23rd of Iyyar, 5785 | כ״ג בְּאִיָיר תשפ״ה

QR Code
Download App
iOS & Android
Home » العربية » Old Testament » التثنية » سِفْر التثنية الدرس السادس – تكملة الإصحاح الرابع
سِفْر التثنية الدرس السادس – تكملة الإصحاح الرابع

سِفْر التثنية الدرس السادس – تكملة الإصحاح الرابع

Download Transcript

سِفْر التثنية

الدرس السادس – تكملة الإصحاح الرابع

دَعونا نُواصل دراستنا للإصْحاح الرابع من سِفْر التثنية؛ وهو اخْتِياري الشَخْصي الذي رُبَّما يكون أحد أكثرَ عشر إصْحاحات أهَمِّية ومَرْكَزيَّة في الكِتاب المُقَدَّس كلّه لِفَهم إلهِ بني إسرائيل وصِفاتِه وشَخْصيَّتِه، والمبادئ التي تَحْكُم كل شرائعه، وما يَحْدُث لمن يطيعونه وما يَحْدُث لمن يتَمَرَّدون، وما يَجِب أن تكون عليه الاسْتِجابة المُناسِبة للمُتَعَبِّد للخلاص والنَّجاة التي أعْطانا إيّاهما.

لقد أَمْضَيْتُ عِدَّة دقائق في الأسبوع الماضي لأُذَكِّرَكُم لماذا يَجِب علينا في يَومِنا هذا وعَصْرِنا هذا تَحْديدًا أن نَسْتَعيد كَلِمَة الله وأن نَكُفَّ عن الاعْتِماد على عَقائد وتقاليد البَشَر البالِية والمُضَلِّلة التي (رُبَّما كانت تَخْدُم غَرَضًا مُفيدًا لِفَتْرةٍ من تاريخ الخلاص) نَبَذَت التَّوراة وبني إسرائيل لصالِح الفَلْسفات الفِكْريّة وتفوق الأُمَميّين. إحدى أكثر الأمور المُزْعِجة التي علّمها المَسيحيّون منذ زَمَن قُسْطَنْطين (القَرن الرابع الميلادي) هو أن صِفَة الله التي يَعْتَمِد عليها المَسيحيّون أكثر من غَيرها (نِعْمَته) لم تَظْهر إلّا في وقتِ مَجيء يسوع المسيح ولم تَكُن مَوْجودة قبل ذلك الوقت؛ وبالتالي فإن النِّعْمة هي ظاهِرة أو تَدْبير العهد الجديد فقط.

ويَظهر هذا الاعتقاد في المقام الأول في بديهيَّة الكنيسة الرّاسِخة التي تقول إن الخِيار الأعْظَم المَطْروح أمام كل إنسان فيما يَتَعَلَّق بِعِلاقَتِنا مع الرَّب هو الإخْتِيار بين "ناموسه ونِعْمته". أن اخْتِيار أحَد الطَّريقَيْن صواب والآخر خطأ؛ وأن النّاموس والنِّعْمة مُتَنافِيان ولا علاقة بينهما. وأن اخْتِيار النّاموس هو إنكار للمسيح واختيار النِّعْمة هو قُبوله. بِطَبيعة الحال، بما أن الوثَنِيّين أو المُلْحِدين ليس لديهم أي مَفْهوم لأي من هَذَين المُصْطَلحَيْن (النّاموس والنِّعْمة) فإن هذا التَّحَدّي مُتَجَذِّر في المقام الأول كإنْكار لدِيانة الشَّعب اليهودي. أو بالأحرى، على المؤمِنين الأُمَميّين أن يَخْتاروا بين طريق اليهود (النّاموس) وطريق المسيح (النِّعْمة).

ولكن هل هذا حقًا هو الإخْتِيار الذي وُضِعَ أمامَنا؟ هل النّاموس هو عَدو النِّعْمة، والنِّعْمة خَصْم النّاموس؟ لقد صادَفْتُ بيانًا واضِحًا رائعًا يَضَع ثُنائيَّة النّاموس مقابل النِّعْمة في مَنْظورِها الصَّحيح. وما يَجْعَلُها أكثر إثارة للإهْتِمام هو مَصْدرها: لقد أخَذْت هذه العِبارة من أَحَد أكْثَر تَفاسير الكِتاب المُقَدَّس تَقَدُّمِيَّة وحَداثة وعِلْماً وإعْجاباً، وهو التَّفْسير العالَمي للكِتاب المُقَدَّس. هذا العَمَل مُتَعَدِّد المُجَلَّدات موصى به من قِبَل مُعظَم المعاهِد اللّاهوتيَّة الإنْجيليّة وكُلِّيّات الكِتاب المُقَدَّس المُعاصِرة باعْتِباره رُبَّما أفْضَل وأحْدَث تَفْسيرٍ للكِتاب المُقَدَّس مَوجود اليوم، حيث تمَّ نَشْرُه لأوّل مَرّة منذ حوالي عشر سنوات فقط.

إن دوين كريستِنْسِن، مُحَرِّر مُجَلَّد تَفْسير الكِتاب المُقَدَّس العالَمي عن سِفْر التثنية، ليس شَخْصا مُحافِظًا أو مُدافِعًا عن بني إسرائيل والشَّعب اليهودي، فهو ليس من ذَوي المُيول المُحافِظة؛ فقد تَلَقّى تَدْريبه من مَعْهَد ماساتشوسِتْس للتِكُنولوجيا وهارفارد، لِذا لا أَعْتَقِد أنه يَجِب أن أقول أكثر من ذلك. يَتَحَدَّث البروفِسور كريستِنْسِن عن حقيقة لا يُمْكِن إنْكارها أظْهَرَها لهُ الرَّب عن العهد القديم ويُريد أن يَسْتَفيد منها المَسيحيّون الآخرون وطُلّاب الكِتاب المُقَدَّس الجادُّون؛ ذَكَرَ:

" إن الرّأي الشّائع الذي يَرْبُط النّاموس بالعهد القديم والإنجيل بالعهد الجديد لن يَصْمُد بالتّأكيد أمام قِراءة مُتَأَنِّية لسِفْر التثنية كما بَيَّن ج. برُوْليك. لِفَهْم سِفْر التثنية، يَجِب على المَرْء أن يَعْتَرف بِنِعْمة الله السّابقة على الخُطاة؛ أي أسْبَقِيّة الإنجيل (النِّعْمة) على النّاموس في العهد القديم وكذلك في العهد الجديد. أي على الرّغم من أن سِفْر التثنية يؤكِّد على أن طاعة تَوراة الله ضَروريّة، إلا أنه يؤكِّد بِقُوّةٍ أكبر على أن هذه الطّاعة تَعْتَمِد على نِعْمة الله……"

دَعْني أقولُها بِطَريقة أُخْرى: نِعْمَة الله مُتَضَمِّنة في شريعَته، والنّاموس يَدُلّ على نِعْمَته. ناموسُه ونِعْمَته مُتَلازِمان، وروح الطّاعة الصَّحيحة للنّاموس وتَنْفيذ النّاموس مُتَوَقِّفان على النِّعْمة. إن الحديث عن أحَدِهِما دون الآخر يُشْبِه الحديث عن يسوع والرّوح القُدُس على أنهما مُتَلازِمان. أن يسوع أو الرّوح القُدُس يُمْكِن أن يكونا مَوجودَين ويَعْملان واحد بِدون الآخر، أو أن عَمَليَّة الفِداء هي عَمَل حَصْري لأحَدهما دون الآخر، هو أمْر لا يُمْكِن تَصَوُّره ويَتَحَدّى كلّْ عَقيدة الكِتاب المُقَدَّس حول ماهِيّة الله. أَزِل عَمَل الرّوح القُدُس ولا يُمْكِن أن يكون لنا خَلاص. أزِل عَمَل يسوع ولا يُمْكِن أن يكون لنا خَلاص. يُمْكِننا بالتّأكيد أن نَتَحَدَّث عن يسوع والرّوح القُدُس بِشَكْل مُنْفَصِل؛ ويُمْكِننا بالتّأكيد أن نَدْرُسَهُما ونُناقِشْهُما بِشَكْل مُنْفَصِل وحتى أن نُطَبِّق مُصْطَلَحات وخَصائص مُخْتَلفة، ولكن من النّاحية العَمَليّة لا يُمْكِن فَصْلهما في الواقع. يَقول الله، مِرارًا وتِكْرارًا، إنه "إيشاد"، واحد، وِحْدة إلَهيَّة لا يُمْكِن فَصْلُها. نحن نَخْطو على أرض خَطِرة عندما تَسْعى عَقائدنا إلى التّأكيد على أحَدهما دون الآخر أو حتى تَفْضيل أحَدهما على الآخر، بل ونَذْهب إلى حدّ القول بأن أحَدهما يُمْكِن أن يكون مَوجودًا ويَعْمل والآخر يَتَوَقَّف عن الوجود أو لم يَعُد له وظيفة ذات معنى.

هكذا هو الحال مع النّاموس والنِّعْمة. يُمْكِننا بالتّأكيد، إلى دَرَجة ما، أن نُحَدِّد الأغْراض والسِّمات الفَريدة الى حَدٍّ ما المُتَأصِّلة في كلٍّ مِنهما، ولكن لا يُمْكِننا الإخْتِيار بين النّاموس والنِّعْمة (أو النّاموس والإنْجيل) كما تُطالِبنا الكَنيسة بِشَكْلٍ شِبْه عام، أكثر مِمّا يُمْكِننا الإخْتِيار بين الرّوح القُدُس ويَسوع المسيح. كنت أنا والحاخام باروخ نُناقِش هذا المَوضوع بإسْهاب منذ بعض الوقت، وقُلْت له أنه خَطَر لي أن الكنيسة السّائدة أصْبَحَت راغِبةً في القيام بذلك بالضَّبط، لِدَرَجة أن قرار المؤمِن أو المؤمِنة بِبَساطة أنه سيكون مُطيعًا لأوامِر الله أو حتى أن يأخُذَها على مَحْمَل الجَدّ، يُطلق عليه الآن "النّاموسِيّة" أو الرَّغْبة في تَبَنّي اليَهودِيّة.

لذلك نَرْجو أن نأخُذ مُلاحظات اليوم الافْتِتاحيّة كتَذْكير بِسِياق سِفْر التثنية (وكل التَّوراة في هذا الشّأن) بأن النِّعْمة هي مِحْوَره، وأن النِّعْمة لا غِنى عنها في كل مَراحل تفاعُل الله مع البَشَر في أي عَصْر، وأن الشّرائع الوارِدة فيه مُرْتَبِطة عُضْوِيّاً بِنِعْمة الله ومَبْنِيّة عليها وتَعْتَمِد عليها. في اقْتِصاد الله، بِدون النِّعْمة لا يُمْكِن أن يكون هناك ناموس.

دَعونا نُعيد قِراءة بعض من هذا الإصْحاح الرائع الذي هو ضَروري جدًا لِفَهْمنا للكَلِمَة بِشَكْل عام.

أَعِد قراءة سِفْر التثنية أربعة على واحد وعشرين حتى النِّهاية

نَنْتَقِل إلى سِفْر التثنية أربعة على واحد وعشرين: بعد خِطابه اللّاذِع ضدّ عِبادة الأَوْثان يَسْتَطْرِد موسى قليلاً ومرّة أخرى يَحْزَن على حقيقة أنه حتى كَوَسيط الرَّب (أحد الوُسَطاء الوحيدين اللّذين سيُوجدان على الإطلاق)، لن يَتَمَتَّع بثِمار أرض الميعاد (كما سيَتَمَتَّع جُمْهوره الشّاب، الجيل الثاني من الخُروج) بِسَبَب تَصَرُّفات بني إسرائيل التي دَفَعَتْهم إلى سُلوكِه المُتَهَوِّر. لذلك، يقول موسى، انْتَبِهوا لما يَحْدُث لي (أي مَنِع موسى من الدُّخول إلى أرض الميعاد) واحْرِصوا على أن تَطيعوا بِدِقَّة كل عُنْصُرٍ من عناصِر العهد الذي قَطَعَه الرَّب مع بني إسرائيل حتى لا يَحْدُث لكم ذلك. وهذا لأنه بما أن الرَّب الإلَه نار آكِلة فلا يُمْكِن لأي شيء أو أي شَخْص أن يَصْمُد أمام دَيْنونَته على المَعاصي، والرَّب لا يَحْتَرِم الأشخاص، لذا فإن وَضْعَك الاجْتِماعي والاقْتِصادي أو السِّياسي لن يُساعِدك (حتى موسى ليس مَعْفِيًّا عندما يَتَعَلَّق الأمر بالتَّعَدّي على يَهْوَهْ).

بما أن عِبادة الأَوْثان لا تزال هي الأساس والأهَمّ كسَبَب لكَلِمات موسى التَّحْذيريّة للشَّعْب في هذا الإصْحاح، فهو يقول أن نَحْذر من مُخالفة هذه الوَصِيَّة ضدّ كل أشكال عِبادة الأَوْثان وبالتالي نَهلَك نتيجةً لذلك. لاحِظوا أن الهلاك لا يعني، "الهلاك التام" في الإسْتِخدام الحالي؛ بل يعني في الواقع أكثر "التَّدمير" أو "الهلاك الشَّديد والمؤلِم والإضْمِحْلال". لاحِظوا الآن شيئًا مُثيرًا للإهْتِمام ويَنْطَوي على مَبْدأ لم نَرَه مُستَخْدَما بهذه الطَّريقة حتى الآن: في سِفْر اللّاويّين كان شَرطًا إلَهيًا أن أي مُحاكمة قَضائية تَنْطَوي على أمْر قد يؤدّي إلى عُقوبة الإعدام يَجِب أن تَسْتَنِد إلى شهادة شاهِدَيْن على الأقل. وبِطبيعة الحال، كانت مِثل هذه الجَّرائم تُعتبر دائمًا أولًا وقبل كل شيء أعمال عُصْيان لله، وكانت تَشْمُل أسْوَأ الجَرائم مثل القَتل والزِّنا وعِبادة الأَوْثان.

أَعْلَم أن الكثير مِنكم من هواة النُبوءات، لِذا إليكُم خَبَرًا قد يُثير اهْتِمامكم. على الرّغم من أننا لن نخوض اليوم في مبدأ "الشّاهِدَين" عبر الكِتاب المُقَدَّس ونُناقِشه بالتفصيل َغْم أنه مُثير للإهْتِمام)، إلا أنَّني أُريدُكم أن تُدْرِكوا أن الشّاهِدَين الغامِضَيْن اللّذين سيَظْهَران خلال زَمَن الضِّيقة في أورَشَليم (شاهِدَي الرَّب اللّذَين سَيَقْتِلْهُما المسيح الدَّجال ويَتْرُك جِثَّتَيْهما مَطْروحَتَين في شوارع أورَشليم ليَراهُما كل العالَم) ما هُما إلا امْتِداد للشَّرْط الذي وَضَعَه الرَّب بأنه يَجِب أن يكون هناك شاهِدان على الأقَلّ للحُكْم على الإنسان بالهَلاك (عقوبة المَوت). هنا في سِفْر التثنية يدعو موسى الشّاهِدَين على بني إسرائيل لِيَكونا السَّماوات والأرض. يقول موسى أنه يَدْعو السَّماوات والأرض باعْتِبارهما الشّاهِدَين المَطْلوبَين ضُدّ بني إسرائيل إذا ارْتَكَبوا عِبادة الأَوْثان. كانت شريعة الشّاهِدَين هذه ضَرورة قانونية مُطْلَقة في نِظام العدالة الرُّبّانيّة، بل إن الله فَرَضَها على نَفْسِه (ولهذا السَّبَب في آخر الزّمان لا بدّ من شاهِدَين لأنه يُحْكَم على جميع الكُفّار بالمَوت الجَسَدي والأبَدي). بما أن عِقاب عِبادة الأَوْثان هو المَوت، إذا كان على بني إسرائيل أن يَهْلكوا (كانوا سيُعاقَبوا بِشَكْلٍ كارِثي) كأُمَّة نتيجةً لعِبادة الأَوْثان التي قاموا بها، فمَن الذي يُمْكِن أن يَبقى ليكون الشّاهِدَين المؤهَّلين للشَّهادة ضِدَّهم؟ يقول موسى إنها ستكون السَّماوات والأرض لأنَّهما خاضِعتان لله كما يَخْضع البَشَر.

إذَن، يقول موسى، ليس الأمْر "إذا" بل "متى" تَبْدأون (بني إسرائيل) مَرَّة أخرى في عِبادة الأَوْثان فإن كل الوعود الرائعة بالأرض والأمن والسّلام سوف تَنْقَلِب. في الآية سبعة وعشرين يقول موسى أنَّ يَهْوَهْ سيُخْرِج بني إسرائيل من أرضِه ويُشَتِّتهم في أُمَم أخرى (جميع الأُمَم الوَثَنيَّة بالطَّبع) وفي حين أن بني إسرائيل لن يُقتَلوا جميعًا في تلك الأُمَم، إلّا أن الكثيرين سيُقْتَلون، والكثيرين سيَذوبون ويَفْقِدون هَوِيَّتهم العِبْرِيَّة. في الواقع يقول موسى أن القليل منهم فقط سيَنْجو من السَّبي. ثم يقول شيئًا أَعْتَقِد أنه قد أُسيءَ فَهْمه الى حَدٍّ ما؛ يقول موسى أن بني إسرائيل في تلك الأُمَم الوَثَنيَّة سيَعْبدون آلِهة من صُنْع البَشَر، آلِهة زائفة.

بِشَكْل عام يُفترَض أن هذه الآية تعني أن العِبرانيّين سيُضْطَهَدون ويُجْبَرون على السُّجود لآلِهة تلك الأُمَم. من الناحية التاريخيّة، حَدَثَ ذلك بالفعل في حالات مَعْزولة (كما هو مُوَضَّح في قِصَّة شدرخ وميشح وعبدَنَغو والأتون النّاري عندما تم نَفي اليهود إلى بابل)؛ ولكن في الغالِبِيَّة العُظْمى من الحالات لم يُجْبَر العبرانيّون على عِبادة آلِهة أخرى لأن ذلك بِبَساطة لم يَكُن تَفْكير أو أساليب الغُزاة الشَّرْقيِّين القُدَماء في العَصْر التَّوْراتي.

بل إن النَّتيجة هي أن بني إسرائيل سيَفْعَلون ما يَفْعَله كل الناس: سوف يَنْدَمِجون بِدَرَجة أو بأُخرى في أي ثقافة يتمّ نَفْيُهم إليها؛ أو، وبِنَفس القَدَر من الشّؤم، لن تَسْمح لهم حكومة تلك الثقافة بالاسْتِمْرار عَلانيَّة في مُمارساتهم الخاصة بالعبادة الراسخة ليَهْوَهْ (كما هو مُوَضَّح في التَّوراة) لذلك سوف يَتنازلون حتى لا يُلاحظهم أحد. أو رُبَّما أسْوَأ من ذلك، لأنهم بِحِكْم التَّعْريف لن يَعودوا مُقيمين على أرض الله المُقَدَّسة (إسرائيل)، ولأن الهَيْكل كان المكان الوحيد الذي يُمْكِنهم الذَّهاب إليه للتَضْحِية والتَّكْفير عن خَطاياهم ضدّ الله، فإن حالتهم الرّوحية خارج الأرض كانت كما لو كانوا قد تَدَنَّسوا ولم يَكُن بإمكانِهم التَّطْهير أبدًا. والأسْوَأ من ذلك، بما أنَّهم كانوا مُدَنَّسين ونَجِسين، فهذا يَعْني تِلْقائيًا أنَّهم لم يكونوا قادِرين على التّواصُل مع يَهْوَهْ.

إسْمَحوا لي أن أضَع الرُّعْب من ذلك في مَنْظوره الصَّحيح: سيكون الأمْر كما لو أنَّك كَمَسيحي انْتُزِع خلاصَك منك. لم تَكُن تريد انْتِزاعه، لكنّه انْتُزِع منك على أي حال. لقد احْتَفَظتَ بِذاكرة كاملة له، وسَبَب أهَمِّيّته البالِغة بالنِّسْبة لك، والرَغْبة في الحِفاظ عليه، ولم تَكُن تَنْوي أن تَفْقِده، لكن عواقِب أفْعالك كانت وَخيمة جدًا على الله لِدَرَجة أنه سَلَّمَك لقِوى الشَّر وفَصَل نَفْسَه عنك. هل يُمْكِنك تَخَيُّل شيء كهذا؟ لن نَتَطَرَّق إلى ما إذا كان ذلك مُمْكِنًا على الإطلاق بالنِّسْبة للمؤمِن (وعُمومًا هذا غير مُمْكن، لذا اسْتَرْخِ)، لكن تَخَيَّل فقط لو كان ذلك مُمْكنًا! هذا بِمَثابة ما يَقوله موسى أنه سَيَحْدُث لبني إسرائيل (وقد حَدَثَ بالفِعل) إذا تَمَرَّدوا على الله (وبالمُناسَبَة فإن التَّعَدّي الرَّئيسي لهذا التَّمَرُّد هو ارْتِكاب عِبادة الأصْنام).

في نَدْوَتِي "الجُذور العِبْرِيَّة للمسيحيّة" أُحاوِل أن أَرْبُط الحالة الذِّهْنيّة لليهود في بابل؛ كم كانوا مُدْرِكين لِنَفْيِهم ليس فقط من وَطَنهم يهُوَّذا، بل أيضًا من الله نَفْسه. لقد شَعَروا أن الهواء الذي كانوا يَتَنَفَّسونه كان نَجِسًا؛ والطّعام الذي كانوا يأكُلونه كان نَجِسًا وليس حلالًا؛ وأنهم كانوا يَعيشون في حالة دائمة من النَّجاسة التي لا مَفَرّ منها. لم تَسْتَطِع النِّساء أن تَتَطَهَّرْن بِشَكْل صَحيح وقانوني من الدَّوْرة الشَّهْرية، ولم يَسْتَطِع الرِّجال أن يَتَطَهَّروا بعد العِلاقة الحَميمة مع زَوجاتهم كما كان النّاموس يَتَطَلَّب. لم يَسْتطيعوا أن يُطيعوا الوَصِيَّة بأن يَحِجّوا ثلاث مرات كل عام إلى أورَشليم في الأعياد التي فَرضها الله؛ لم يَسْتطيعوا أن يُنَفِّذوا العِشْر، ولم يَسْتَطِعْ الكَهَنَة أن يُعلّموا أو يؤدّوا طُقوسهم القُرْبانية، لذلك لم يَسْتَطِع اليهود أن يُقَدِّموا ذبيحة تَكْفير عندما أخْطأوا. كانوا في الجَّحيم.

ومع ذلك يقول موسى إن الإنقاذ والاسْتِعادة مُمْكِنان لشعب الله! إنه يقول أنه إذا (على الرّغم من صُعوبة ذلك في ظُروفهم في المَنْفى)، إذا كانوا سيَتوبوا ويَطْلُبوا الله من كل قَلْبهم وروحهمَذَكَّر أن كَلِمَة "قلب" في الكِتاب المُقَدَّس مُرادفة لكَلِمَة "عَقِل" في عَصْرنا الحديث)، فإنه سيَسْمَح لبني إسرائيل بإحياء علاقتهم به. وهذا لأنه (كما يقول في الآية الواحدة والثلاثين) هناك صِفة أخرى لله تَعمل في الطرف الآخر من الميزان من غَضَبِه وهي رأفَته ورَحْمته. إنه يقول أنه على المستوى الجَماعي أو الوطني لن يَدَع بني إسرائيل يُمحون كشعب مُحَدَّد الهَويّة وأنه لن يَنسى وَعْده بالعهد الذي قَطَعَه مع آباء بني إسرائيل. هذا أمْرٌ أساسي جدًا لِفَهمنا الشّامل للكِتاب المُقَدَّس.

أوّلاً، إن قوله "آبائك" ما هو إلّا طريقة أخرى لقول "البَطارِكة"، أي إبراهيم وإسحاق ويعقوب. إذًا هذا يعني أن موسى يقول أن يَهْوَهْ لن يَخْذُل بني إسرائيل ولن يَتْركهم (كشعب) يُبادون بالكامل، وأنه لن يَنسى العهد الإبْراهيمي (العهد الذي قَطَعَه مع إبراهيم، ثم انْتَقل إلى إسحاق، ثم انتقل إلى يعقوب).

ثانيًا، دَعونا نَفْهم معنى مَفْهوم أن الرَّب لن يَنسى العهد الإبْراهيمي: أنْ "ينسى" العهد يعني إلغاءه، إبْطاله. دَعوا هذا يَسْتَغْرِق دقيقة. يقول الرَّب هذا الشيء نفسه مِرارًا وتِكرارًا في العهد القديم: لن يَنْسى أبدًا (لن يُبْطِل أبدًا) عَهده مع إبراهيم. يسوع، بالطبع، يؤيِّد ذلك في إنجيل متّى خمسة على سبعة عشر عندما يقول أنه لم يأتِ ليُبْطِل أو يُلْغي أو "يَنْسى" التَّوراة ومُحتوياتها (حيث تم تأسيس العهود). إسْمَحوا لي أن أقول ذلك مرَّة أخرى: في التَّفكير العِبري أن تَنْسى وَعدًا أو عَهْدًا يعني إلغاءه أو إبْطاله، وأن تَذْكُر وعدًا أو عهدًا يعني أن تُثبِت صِحَّتَه وتؤيِّدَه وتَلْتَزم بِشُروطه.

أما فيما يَتَعَلَّق بالله على وجه الخُصوص، فإن النِّسَيان والتَّذَكُّر لا عِلاقة لهما بِذاكرته أو قُدْرته على التَّذَكُّر.

لقد قُلْت لكَ الآن أن سِفْر التثنية أربعة مُكْتَظّ بالأمور المُهِمَّة، لذا إليك مَفْهوما آخر مُهِمًّا يَمُرّ علينا سريعًا. بينما أنا وأنت نقرأ هذا المَقطع ونقول: "حسنًا، إذًا يقول الله بما أنه رَحيم، فحَيثما كانوا مُشَتَّتين سيَسْمَح لبني إسرائيل أن يَطُوقوا إليه". هذا رائع، لكنّه واضِح ومُباشر جدًا. حَسنًا، إنه مُباشر فقط بالنِّسْبة لنا لأننا نَفهم أنه لا يوجد سوى إلَه واحد فقط. لم يَكُن العبرانيّون في ذلك العصر يؤمِنون بذلك. فكما أننا أنا وأنت لم نَكُن لِنُجادِل أبدًا في أن العالَم يتكَّون من مجموعات مُتَعَدِّدة من البَشَر: السود والسُّمْر والبيض والآسْيَوِيّين وما الى ذلك، كذلك كان العبرانيّون بِبَساطة يَعتبرون أن العالَم الرّوحي يتكوَّن من عدد كبير من الآلِهة، كل منها مُخَصَّص لواحدة أو أُخرى من مُخْتَلف المجموعات والأُمَم الشَّعبية. وبالتالي فإن يَهْوَهْ فقط هو إلَه بني إسرائيل بالذات. إذن في سِفْر التثنية، يبدأ موسى (لأوّل مَرَّة يُمْكِنني أن أكْتَشِفها في التَّوراة) في تَوضيح أن يَهْوَهْ هو الإلَه الوحيد في الوجود، وليس فقط إله بني إسرائيل الوحيد. لذا يُخبِر موسى بني إسرائيل أنه عندما يَتَشَتَّتوا في جميع أنحاء الأرض بِسَبَب عِبادتهم للأصْنام التي سيَرْتَكِبونها، يُمْكِنهم أن يَشْعُروا بالرّاحة في مَعْرفة أن إلَهَهم سيكون أيْنَما كانوا. أنه (على عكس الفِكر العالَمي في ذلك العصر) لن يَضْطَرَّ العبرانيّون إلى تبديل ولائهم لإلَه أو آلِهة أي أمة من الأُمَم التي سيَنْتَهي بهم المَطاف فيها لكي يكون لهم إلَه أو آخر يُساعدهم. إن قوة يَهْوَهْ وحُضوره موجود في كل مكان على هذه الأرض، وهو ليس مُقَيَّدًا بِحُدود إقليميّة، كما هي الآلِهة غير الموجودة لدى الأُمَم الوَثَنيَّة.

انْظُروا: رُبَّما كان هذا أمْرًا صَعبًا على الأرْجح على بني إسرائيل أن يَتَقَبَّلوه على الفَور على أنه حقيقة (لأنه يَتعارض مع ما كان يُعتبَر في ذلك الوقت مَنْطِقًا سليمًا) كما هو صَعْب في البداية على المسيحيّين الجُدُد أن يَقْبَلوا أن صِفة إلَهية لله تُدعى "الرّوح القُدُس" قد سَكَنت فينا بِشَكْل خَفي وغير قابِل للكَشْف. فمن ناحية تُخبرنا السُّلطات الكنَسيّة المَوثوقة أن هذا هو الحال؛ ونحن نأمل أن يكون الأمْر كذلك، ولكن من ناحية أخرى كيف يُمْكِن إثبات مثل هذا الأمْر والتَّحَقُّق منه بِشَكْل مَلْموس؟ الطَّريقة الوحيدة هي من خلال الوقت والخِبْرة مع الرَّب التي تَبْدأ بالإيمان البسيط. لذلك دَعونا نُحاول أن نُدرك المَفْهوم الثَّوري الذي كان موسى يَتَحَدَّث عنه هنا. ولكن دَعونا أيضًا نُحاول أن نَفهم أن جِزءًا آخر ممّا كان يقوله موسى كان نَبَوِيًّا بِشَكْلٍ يُنْذِر بالسّوء: أن بني إسرائيل في المُستقبل سوف يَتمرَّدون على الله عن طريق عِبادة الأَوْثان، وسوف يُطرَدون من الأرض ويَتَشتَّتون، وسوف يُقْتَلون ويتم إخْضاعهم في الأُمَم الوَثَنيَّة ويتم إخْضاعهم للإسْتِعباد، وسوف يتعرَّضون لضُغوط مُجْتمعية لعِبادة آلِهة أُخرى، وسوف يَسْتسْلِم الكثير من بني إسرائيل (إن لم يَكُن مُعْظَمهم) لعُنْصُر أو آخر من هذه العناصِر.

في الحقيقة، يَضع موسى هذا بعِباراتٍ عامة بحيث أن الإدْراك المتأخِّر فقط هو الذي يُمَكِّننا من التَّحَقُّق من صِحَّة الحقيقة فيه: ليس الأمْر أن بني إسرائيل سيَفْعَلون ذلك في مُناسبة واحدة ثم يُجيب الله بالنَّفي، ولكن ما يتم تقديمه لبني إسرائيل هو مبدأ سَيَتكرَّر في دَورات مُنْتَظِمة؛ سوف يَتَمرَّد بنو إسرائيل من خلال عِبادة الأَوْثان والله سوف يَرُدّ في كل مرَّة بنفس الطَّريقة بِنَفْيِهم من وطنهم.

لكن كما هو الحال دائمًا، يَجْلب موسى توازُنًا للمَوقف. فالاسْتِرداد سيَحْدُث كما سيَحْدُث بالتّأكيد تَمرُّد بني إسرائيل. وبِدءًا من الآية الواحدة والثلاثين يقول موسى أن أسباب هذا الأمَل في الاسْتِعادة وإعادة الاتِّصال مع الله الذي يَجِب أن يأمَله بنو إسرائيل دائمًا هو أمْران: الأول) لأن الرَّب أحَبَّ البَطارِكة؛ والثاني) لأن الله رَحيم بِطبيعته. ومن هنا يُلْقي موسى عِظة حول هذا المَفْهوم الجَذْري بأن الرَّب هو الإلَه الوحيد المَوجود.

هذه العِظة التي تُعرِّف بني إسرائيل على التَّوحيد تقول إن الدَّليل على أن هناك إلَهًا واحدًا فقط وأن إسْمه يَهْوَهْ مَوجود في التاريخ نَفْسه. أنّه منذ أن تَشَكَّلَت الأرض وحتى اليَوم، أيُّ مُجْتَمعٍ أو ثقافةٍ حَدَث لها مِثل ما حَدَث لبني إسرائيل؟ أيُّ مُجْتَمَعٍ سَمِع صَوْت الله بالفِعْل؟ ليس فقط بعض الكَهَنَة الذين يَزْعَمون أنهم سَمِعوا إلَه ما، بل بالأحْرى عامّة الناس الذين كانوا شُهود عيان على حُدوث ذلك. متى حَدَث في أي وقت مَضى أن كان هناك إلَه ميَّزَ مَجْموعةً مُخْتارةً من الناس عن العالَم بِشَكْل عام، وأعْطاهُم ناموسًا وعَهْدًا، وأنْزَلَ دَمارًا خارِقًا للطَّبيعة على مُضْطَهِديه (كما حَدَث في مصر)، ثم قادَهم بِواسطة سَحابة مَرْئية وعَمود من نار لم يَكُن مُتاحًا لبني إسرائيل فقط ليَراه الإسْرائيليّون بل لِيَشْهَدُهُ أي شَخْص على مَقْرِبة مِنْهم؟

أيُّها الحُضور، دَعوني أشْرَح لكم شَيْئًا رُبَّما لم تُفَكِّروا فيه: هل تَعْرِفون لماذا يُنظَر إلى بني إسرائيل على أنّهم عَجيبين وغَريبين جِدًا ويمثِّلون تهديدًا منذ لَحْظَة تَقْديسِهم وانْفِصالِهم حتى اليَوْم؟ يُخْبِركم موسى في سِفْر التثنية. هذا لأنَّهم في الواقع مُخْتَلِفون بالفِعْل، وقد رَسَموا طَريقَهم على تاريخٍ فريد تمامًا ومَجموعة من الأخلاق والمبادئ التي تَتعارض مع أي مُجتمع آخر على الإطلاق. فالبَشَر لا يُطيقون التَّنَوُّع والاخْتِلاف على الرّغم من التَّقْديس الأكاديمي السَّخيف والمُخادِع لهم اليوم. في نَفْس الوقت الذي يُنادي فيها العالَم بِقُبول التَّنَوُّع والتَّسامُح والتَّعَدُّدية الثَّقافية تُبْذَل كل الجُهود للضَّغْط على الجميع ليَكونوا مُتَشابِهين. يا إلَهي، كما لم يَحْدُث في أي وقت آخر في التّاريخ هناك جِهِد كبير لِمَحو التَّمْييز بين الذَّكَر والأُنْثى. لِسَحْق الجميع في نفس القالِب، وأن يَتَقَبَّل الجميع نفس الفَلْسَفات والأخْلاق، وأن يكون هناك هَيْئَةً واحِدةً مُهَيْمِنةً على العالَم لتَحْكُم جميع الأُمَم تحت نفس القواعِد والقوانين. وكل من يَرْفُض الخُضوع لهذا يُعْتَبَر مُرْتَدًّا وغير ذَكي وكارِهًا ومُبْغِضًا، وشيئًا يَجِب أن يُداس عليه ويُستأصَل مثل الصَّرْصور غير المَرْغوب فيه.

يَدَّعي موسى أنه لم يَكُن أحد من قَبْل في مَوْقف بني إسرائيل، ولم يَكُن لدى أحَد مثل هذه القوانين والأوامِر المثالِيّة التي يَعيش بها أكثر ممّا قدَّمَه لهم يَهْوَهْ. ما لم يَقُلْهُ حتى الآن هو أن العالَم سَيَكْرَه بني إسرائيل بِسَبَب ذلك، وأن العالَم كما تَقوده مُيوله الشِّرّيرة، بِتَوْجيهٍ من الشَّيْطان، لن يَتَوَقَّف أبَدًا عن مُحاوَلة التَّخَلُّص من هذا الشَّعب الغَريب، بِبَساطة لأنَّهم مُخْتَلفون.

حَسَنًا، اسْتَيْقِظوا أيها المَسيحيّون؛ اليهود ليسوا وَحْدَهُم بعد الآن. لقد أصْبَحْتُم هَدَفًا لإعادة التَّعْليم أو الإبادة. أنتم مُخْتَلِفون لِلْغاية بِحَيث لا يُمْكِنكم العَيْش الى جانِب الآخرين. وكيف اسْتَجابَت الكنيسة لهذا التَّحَدّي؟ بِشَكْلٍ عام بالطَّريقة نَفْسها التي فَعَلَها اليهود في نِهاية المَطاف، أن تَنْدَمِجوا مع العالَم؛ أن تُشْبِهوا العالَم أكثر من العالَم نَفْسه. عَمَلَ اليهود على إلْغاء الفَصْل بَيْنَهم وبين سُكّان هذا الكَوْكَب الآخَرين. فاليهود الذين هاجَروا من أوروبا في وقت مُبْكِر من القرن التاسع عشر لم يَتَخَلّوا عن هَوِيَّتهم اليهوديّة فَحَسْب، بل عن أسْماء عائلاتهم أيضًا حتى يَتَسَنّى لهم التَّلاشي في بَحْر من الأُمَميّين. في عَصْرِنا هذا يَتَخلّى المَسيحيّون في الألْفِيّة الثالِثة، وطوائف بأكْمَلِها بِشَكْل جَماعي، عن عقيدة الولادة العذراوية، وألوهية يسوع، وأي مظهر من مظاهر التميز والاختلاف عن العالم. المَسيحيّون بالملايين يَقْبَلون ويَحْتَفِلون بالمِثْليّة الجِنْسيَّة وزواج المِثْليِّين وحُرِّيَّتنا في اخْتِيار الإجْهاض. المَسيحيّون لا يُريدون تاريخَنا الإيماني الحَقيقي: نَحن نُريد فقط تأمينَنا ضدّ الحريق ومَجْموعَتنا الاجْتِماعيّة من الأصْدِقاء والأنْشِطة التي تَتَمَحْوَر حول مَبْنى كَنيسة. بالطَّبْع أنا أتَحَدَّث بِشَكْل عام وهذه ليْسَت كل الحالات، لكنَّها على الأقل أصْبَحَت القاعِدَة الجديدة.

إن الانْدِفاع إلى التَّخَلّي عن مُخَلِّصنا في أوروبا في ذِرْوَته ولا بدّ أن يَنْتَشِر. وتَقود إنْجلترا الطَّريق حيث تُقَدِّم الآن مَجْموعة شهادات ضدّ المَعْموديّة بِحَيث يُمْكِن للمسيحي أن يَتَخَلّى رَسْميًّاً عن كل ولاء لإلهه، وأن يُزال إسْمه رَسْمِيًّاً من كل نوع من القَوائم التي تُعَرِّف عنه على أنه مَسيحي، ثم يَحْصَل على شهادة كدَليل قانوني على تَخَلّيه عن المسيحيّة. خلال العام الماضي وَحْدَه قام بذلك أكثر من مئة ألف شَخْص.

في الآية تِسعة وثلاثين يُدْلي موسى بالبَيان الحاسِم. "فَاعْلمُوا إِذًا اليَوم وضَعوا في اعْتِباركم أَنَّ يَهْوَهْ هو اللَّهُ الَّذي في السَّماء مِنْ فَوق وَفي الأرْض من تحت، لَا إِلَه غَيْرُه". يُمَثِّل هذا البيان نِقْطة تَحَوُّل في تاريخ البَشَريّة. وبعد ذلك يَقول موسى إن السَّبَب الذي يَجْعلكم تُريدون أن تُؤمِنوا بهذا الأمْر وتَلْتَزِموا به هو أن تَسير الأُمور مَعكم ومع أولادِكم على خَيْر وأن تَبْقوا في رِعاية الله على أرْض الله. إذا لم يَكُن هناك سَبَب آخر يا بَني إسرائيل، أَطيعوا الله من أجْل أسْباب أنانيّة خاصّة بكم لكي تَنْجوا وتَزْدَهِروا. يقول موسى، لا تَفْعَلوا هذا لأن الله يَحْتاج إليه؛ بل لأنَّكم أنتم تَحْتاجون إليه. لا تَفْعَلوا هذا لأن الله يَنْتَفِع؛ بل لأنكم أنتم المُنْتَفِعون.

لم يَتَغَيَّر شيء. الخَلاص ليس الآن ولم يَكُن أبدًا من أجل مَنْفَعَة الله؛ بل من أجْل مَنْفَعَتنا. إن الله لا "يَخْسَر" لأن الكثيرين لا يَسْتَفيدون من عَطِيَّته المَجّانيّة؛ أولئك الذين لا يَرون الحَقّ، هم الذين يَخْسَرون.

يُنهي موسى هذا الجِزء من خِطابه إلى الشَّعب بِتَسْمِيةِ مُدُن المَلجأ (المُدُن المُقَدَّسة) التي ستُقام على الجانِب الشَّرقي من نهر الأردن، في الأراضي التي سَيَسْكُنُها رأوبين وجاد ونِصْف سِبْط من سِبْط مَنَسّى. هذه هي المُدُن التي سيَمْتَلِكها ويُديرها اللّاويّون من أجل الأسْباط الذين اخْتاروا العَيْش والعَمَل في شرق الأردن. تذكّر أن مدينة الملجأ هي المكان الذي يُمْكِن أن يُقيم فيه رَجُل قَتَل رَجُلاً آخر ويكون آمِنًا، ولا يجوز أن يَتَعَرَّض للأذى إذا هَرَب إلى إحدى هذه المُدُن الثلاث. تَذكَّر أيضًا أن هذا القانون لا يَشْمُل جَريمة القَتِل ولا يَجوز للقاتِل أن يُقيم فيها. فالجَريمة الأساسِيّة التي خُصِّصَت لها هذه المدن هي القَتِل الخَطأ، أي قَتِل إنسان عن غير قَصْد أو عن طريق الخَطأ.

لا يَعني هذا أن أولَئك الذين يأتون إلى مَدينة مَلْجأ أنهم مَوجودون هناك لتَجَنُّب المُلاحقة القَضائية، في الواقع سَيَتِمّ إحْضارهم إلى مكان مُعَيَّن للمُحاكمة، وإذا ثَبُتَ أنَّهم غير مُذْنِبين بِجَريمة القَتْل، فيُمْكِنهم العَودة إلى مدينة المَلْجأ والبقاء هناك في أمان. إن سُكّان مدينة الملجأ لَيْسوا في السِّجن، بل هم في الواقع يَتَمَتَّعون بالحِماية. في الواقع هم أحْرار في مُغادرة تلك المُدُن في أي وقت يَخْتارونه. المُشْكِلة هي أنّهم كانوا مَحْمِيّين من الفادي القريب (غوئيل هيدام) الذي كان من واجِبه التَّقْليدي أن يَنْتَقِم من مَوت قَريبِه الذي قَتَلَه ذلك الشَخْص حتى لو كان عن طريق الخَطَأ. ولكن إذا اخْتار القاتِل أن يَعيش خارج حِماية المدينة المُقَدَّسة، فقد يُصبح هدفًا مشروعًا ويُمْكِن للفادي القريب أن يأخُذ ثأرَه من دون عواقِب.

في خِتام الإصْحاح الرّابع سأكْتَفي بِتَعْليق سريع على الآيات من أربعة وأربعين حتى تسعة وأربعين. هناك بعض الخِلاف حول ما إذا كان يَجِب ألّا تكون هذه الآيات بالذّات نِهاية الإصْحاح الرابع، بل يَجِب أن تُدرَج كأول كَلِمات الإصْحاح الخامِس. وإلّا فإنّها تَبْدو زائدة عن الحاجة بِشَكْل فَظيع.

أوَدّ أن أُقَدِّم احْتِمالاً مُخْتَلفاً: كانت الآيات من واحد الى ثلاثة وأربعين بِمَثابة مُقَدَّمة، تمهيد لمّا كان موسى على وَشَك أن يَقولَه بِدْءاً من سِفر التثنية ثم تَسْتَمِّر بِشَكْل أساسي في الإصْحاحات العديدة التالية.

وبِعِبارة أخرى رُبَّما في المُصْطَلَحات الحديثة يُمْكِن أن يكون موسى يقول "والآن، بعد كل ما قَدَّمته لكم للتَّوْ كَخَلْفِيّة، إليكم أخيرًا التَّعْليم الذي أُريدُكم أن تَفْهَموه……" لذا، في الواقع، أنا أتَّفِق مع أولئك الّذين يقولون أنه على الرّغم من أن التَّرْجَمة جَيِّدة تَمامًا، إلّا أنه كان يَنْبَغي أن يَبْدأ الإصْحاح الخامِس في وَقْتٍ سابِق ممّا هو مُحَدَّد حاليًّا بإسْم سِفْر التثنية أربعة على أربعة وأربعين. قبل أن تبدأ بإتِّهامي بِمُحاولة "تغيير الكِتاب المُقَدَّس"، أرْجوك تَذَكَّر فقط أن الكِتاب المُقَدَّس لم يَكُن به علامات إصْحاحات، لا في العهد القديم ولا في العهد الجديد. لقد أضافَها العُلَماء بعد عِدَّة قرون، فقط كوَسيلةٍ للمُساعَدة في دِراسة وتَوصيل المقاطِع المُخْتَلفة. ويَنْطَبِق الشَّيء نَفْسه على ترقيم الآيات، فقد كان نِظامًا اعْتِباطيًّا ولا عَيْب في ذلك لأنه لا يُغَيِّر شيئًا.

ولكن بما أن الفَقَرات والفُصول في الأدَب الحديث لها مَعْنى مُهِمّ (عادةً ما تُشير إلى انْتِهاء مَشْهَدٍ وبِداية مَشْهدٍ جديد أو انْتِهاء نَمَط فِكْري وبِداية آخر جديد) يُمْكِن أن يكون لها تأثير إذا طَبَّقْنا نفس النَّوْع من المعايير الأدَبيّة على الكِتاب المُقَدَّس. ما أقولُه لكم هو: حاوِلوا ألا تَقْرأوا الكِتاب المُقَدَّس وِفقًا للفَقَرات والفُصول كما نقرأ كِتابًا حَديثًا. في كثير من الأحيان، تسْتَمِرّ سِلسِلة مُعَيًّنة من الأفكار بِبَساطة من الآية الأخيرة من أحَد الإصْحاحات إلى الآية الأولى من الإصْحاح التالي؛ ولكن لأنه يَبدو أنه انْقَطَع بِسَبَب فَقَرة جديدة أو رَقم إصْحاح جديد، فإن أذْهاننا تَميل إلى إنهاء سِياق ما قيل حتى تلك النُّقطة ونُحاول خَلْق سياق جديد بالكامِل من الصِّفر. هذا خَطأ كبير وللأسَف هذه هي على الأرْجَح الطّريقة التي يَقْرأ بها الغالِبِيَّة العُظْمى من المؤمِنين وطُلّاب الكِتاب المُقَدَّس ومُعَلِّمو مَدارس الأحَد، وحتى أساتِذة كُلِّية الكِتاب المُقَدَّس في الواقع ويُعَلّمون الكِتاب المُقَدَّس.

سَنَتَناول في الأسبوع القادم الإصْحاح الخامِس من سِفْر التثنية.