). هنا تكمُن المُشكلة: من بين كل الأشياء التي يُمكِن للإنسان أن يَفعلها، فإنّ استحْضار العاطِفة من دون الشعور بها فِعليًا، هي مُهِمَّة صَعبة في أحسن الأحوال (ربما باستثناء المُمثّلين السينمائيين وأولئك مُفعمي الأحاسيس بَيننا). يمكنُنا في كثير من الأحيان تَقليد المَشاعر ظاهِريًا؛ حتّى أننا قد نُدمِّع دموعًا حقيقية. ولكن هل يُمكِن لأي إنسان أن يأمُر أي إنسان بأن يكون لديه عاطِفة؟
هل يُمكِن لرَجُل أن يأمُر رَجُلاً آخر بأن يَشعُرَ بطريقةٍ مُعيَّنة؟ ماذا نَفعل عندما نَكون حَزينين بشكلٍ فَظيع ثم يَحِثُّنا صديق عزيز أو قسيّس على ”أن نفرَح“؟ لنَفترِض أنّ الزوج لا يريد أن يَتعامَل مع حالة زوجتِه المُكتئبة ويَقترِح عليها أن ”تَبْتَهِج“. على الرُّغم من أنّها قد تَرْغَب في ذلك (حتّى لو كان ذلك فقط لإرضاء زوجِها) فإنها عادةً لا تَستطيع، لكن البَعض يَتَفَنَّن في التَظاهُر بذلك. المَقصود هو، حظًا مُوفَّقًا في استحضار العاطِفة (صدِّقوني، لقد حاوَلتْ!). إذًا هل يأمُرُنا الله بأن تكون لدينا عاطِفة مُحِبَّة تِجاهَه؟
الآن عندما يتعلَّق الأمر بفِعْل جَسدي فهذه مَسألة مُختلِفة. يمكِن أن يأمُرَنا الله أن نَتجنَّب عبادة آلهة أخرى، ونحن بالتأكيد لدينا القُدرة على طاعة ذلك. يَستطيع الله أن يأمُرنا بالاحتفال بعيدٍ تَوراتي مادّي، ونحن نَستطيع أن نفعَل ذلك جَسَديًا. في الواقِع يُمكننا أن نَختلف داخليًا مع الرَب في هذه الأمور، ويمكننا حتّى أن نَشْعُر بعدم المُبالاة تِجاهها، ومع ذلك نُطيع الوَصايا. لكن مَحبَّة الله الحقيقية تتضمَّن أكثر من العَمَل الجسدي. المَحَبَّة هي حالة ذِهنية بالإضافة إلى كونِها استجابة جَسَدية. في الواقِع أوَدّ أن أقول إنّ نوع المَحَبَّة الإلهية يتضمَّن أيضًا حالة روحية. هل هناك عُنصر عاطفي في المَحَبَّة؟ بالتأكيد يوجَد. ومع ذلك، أوَدُّ أن أقول إنّ عاطفة الحُبّ يجب أن تَكون النتيجة النهائية لجَميع العوامِل الأخرى الموجودة أساسًا. ولكن من بين جَميع المُكوِّنات التي تتألَّف منها المَحَبَّة الكتابية الإلهية، فإنّ العاطفَة ليست بالتأكيد العُنصر الرئيسي أو المُوجِّه.
ولأنّه لا يوجَد جانِب أهَمّ من علاقَتنا بالخالِق أكثر أهمية من مَحبَّتنا له، اسمحوا لي أن أُقدِّم طريقة أخرى للنَظَر إلى هذه الوَصية بمَحَبَّة الله: المَحَبَّة هي نَقيض الكراهية. كثيرًا ما يُقال لنا في الكتاب المقدَّس أن نَكْرَه الأشياء التي يَكْرَهُها الله. مرَّة أخرى، وبسبب عَقليَّتِنا الغربيّة، نرى الكراهية بنفْس الطريقة التي نرى بها الحُبّ…..كما هو الحال في المَقام الأول مع عواطِفنا. في الواقع كما عَلَّم الحاخام باروخ في دراستِه لحزقيال، فإنّ المَعنى الكتابي للكراهية هو أقرَب إلى ما هو في اللغة الإنجليزية كَلِمة ”رَفْض“؛ أو في جوهَر أسمَى (خاصةً فيما يتعلَّق بعلاقتِنا مع الله)، إظهار عدَم الإخلاص. أنْ نَكْرَه الله هو أن نرفُض الله وبالتالي أن نَكون غير مُخلِصين له. أن نكرَه توراتَه، هو أن نرفُض توراتَه، وبالتالي أن نَكون غَير مُخلِصين لشرائعه وأوامره. وعلى العَكْس من ذلك أن تُحبَّ الله هو أن تَقبَلَه وتُظهِر الإخلاص له. وبالطَبع هناك ما هو أكثَر من مُجرَّد القُبول أو إظهار الولاء الظاهِري (الخضوع التامّ هو أسمَى جوهَر هذا القُبول). ومع ذلك، ألَيْسَت الدَعوة الشائعة للمُبشِّر هي حثْ غير المؤمِن الذي يَحتاج إلى ”قُبول“ يسوع المسيح؟ وبالمَعنى العام يُعرِّف المسيحيون ما يَعنيه ”قُبول“ يسوع. يُعرِّف الكتاب المقدَّس هذا النوع من القُبول بأنه الخُضوع والطاعة، وهو دليل ”المَحَبَّة“ التي يبحثُ عنها الرَب.
في النُصف الأخير من الآية خمسة، يُطلَب منّا أن نُجَسِّد مَحَبَّة يسوع هذه ”بكلّ قلبِنا ونفسِنا وقُدرتِنا“. في العِبرية الكَلِمات هي ليفاف ومعناه القَلْب، ونفيش مَعناها الروح، وبيخول مودخا ومَعناها القوَّة. القَلْب هو تَرجمة صحيحة تمامًا لكَلِمة ” ليفاف“؛ فهي تُشير بالفِعل إلى العُضو الموجود داخل صدورِنا الذي يَضُخّ الدَم. ومع ذلك فإنّ مُشكلِة فَهْم معنى العبرانيين لمُصطلح ليفاف كما يَنطبِق على الوظيفة التي يؤديّها القَلْب فيما وراء ضَخّ الدَم فقط، هي مُشكلة حاسِمة بالنسبة لقِراءتنا لكَلِمة الله بأكملِها. أي عندما يُطلَب منّا أن نَحزَن في قلوبنا، أو ألّا يَكون في قلوبِنا كراهية لأخينا، ماذا يَعني ذلك؟ في الثقافة الغربيّة (وفي الكَنيسة) نتحدَّث عن القَلْب باعتبارِه مَقَرّ عواطِفنا وأخلاقِنا، وحتّى شخصيَّتِنا. هذا ليس ما كان يَعتقدُه العبرانيون أو يَقصدونَه عندما تَحدَّثوا بكَلِمة ”القَلْب“، وبالتالي يجب أن نتعلَّم أن نُفكِّر فيه كما كانوا يَقصدونَه.
لقد عرَّف العبرانيون القَلْب على أنه مَقَرّ العَقل والفِكر الواعي؛ مكان ذاكرتِنا وحيث يتمّ التَفكير في الأفعال واتِّخاذ القَرارات. دعني أؤكِّد لك أن ما قُلتُه لك للتو ليس تَخمينًا. سيُوافِق أي باحثٍ مُختَصّ في الكتاب المقدَّس على ذلك لأنه حقيقة تاريخيّة مُوثَّقة جيدًا. في تاريخ مُتأخِّر جدًا (من أواخر العَصر الهِلنستي إلى العُصور الوسطى) تَمّ فَهْم وظيفة الدِماغ أخيرًا على أنه المَكان الذي يَستقِرّ فيه العَقْل وجميع عمليّاتِ التَفكير. وهكذا نُقِلت وظيفة العاطِفة والرَغبة إلى القَلْب لتَتماشى مع الفِكر اليوناني في هذا الشأن. لكنّ إعادة تَحديد وظيفة القَلْب هذه لم تَحدُث إلا بَعدَ قرون من إغلاق الكتاب المقدَّس واكتمالِه.
النُقطة المُهِمَّة هي أنه في حين أنّ تَرجمة كَلِمة "ليف" أو ليفاف إلى ”القَلْب“ (العُضو) صَحيحة من الناحية الفَنِيّة، فإنّ الوَظيفة مُغايرة لما تَعلَّمناه. سواء كان ذلك في العَهد القديم أو العَهد الجديد، عندما نرى كَلِمة ”قلب“ في الكتاب المقدَّس يَجب علينا ببساطة أن نَحذِفَها ونَضَع كَلِمة ”دماغ“ أو ”عَقْل“.
حسنًا. إذًا لقد ناقَشْنا المَقصود بـ ”بكلّ قَلبِنا“ وتَعلَّمنا أنه في اللغة الإنجليزية الحَديثة يجب أن نأخُذها لتَعني ”بكل ذِهننا“. الجزء الثاني من هذه العبارة (بكُلّ روحنا) ليس واضحًا جدًا لأن الكَلِمة العبرية المُستخدَمة، ”نيفش“، أكثر صعوبة بعض الشيء، ولذلك تُرجِمت بعِدَّة طُرُق. غالبًا ما تُترجم إلى ”الروح“، وفي أحيان أُخرى تُترجَم إلى ”الكينونة“ (حتّى أنني رأيتُها مَكتوبة على أنها ”الجَوهر“). ليس هناك تَرجمة أفضَل من الأخرى. تكمُن المُشكلة في الطبيعة الضَبابية لكَلِمة ”نيفش“. تَحمِل كَلِمة نفيش في طيّاتِها مجموعة من المَعاني وأعتقِد أنه (كما ناقشْنا عبارة ”يَهوَه إلهنا، يَهوَه واحد“) ليس أنّ هناك تَعريفًا واحدًا بارِزًا أو مِثاليًا؛ بل أنّ كلّ ما أنا على وَشَك أن أخبركُم به (وأكثر) يدخُل في تَركيبها. يقول الحاخامات أنّ النفيش تَدلّ على الحياة، جوهَر حياتِنا، النفس، نَفخَة الحياة الغامِضة التي نَفَخَها الله في مَخلوقاته ليَجعلَها حيَّة، الذات، تلك الصِفة الفريدة التي تَجعلُنا في آن واحد بَشرًا وفي الوقت نفسِه على صورة الله، الروح، وفي بعض الأحيان يُمكن أن تُشير حتّى إلى أعمَق أفكارِنا.
الجِزء الأخير من هذه العبارة، الذي يُترجَم عادةً بعبارة ”بكلّ قوَّتِك“، هو ” بخُلّ ميوديخا“. هذه عبارة نادِرة في الكتاب المقدَّس، لكنّ الحاخامات يقولون إنّها تُساوي تقريبًا العبارة الأكثر شيوعًا ” ب-ميعود-ميعود“، والتي تَعني ”جدًا، جدًا جدًا“. والفِكرة هي أنَّنا يجب أن نَبذِل جُهدًا كبيرًا جدًا ونُفكِّر تفكيرًا واعِيًا عند مَحَبَّة الله (مرَّة أخرى نَستغني عن الفِكرة الحديثة التي تَقول بأنّ المَحَبَّة هي في المَقام الأول ”شُعور“ مع أنّ الشعور هو بالتأكيد عُنصر مَشروع، وإن كان أقَلّ، من عناصر المَحَبَّة)، وأنّ الرَب يَتوقَّع منّا أنّ نُحِبَّه.
ومن المُثير للاهتمام أنّ سِفْر التثنية هو أوَّل سِفْر في التوراة يتحدَّث بالفِعل عن مَحبَّة الله. تَحدثَّت الأسفار السابقة بعبارات الرَهبة والخُشوع والخوف. اسمَحوا لي أن أكون واضِحًا: هذا لا يَعني بأي حال من الأحوال أنّ موسى يَقول الآن ”انسوا الرَهبة والخُشوع ولا تَخافوا الله بعد الآن؛ بل استبدِلوا ذلك بالمَحَبَّة“. بل الفِكرة بالأحرى هي أنّ الرَهبة والخُشوع يجب أن يَكونا في سِياق المَحَبَّة؛ أو كما هو الحال مع التَعريف الكِتابي الصحيح لمَاهية المَحَبَّة، يَجب أن تكون الرَهبة والخُشوع في سِياق القبول والوَلاء والخُضوع للرَب.
والآن، استعِدّوا للطَعْن في عقيدة أخرى قديمة العَهد؛ تقول الآية السادسة ما يلي:
ترجمة الكتاب المقدَّس الأميركية النموذجية الجديدة، سِفْر التثنية الإصحاح ستّة والآية ستّة "وَهَذِهِ الْكَلِمَاتُ الَّتِي أَنَا أُوصِيكُمْ بِهَا الْيَوْمَ تَكُونُ عَلَى قُلُوبِكُمْ؛
الكَلِمات التي يوصي بها الله هي مُجرَّد طريقة أخرى لنَصّ ”شرائعه“، أليس كذلك؟ وأين تَقول هذه الآية إنّ شرائع الله هذه يجِب أن تكون مَكتوبة؟ على قُلوبِنا! يا إلهي؛ هل ستُكتَب شرائع موسى على قلوب بني إسرائيل؟ لقد ظَننت أنّ التوراة كانت ستُكتَب على قلوبِنا فقط في العَهد الجديد. أليس هذا ما تعلَّمْناه دائمًا؟ أليس من البَديهيّات المَسيحية الأساسية أنّ السَبب في وجوب تَركِنا للتوراة هو أنّها كانت شريعة قانونية ميكانيكيّة، مَكتوبة على ألواح حَجَرية صَلْبة وبارِدة، وأنها كانت وسيلة للعَمَل (وبالتالي استِحقاق) طريقِنا إلى السماء؟ وأنّنا في العَهد الجديد نَنتقِل إلى نظام مُختلِف من القواعِد والأوامِر الجديدة من المَسيح، وهي مَنقوشة على قلوبِنا (وليس على حَجَر)، وبالنِعْمَة من خلال الإيمان يُمكِن أن تُفتَح لنا السماء. مُدهِشة هي الحقيقة التي تَظهَر عندما نقرأ التوراة بالفِعل وليس مُجرَّد افتراضات حولَها.
ولكن تمامًا كما هو الحال مع الكتاب المقدَّس، أُدْرِكُ أن ما يَعنيه هذا في اللغة الإنجليزية الحَديثة هو أنّ التوراة، وَصايا الله (وصايا يسوع) يَجِب أن تَكون في أذهانِنا. لذلك يُمكِن مَعرفتُها والتأمُّل فيها والتَفكير فيها والعَمَل بها بدلاً من مُجرَّد ”الشعور“ بها. إنّ قوانين الولايات المتَّحدة والأُمَم الأخرى مُنفصِلة عنّا؛ فهي تَتغيَّر، ويُضاف إليها المَزيد، وتُسقَط بَعضُها تمامًا. وَظيفتُنا (في المُجتمَع العِلماني) هي فقط تَتْبَعُها. في الواقِع نحن نَستعين بمَصادر خارجيّة لحَلّ هذه المُشكلة ، للمُحامين في معظم الأحيان. لكنّ جَوهَر فِكرة أنّ شرائع الله يجب أن تَكون مَكتوبة على قلوبِنا (عقولِنا) هو أنّ شرائعه يجِب أن تُصبِح جِزءًا من كيَانِنا وأنْسجَتِنا، وليست شيئًا مُنفَصِلاً عنّا.
دعونا نَتوقَّف هنا اليوم.